• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علاقة التوتر بين المثقف العربي والسلطة

د. محمد الجبر

علاقة التوتر بين المثقف العربي والسلطة

  في الحقيقة أنّه إذا كانت السلطة في المفهوم التقليدي تتمثل في مجموعة من المؤسسات والأجهزة التي تضمن خضوع المواطنين في إطار هذه الدولة أو تلك فإنّ مفهوم السلطة في الفترة الراهنة أصبح يحتل مكانة مميزة وحيّزاً أوسع بكثير من ذاك المفهوم التقليدي أي أنّ السلطة لم تعد محصورة في تلك الؤسسات بل هي امتدت على ساحات واسعة من الأمكنة والأزمنة التي يوجد فيها الإنسان فهي حاضرة في كل مكان، حيث إنها تنتج ذاتها في كل لحظة من حياتنا وتتمثل في كل نقطة وعلاقة، فتواجد السلطة في كل مكان ليس لأنها تشمل كل شيء، بل لأنها تأتي في كل مكان، فالسلطة كما يراها فوكو مثلاً "لا تمارس انطلاقاً من نقاط لا تحصى وهي في لعبة علاقات غير متكافئة ومتحركة. كما أنّ العلاقات السلطوية ليست في موقع خارجي بالنسبة للأحكام السياسية الانساق الاقتصادية، للصلات المعرفية والجنسية، للتأثيرات الدينية، بل هي محاذية لها. إنها النتائج المباشرة للتقسيمات والتفاوتات والاختلاطات والصراعات التي تحصل هنا وهناك، وهي بالتبادل، الشروط الداخلية لهذه التأثيرات".

إذاً إنّ السلطة تقوم في كل شيء من حياتنا، وهي قائمة في كل خطاب تقوم به حتى لو كان يصدر هذا من موقع طازج مجال السلطة الحاكمة فهي بنفسه في تاريخ الإنسان، وإذا ما قام الإنسان وعلى حد قول رولان بارت "بثورة من أجل القضاء عليها سرعان ما تنبثق لتنمو في الحالة الجديدة للأشياء". فكل سلطة تنتج من داخلها نقاط مقاومتها التي تلعب دور الخصم أو الهدف، الركيزة أو السند ونقاط المقاومة هذه موجودة في كل مكان من الشبكات السلطوية والمقاومة لا تأخذ بالضرورة طابع الثورة، بل إنها ترتدي أشكالاً ومضامين مختلفة، وتظهر في حالات وإمكانيات متنوعة. إنّها الوجه الآخر في العلاقات السلطوية التي يتعذر إلغاؤها أو تحجيمها مهما اشتدت الضغوط أو الإكراه أو القمع. فنقاط المقاومة منتشرة بكثافة في كل مكان يتواجه فيه حاكم ومحكوم، رئيس ومرؤوس وإنها تدخل في النسيج الاجتماعي العام تحدث الانقسام والتفتت، تعمل على خلق التكتلات والمجموعات والجمعيات والأحزاب، تسهم في شق الأفراد ثمّ تعيد تجميعهم، "ترسم في أجسادهم وأرواحهم (على حد قول فوكو) بصمات لا تزول" بكلمة أن كل سلطة لها قواعدها ومناهجها، تحكم من أجل امتيازاتها. هذا في جانب منه قد يكون طبيعياً إلا أنّ الشيء غير الطبيعي، كما يقول الفيلسوف الفرنسي ألان "هو الرغبة تكون بطبيعتها قمعية إذا أبعدت عن فلسفتها الاسترشاد بالرؤية العقلانية المتنورة التي تنبع قيمتها من الحرِّية والإنسانية والفردية والديمقراطية". ففي داخل كل سلطة هناك ضدان يتصارعان وإن بنسب متفاوتة عند هذه السلطة أو تلك، الديمقراطي الجماعي والديكتاتوري الفردي. والديكتاتوري وكما يعتبرها البعض من المفكرين ومنهم ديفرجيه "ليست إلا مرضاً من أمراض السلطة وليست ظاهرة طبيعية". من هنا فإن كلامنا لا يعني بالضرورة أن كل سلطة مرادفة للقهر والهيمنة فإذا كان هذا كل معناها وجوهرها، فإن وجودها بالمطلق يمثل معنى سلبياً وليس هذا المقصود وجودها ضروري جدّاً. ذلك لأن وظيفتها الإيجابية تكمن في الدفاع عن الأسرة والمجتمع والنفس ضد نقاط الضعف الخاصة لكل واحدة منها كما أنّ الحالة الفطرية للإنسان ولبناء المجتمعات تفترض وجود السلطة لتولي إدارة الدول وتسيير شؤونها الحياتية بهذا المعنى فقد تكون السلطة النتاج الطبيعي لكل الحالات الهادفة إلى مكافحة الوهن الذي يفرز الفوضى والتشتت وبالتالي فإنّها بكل تجلياتها ورموزها وأمكنتها، توفر للشخصية الاجتماعية والفردية تمسكها الداخلية وتساعدها على تحصين المناعة الضرورية لحماية نفسها مما هو طامع بها وهي شكل من أشكال النفوذ الضرورية المتأتية عن طريق ضبط قوانين ومعتقدات وبنيان المجتمع بشكل عام. المهم التمييز بين السلطة المدعمة بالفكرة الديمقراطية والسلطة المدعمة بالقوة الرادعة. فالسلطة والقوة، كما يشير جاك مارتيان "أمران مختلفان: القوة هي التي بواسطتها تستطيع أن تجبر الآخرين على طاعتك. في حين أنّ السلطة هي ممارسة الحق التي توجه به الآخرين إذاً إن علاقة المثقف بالسلطة محفوفاً بالمخاطر في غالب الأحيان، وخاصة إذا صدر عن تصور يرى أنّ المثقف ينتظم في علاقة توتر مزمنة مع السلطة لأنّ هذا التصور يقوم على ثنائية ضدية طرفها الأوّل السلطة بمفهومها التنفيذي والإجرائي، وطرفها الثاني الذي يتعرض لجملة من الإكراهات التي تهدف إلى غاية أساسية وهي: إقصاء دوره بوصفه مرجعية تسهم في تعميق وعي المجتمع بنفسه في حقبة تاريخية معينة، بيد أن هذا التصور ليس له إلا أهمية تاريخية وصفية غايتها رسم تلك العلاقة المتوترة بين قطبي الثنائية المشار إليها، أما الأهمية المعرفية التي تتجاوز الغاية التاريخية المجردة دون أن تسقطها من اعتبارها، بوصفها محدداً لعلاقة المثقف بالسلطة فإنها تكمن في تسليط الضوء على سلطة المثقف نفسه، سواء كان فرداً أو عنصراً في نخبة ثقافية، وما إن نقول "سلطة المثقف" إلا ونقصد الممارسة الفكرية الاعتبارية والرمزية التي يقوم بها المثقف وهنا يطرح السؤال: هل للمثقف سلطة؟ ما حدودها؟ ما ركائزها؟ وباختصار هل للمثقف العربي في العصر الحديث قوة ممارسة السلطة الفكرية بمظاهره العقلية في أوساط متلقى أفكاره؟ إنّ معالجة هذه القضية التي تعد إحدى الإشكاليات الأساسية في واقعنا الثقافي والسياسي لا تتم في رأينا إلا من خلال معالجة وضع "النخبة الثقافية" يقول بهذا الصدد ناصيف نصار ما يلي: "أنّ السلطة المعرفية تهتم بالعقل كسلطة – أو كعلاقة أمرية أصلية "نتبين ما تنطوي عليه وتبرز القول بالعقل كسلطة.. فهي تفرض طبعاً تصوراً معيناً للعقل كقدرة معرفية وكفعل متحيز من أفعال الفكر". - من المفيد القول إنّ دلالة "النخبة" في العربية تحيل على "خيار القوم" وقد يثير هذا الوصف الآن كثيراً من الخلاف، لأنّه ينطوي في جانب منه على حكم أخلاقي ومن المرجح أن تلك الدلالة اشتقت من واقع حال كان قائماً، وهو الذي جهّز المفردة بالمقاصد التي تنطوي عليها، ومع أنّ الوصف جاء مجرداً دون إشارة إلى طبيعة الممارسة التي كان يتعهدها أولئك الذي يصطلح عليهم بــ"خيار القوم" فإنّ الاحتمال المنطقي يرجع أنهم الذين كانوا يتوفرون على قدرات عقلية وفكرية رجحت أمرهم ومنحتهم ميزة وتفوقاً في الوسط الاجتماعي الذي يعيشون فيه ومن المرجح فضلاً عن ذلك أنّ الدلالة المبهمة للمفردة تتصل بعصر كانت المعارف فيه ما زالت منتظمة كتلة واحدة كانت معارف دينية أو أدبية أو عقلية وإجمالاً فما يمكن أن نخلص إليه ونحن قيلاً عن دلالة النخبة في الثقافة العربية القديمة هو وجود مجموعة مبرزة لها سلطة مباشرة أو غير مباشرة على الآخرين. ومن المؤكد أن يندرج في هذه المجموعة: المحدثون والفقهاء والأدباء والفلاسفة والمفسرون والولاة والأمراء والقادة والوزراء وتورد لنا المصادر القديمة ضروباً من الجدل اللغوي والكلامي والفقهي والفلسفي بين هؤلاء وبحضور الولاة أو الخلفاء أحياناً بمعنى أنهم كانوا أشبه بـ"المرجعيات" المنظمة للممارسة السياسية آنذاك. - إذا نظرنا إلى عناصر تلك "النخبة" نجد أنها تتكون من فئات لها حضور فاعل في الواقع وتلك الفئات هي الأصل التي تطورت عنه النخب فيما بعد فمنهم من يمثل النخبة السياسية (خلفاء والأمراء والولاة والقادة) ومنهم من يمثل النخبة الدينية (المحدثون والفقهاء والمفسرون واللاهوتيون) ومنهم من يمثل النخبة الثقافية بالمعنى المباشر (الأدباء والفلاسفة) ومن الواضح أن تلك النخبة كانت لها سلطاتها وكان بعضها يمارس دوراً له أهمية استثنائية في هذا العصر أو ذاك، ذلك أنّ الأدوار التي يقومون بها كانت تتضافر من أجل تثبيت رؤية معيّنة لها أثر في حياة المجتمع ولعل دور هذه النخب طوال القرون الأربعة الأولى في الحضارة العربية الإسلامية كان من الأهمية بحيث إنّه أفضى إلى إنتاج ثقافة لها أهمية استثنائية في القرون الوسطى ولم تكن الأُمم الأخرى بمنأى عن هذا الأمر فدور الكهنة في الحضارات القديمة معروف ودور النخبة الفكرية في الحضارة الإغريقية لا غبار عليه وكل هذا يمكننا من القول إنّه من الطبيعي أن تتركب البنية الثقافية للمجتمعات من مجموعة من النخب الفاعلة كالنخبة السياسية والنخبة الدينية والنخبة الثقافية الفكرية إلى جوار عامة الناس الذين لم ينخرطوا في وظائف قيادية كائناً ما كانت صفاتها فوجود النخب إذن ضرورة تفرضها طبيعة الحياة وتحولاتها والحاجة إلى التطور والتقدم ذلك أنّ النخبة بفعل بنيتها الفكرية ووظيفتها هي القادرة أكثر من غيرها على استشعار الحاجة وتحديد السبل المناسبة لإشباعها سواء كانت حاجة مادية أو معنوية وكل هذا أيضاً يؤكد أنّ التوازن الاجتماعي يكون متيناً ومكفولاً إذا مارست النخب أدوارها وأدت وظائفها على نحو سليم دون استئثار بدور نخبة على حساب أخرى ذلك أن دور النخب يتعطل إن هي انعزلت عن الوسط الذي تمارس وظيفتها فيه وإذا هي تناحرت فيما بينها وتصور كل منها أنّه يملك الحقيقة المطلقة واليقين النهائي أي إذا حاولت كل نخبة أن تقصي النخب الأخرى وتحتكر لنفسها ممارسة وظيفة معينة فقط. هذا هو باختصار شديد الإطار النظري الذي نتصور أنّه ينبغي أن تترتب بموجبه علاقة النخب بعضها ببعض حفاظاً على التوازن الاجتماعي الذي هو غاية كل مجتمع فهل توفرت إمكانية قيام حوار فعال بين النخب المؤثرة في واقعنا العربي الحديث ومن ثمّ هل كان للنخبة الثقافية دور تنتدب نفسها للقيام به وبعبارة أخرى هل كان للمثقف العربي سلطة – رمزية/ ثقافية – يمارسها في محيطه قبل أن ندير الحديث حول هذا الأمر مباشرة ينبغي علينا التريث قليلاً إزاء ما يمكن الاصطلاح عليه بـ النخبة الثقافية منذ عصر النهضة إلى الآن. يصعب الجزم فيما إذا كان ما يصطلح عليه الآن عصر النهضة العربية تجوزاً قد ظهر بتأثير مجموعة من المثقفين العرب ظهروا في القرن التاسع عشر أم أنّ هؤلاء المثقفين قد ظهروا ومارسوا أنشطتهم الفكرية مع بداية عصر جديد كانت أسباب ظهوره متصلة بعوامل أخرى ومهما يكن الأمر فمن المعروف أن مجموعة من المثقفين العرب الطليعيين الذين ظهروا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين شكلوا على ما بينهم من تباعد وعدم اتصال ما يمكن الاصطلاح عليه بـ النخبة الثقافية التي كان من أهدافها تحديث البنى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والدينية والسياسية في المجتمع العربي وأفلح هؤلاء بوصفهم كتلة لها أهداف متصلة بالتحديث والتجديد في إيقاد شرارة السؤال الصعب حول إمكانية التقدم والتطور في شتى الميادين وتمخض عن ذلك السؤال سؤال جوهري متصل بـ موضوع الهوية أي بالفلسفة التي توجه أمر ذلك التحديث ومنذ ذلك الحين تزامنت في ثقافتنا رؤيتان أولاهما تقول بضرورة اندلاع إلى الأمام واستثمار المعطيات العلمية والفكرية في الحضارة الغربية الحديثة وثانيهما تقول باستلهام التراث القديم وتطويره بما يمكنه من مواظبة حاجات العصر وتلبية متطلبات الحياة الجديدة ومن الواضح أن أياً من الرؤيتين لم تفلح في تحويل ما تقول به إلى معطى عملي له نتائج نفعية مباشرة ذلك أنهما انخرطتا في سجال جعلها في نهاية المطاف تعيشان على إذكاء ذلك السجال بين حين وآخر أكثر مما تعيشان على إنجازاتهما وبدل أن تتضافر جهودهما معاً لبلورة فكرة أكثر كفاءة وعملية توفر إمكانية أكبر لنهضة شاملة ومتوازنة شغلتا على العكس من ذلك في ضروب متنوعة من التناحر والاقتتال واضطراب الأمر وتقدمت النخب بـ مشروعها وكل منها يدعي احتكار الحقيقة وما نحن نشهد في واقعنا العربي أشكالاً من السجال الدموي بين النخب السياسية والنخب الدينية والنخب الثقافية بل بين عناصر كل نخبة فالتناقض بين النخب حل محل الانسجام والتوافق وسال بينهما دم عزيز كان هدراً ولم يقتصر الأمر على ذلك فالنخب ذاتها نخرت من الداخل وتفاقمت خلافاتها ذلك أنها لم تؤمن بشروط الاختلاف في الرأي والمنظور الفكري ولم تتمكن من ترتيب خياراتها على اختلافها في إطار يكفل لها أن تعبر عن نفسها بحرية وأن تؤدي وظيفة فاعلة في الوسط الاجتماعي ومع أن كفة الميزان قد ترجح هذه النخبة أو تلك في هذا البلد العربي أو ذاك فلا خلاف أنّ النخبة الثقافية مهددة بالانقراض والتلاشي والانحلال. فصدت تلك النخبة المستقلة المستنيرة التي لها وظيفية فكرية – عقلية – أخلاقية – تحديثية – والتي تشكل مرجعية أساسية للأفكار السائدة في المجتمع والتي تمارس دوراً طليعياً في ضبط القيم والممارسات الاجتماعية وتسعى لتطويرها وتجديدها داخل أطر عقلانية وعملية متماسكة وكفوءة في إطار نقدي وتؤمن بالاختلاف وتقر بالمغايرة وتعدد المنظورات والاختيارات وتتفاعل مع الوقائع الجديدة استناداً إلى رؤية متنوعة تقوم على النقد والتواصل والتفاعل. ليس الاصطراع وحده ما يتهدد النخبة الثقافية إنما علاقتها بالنخب الأخرى وواقع الحال أنّ النخب فشلت في إقامة حوار مناسب بينها وهذا الفشل ألحق ضرراً كبيراً بالنخب جميعاً من ناحية وبالنخب والمجتمعين من ناحية ثانية". إنّ الحاجة لحوار النخب الفاعلة في المجتمع أمر ضروري فهو الوسيلة التي تجعل النخب أكثر إدراكاً لوظائفها فبدل أن يغلب الظن لدى نخبة ما أنها وحدها القادرة على أداء دورها في المجتمع يصار إلى نوع من الإحساس التام بالحاجة إلى أدوار تعمل معاً دونما تقاطع وصولاً إلى هدف عام ومحدد وحوار النخب يخفف بدرجة كبيرة من أخطار التعصب والغلواء التي تستوطن نخبة ما في ظرف ما وغياب الحوار بين النخب هو الذي أفضى إلى سوء الأحوال في البلاد العربية إلى درجة تعلن فيها الأحكام العرفية في بلد ونظام الطوارئ في آخر والاقتتال الداخلي في ثالث ناهيك عن غياب المؤسسات التي تكفل حرية المواطن وحياته في كثير من البلاد، ومن النتائج الخطيرة التي أفضى إليها غياب الحوار بين النخب، ذوبان النخبة الثقافية في النخب الأخرى، فكثير من رموز النخبة الثقافية انكفأ وانطوى وانحلّ أو اندرج في نخب أخرى: سياسية أو دينية، وذلك في نوع من التحول وراء أهداف لا تخفى، وإذا نظرنا إلى هذه النتائج سنرى فداحة الخطر الذي لا يتهدد ثقافتنا فقط، وإنما يتهدد مجتمعنا وحضارتنا وتاريخنا. إنّ الفشل في تأسيس رؤية مشتركة توحد عمل النخبة الثقافية، والإخفاق في الوصول إلى نوع من الحوار الحقيقي مع النخب الأخرى، قاد إلى ضمور أثر النخبة الثقافية العربية، وأضعف دورها إلى أبعد حد في المجتمع، وقد تزامن هذا مع مجموعة من التحديات الثقافية الخارجية، ففي غياب نخبة واعية وفاعلة يسهل لثقافة "الآخر" أن تؤسس وجودها في نظام التفكير، حاملة رؤى لا صلة لها بجملة المتغيرات في الثقافة العربية وذلك يقود لا محالة في شيوع "ثقافات" متعصبة وضيقة ذات طابع عرقي مغلق أو ديني – طائفي، الأمر الذي يؤدي إلى اضطراب في النسيج الداخلي لمنظور الإنسان إلى نفسه وحضارته وواقعه، فيعيش اغتراباً متواصلاً لأنّ المواجهات الفكرية الضرورية لا وجود لها، فيصار الاعتماد على مرجعيات خارجية. هذا هو في تصورنا واقع النخبة الثقافية العربية الآن، وهو واقع يكشف لنا أن دورها الثقافي قد غلب على أمره، لجملة أسباب مع النخب الأخرى، ومن الطبيعي أن ينحسر دورها و"تنفلت" نخب أخرى في ممارساتها دونما رقيب اعتباري تستمد منه شرعية انفرادها في ممارسات أثارات المضامين اللاشعورية المطمورة، والإعلاء من شأن مجموعة من التشنجات الفردية عرقية كانت أو دينية، ترتب عليها عنف متواصل في كثير من المناطق، سواء اتخذ جانباً فردياً أو جماعياً. إذا كان هذا هو حال النخبة الثقافية التي تعد المحضن الذي يحتضن المثقف العربي فهل لنا أن نتصور أنّه بمقدوره أن يمارس سلطة مؤثرة في المجتمع؟ إنّ تاريخ الثقافة العربية الحديثة قد شهد مثقفين كان لهم دور في إشاعة نوع من السلطة الفكرية في المجتمع، إلا أنّ الأمثلة التي يمكن ذكرها هنا لا تؤيد القول إنهم أفلحوا في تثبيت ركائز لسلطة لها اعتبارها في الأوساط الاجتماعية ذلك أن أدوارهم ترتبت في ظروف معينة، ولم تمكن المثقف العربي يوماُ من جعل الثقافة سلطة مرجعية تسهم في التوجه السياسي ورجل الدين، وإنما العكس هو الصحيح بمعنى أن فلسفة الحكم والاجتهاد الديني لم تستمد تصوراتها من أصول ثقافية حديثة لها قوة أن تكون مرجعاً للنخب السياسية والدينية، ومع أنّه ليس من اللازم أن يندرج المثقف في سياق ممارسة السلطة مباشرة مهما كان نوعها، فذلك يؤثر في نزوعه الفكري الحر لأن موقعه الاعتباري بحد ذاته، بوصفه ضابطاً لمنظومة القيم الاجتماعية الكبرى، وناقداً لها في الوقت نفسه، يمنح خطابه قوة لها سلطتها بين السلطات الأخرى، ومن الواضح أن سلطة ينطبق عليها هذا الوصف حصراً لم تعرفها الثقافة العربية الحديثة. كان المثقف ومازال موضوعاً للسلطة، ولم يصبح مصدراً لها، وتعليل ذلك كما أسلفنا اختلال التوازن في المفاهيم والتصورات، والأكثر من ذلك الاختلال في معنى "السلطة" التي أكرهت دلالتها، لتكون قرينة بالعنف والقوة، ولم تترتب في سياق حضاري تكون فيه ممارسة واعية ضمن استراتيجية تجعل من "الإنسان" موضوعاً للسلطة ومصدراً لها في الوقت نفسه. إنّ الأمر يتعلق بالحرية.   - مراجع: 1- فوكو ميشال: إرادة المعرفة – ترجمة مطاع صفدي – مركز الإنماء القومي – بيروت 1990 ص101. 2- نقلاً عن سهيل فرح: الفكر العربي وتسلطه – الفكر العربي المعاصر – عدد 127 – بيروت 2003 ص63. 3- انظر المرجع السابق ص64. 4- ديفرجه: الدكتاتورية – ترجمة دار عويدات – بيروت – 1989، ص36. 5- جاك مارتيان: الفرد والدولة – ترجمة عبدالله الأمين، مكتبة الحياة، بيروت 1962، ص1460. 6- ناصيف نصار: منطق السلطة – دار أمواج – بيروت، 1995، ص261. 7- عبدالله إبراهيم: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء، 1999، ص222.   المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 495 لسنة 2004م

ارسال التعليق

Top