• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تراث كنوز الحكمة

د. عبد العلي الجسماني

تراث كنوز الحكمة
التراث العربي الإسلامي حشد ضخم من مكونات كثيرة تواءمت فتفاعلت فأنجبت ثقافة ثرّة وحضارة غراء. جملة مواقف جدت في حياة العرب فتجلّت رؤى رائعة نقلت المجتمع القديم نقلة نوعية إلى عهد كريم وضّاء لا تلدّد فيه ولا ظنون. من المواقف التي رمقها أولئك المفكرون الرواد: 1-    الرؤى الجديدة في الحياة. 2-    الموحيات في الآفاق. 3-    المشاهد الواضحات. 4-    المواقف الطريفة وما اكتنزته من تجليات. 5-    الإيقاعات التي دلّت عليها وأومأت إليها دلالات الآيات. 6-    الطاقات التي فجرتها مشاهد المعجزات. فلا غرابة في ذلك ولا إستغراب. إذ إنّ التراث هذا إنما استلهم مقوماته من منجم لا ينفد ومن منبع لا ينضب ألا هو القرآن. أبدعت هذا التراث عقول نيّرة مستنيرة استوفت في نسيج استعداداتها موفور الفكر، وموروث القيم، وارتوت من معين الأخلاق، واستكملت روح التسامح، وتمثلت حقيقة الوسطية في الحياة. أجل، عقول عاشت جمال الصحراء، وألفت صفاء السماء، وتأملت عظمة الملكوت مستأنسة بهدي آيات القرآن البينات. وكم صنعت الصحراء من نوابغ وألهمتهم أسرارها! وبذلك: (فقد نبغ العلماء العرب في كل فن، ونزلوا كل ميدان، واقتحموا كل معقل، وأحاطوا بجميع ألوان الثقافة التي انبعثت في مراكز متعددة، حتى لقد سبقوا الغرب إلى الكثير من النظريات في الطبيعة والكيمياء والرياضة والفلك والطب والتاريخ والاجتماع... وأغنوا التراث العقلي الإنساني بكثير من المعاني والأفكار. وبعد أن لم يكن للعرب سوى خطرات الفكر وفلتات الطبع على حد تعبير الشهرستاني، فقد غدوا فحولاً في التمحيص والتحليل والتدقيق، والربط والمقارنة والتسلسل في عرض الآراء والأفكار والمذاهب والفلسفات، ومثلاً يُحتذى في سبر الأغوار والغوْص على المعاني؛ لا عفو الخاطر، ولا بالبهديهة الجامحة والتعسف الشارد، بل بالخطو الوئيد، والنقلة المتأنية المدروسة. وبهذه الصفات العظيمة غدت الأُمّة العربية وريثة الفكر الشرقي واليوناني معاً، والقيّمة وحدها على ذخائر الثقافة والفن، والممثلة الوحيدة للحضارة الإنسانية الرفيعة في العصور الوسطى كلها. فعظمت الحركة العلمية والعقلية بين المسلمين، واتسع نطاقها، حتى شملت كل شيء من مظاهر الحياة تقريباً. وبعد أن بلغت هذه الحركة غاية مداها، واستنفدت جميع ممكناتها، وحققت جميع أغراضها في بلاد الإسلام، انتقلت إلى بلد آخر ومناخ آخر، مشحونة برصيد كبير من التجارب والخبرات والأفكار والنظريات، لتظهر مرة أخرى وتستأنف الحياة من جديد في حركة النهضة العلمية في إيطاليا بعد سقوط القسطنطينية)[1]. وما أكثر ما كُتب عن المفكرين والعلماء والفلاسفة والفقهاء العرب ومقدار ومدى ما كانوا يتمتعون به من أصالة في الفكر، وأمر بالعدل، وسماحة في الخلق، وإعراض عن الجهالة والجاهلين. فمن بين دساتيرهم الجديدة التي أخذوا أنفسهم بها، أحكموا سلوكياتهم بمقتضاها، كان دستور التوجيه الإلهي الملزم بالأمر المراد به خير الإنسان في كيفية معايشة أخيه الإنسان: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199). قال رسول الله (ص)، لما أُنزلت عليه هذه الآية: (ما هذا يا جبريل؟) قال: إنّ الله أمرك أن تعفو عمّن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك[2]. والإجماع على (العرف) أنّه: المعروف، وفيه تدخل جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين، وذلك وإنْ كان أمراً لنبيه (ص)، فإنّه تأديب لخلقه كافة بضرورة توطين النفس على احتمال المشاق، والصفح، والتسامح. ففي هذه الآية، كما في غيرها كثير، تأديب، وتربية، وترويض للنفس البشرية. وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى فسبكه في بيتين فيهما جِناس فقال[3]: خُذِ العَفْوَ وأمرْ بعُرف كما **** أمرتَ وأعْرِضْ عنِ الجاهلين وَلِنْ في الكلامِ لكلِّ الأَنامِ **** فمُسْتَحسَنٌ من ذوي الجاهِ لِين وقال بعض العلماء: الناس رجلان، فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلِّفْه فوق طاقته ولا تحرجه، وإمّا مسيء فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فاعرض عنه، فلعل ذلك أن يردّ كيده[4]. وقد أُعجب العرب كثيراً بقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ...) إلى آخر الآية، لما فيها من بلاغة، ولما فيها من سهولة سبك، وعذوبة لفظ، وسلامة تأليف، مع ما تضمنته من إشارات بعيدة، ورموز لا تتناهى، وأطلقوا على هذا النوع من الأساليب اسم فن يقال له (الانسجام)، وهو أن يكون الكلام متحدِّراً كتحدر الماء المنسجم، حتى يكون للجملة من المنثور وللبيت من المنظوم وقع في النفوس، وتأثير في القلوب، ما ليس لغيره[5]. ومن النماذج الشعرية لهذا الفن التي خلت من البديع، إلّا أن يأتي ضمن السهولة، من غير قصد، كقول بعضهم، ويُنسب إلى ديك الجنّ الشاعر الحمصي[6]: يا بديعَ الدَّلِّ والغَنَجِ **** لك سلطانٌ على المُهَجِ إنّ بيتاً أنتَ ساكنُه **** غيرُ مُحتاج إلى السُّرُج وجهُكَ المأمونُ حُجَّتُنا **** يوم تأتي الناسُ بالحججِ ولبهاء الدين زهير[7] قوله: لحاظُك أمضى من المرهفِ **** وريقُك أشهى من القَرْقَفِ ومن سيفِ لحاظك لا أتقي **** ومن خمرِ ريقك لا أكتفي أُقاسي المنونَ لنيلِ المنى **** ويا ليتَ هذا بهذا يفي زها وردُ خدَّيكَ لكنّهُ **** بغيرِ النواظرِ لم يُقطف وقد زعموا أنّه مضعفٌ **** وما علموا أنّه مُضعِفي ومما يتمثلون به شعراً يستحق أن يغنى به قول صفي الدين الحلّي[8]، وقد بلغ فيه غاية الانسجام: قالت: كحلتَ الجفونَ بالوسنِ **** قلتُ: ارتقاباً لطيفك الحسنِ قالت: تَسلّيتَ بعد فرقتنا **** قلتُ: عن مَسْكني وعن سَكَني قالت: تشاغلت عن محبَّتنا **** قلتُ: بفرط البكاءِ والحَزَنِ قالت: تخلَّيتَ، قلتُ: عن جَلَدِي **** قالت: تَغَيّرتَ، قلتُ: في بَدَني قالت: أذعتَ الأسرارَ، قلتُ لها: **** صيّرَ سِرِّي هواكِ كالعلنِ قالت: فماذا ترومُ؟ قلتُ لها: **** ساعة سَعدٍ بالوِصالِ تُسْعفُني قالت: وعينُ الرَّقيبِ ترقُبُنا **** قلتُ: فإنِّي للعينِ لَمْ أبِنِ انحَلْتِني بالبِعادِ عنكِ فلو **** ترصَّدَتْني العُيونُ لم تَرَني ولقد يحسن ختام هذه المختارة بالحكاية الآتية: قيل: إنّ بعض الأدباء اجتاز بدار الشريف الرضي، وقد أخنى عليها الزمان، وأذهب بهجتها، وأخلق ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة. فوقف عليها متعجباً من ظروف الزمان، وتمثل بهذه الأبيات: ولقد وقفتُ على ربوعهمُ **** وطُلولُها بيدِ البلى نَهْبُ فبكيتُ حتى ضَجَّ من لغبٍ **** نِضوي وعجَّ بعذلي الرَّكْبُ وتَلَفَّتَتْ عيني فمذ خَفيَتْ **** عنّي الطُلولُ تَلَفَّتَ القلبُ فمرّ شخص فقال له: أتعرف هذه الأبيات – لمن –؟ فقال: لا، قال: والله إنها لصاحب هذه الدار، فتعجبا من غريب هذا الاتفاق، والشيء بالشيء يذكر[9]. إنّ ما سلف ذكره، وغيره كثير لم نذكره، إنما هو استلهام من الإبداع القرآني وما انطوى عليه من بدائع المحسنات البديعية، واستيفاء دقائق المعاني البيانية، وهذا كله من فضل القرآن على حسن التعبير في استجلاء البيان، وتقويم القلم وفصاحة اللسان. فهذه التفاسير الضخمة، وهذه الآلاف من الأسفار التراثية الفخمة، إنما تمخضت عنها عقول كانت دون شك مهيأة لنهضة تشريعية، وأدبية، وعلمية، تبهر النفوس الدهشة بسيل القرائح الموّارة التي انطلقت تستنبط، وتستقري، وتفسر: عملاً وتجريداً. عملياً إذ ضرب الله تعالى للعرب في القرآن أمثلة حسية، لأنّها أقطع لعذرهم، وأظهر في الحجة عليهم[10]. إذ إنّ في الإدراك الحسي والعقلي للإنسان معرفة وغاية، وفي الإدراك بنوعيه يكون المعنى قد استوفى تمامه. نفس الإنسان توّاقة أبداً إلى مزج رغائبها بالمعنويات الرفيعة. فالإنسان بتكوينه الفطري مجبول على أنّ لا (ألّا) تستيقن نفسه، ولا تهدأ نوازعه إلّا إذا أدركت حواسه ما حولها وبه ارتطمت. فذلك في نفسه أوقع ولعقله أقنع.   الهوامش:
[1]- د. محمد عبد الرحمن مرحبا، أصالة الفكر العربي، ص274. [2]- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، المجلد الثاني، دار الفكر، بيروت (1420هـ - 2000م)، ص785. [3]- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، المجلد الثاني، 785. [4]- نفسه، ص785-786. [5]- محي الدين الدرويش، إعراب القرآن الكريم وبيانه، المجلد الثالث، ص93. [6]- عبد السلام ديك الجن (777-849)، عُرف بهذا اللقب، شاعر سوري من الشعراء المجيدين، عُرف بمجونه. [7]- بهاء الدين زهير (1185-1258) شاعر مكي، قرّبه الصالح الأيوبي في مصر. امتاز شعره بالرقة والظرف والسهولة، له ديوان شعر. [8]- هو صفي الدين الحلّي (1277-1349) شاعر عراقي. أغرم بالبديع، وكان أول من نظّم البديعيات، له ديوان (درر النحور) وفيه (29) قصيدة كل منها بـ(29) بيتاً، تبدأ أبيات كل قصيدة وتنتهي بحرف من الحروف الهجائية المسلسلة، في هذا الديوان يمدح الملك منصور الأرتقي التركماني. حكم الأرتقيون في ديار بكر. [9]- نفسه، ص93-94.

[10]- ينظر للمؤلف: القرآن وعلوم الإنسان – مناهج وآفاق – الجزء الثاني، الأمثلة الحسية في القرآن: تنوير وبيان، منشورات عبادي، صنعاء (1426هـ - 2005م).

   المصدر: كتاب القرآن وعلوم الإنسان (مناهج وآفاق)

ارسال التعليق

Top