• ٦ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العِمامة في التراث العربي

أحمد بن محارب الظفيري

العِمامة في التراث العربي
◄من مبادئ الإسلام وتعاليمه السامية ارتداء الخشن من الملابس لرجال الأُمّة، ولقد نهى الرسول العربي الأمي الصادق الأمين محمد بن عبدالله (ص) عن لبس الحرير لرجال أمته، حيث قال: "إنما يلبس هذا – يعني الحرير – من لا خلاق له".

 

العمامة العربية "تارج الرأس العربي":

هي قطعة طويلة منسوجة من قماش الصوف أو القطن أو الكتان تلف على الرأس عدة لفات وتلوى عليه. وكان أجدادنا عرب، الجاهلية يعتبرونها زينة للرأس ووقاء له من الأذى، ويتلثمون بالطرف الزائد منها، وبعضهم يغطي الجزء الأسفل من وجهه بطرف العمامة عندما ينزل إلى الأسواق والمواسم حتى لا يعرفه عدو أو طالب ثأر فينتقم منه، وهذه العادة مازالت مستعملة حتى هذا اليوم عند العرب الأواخر – ونعني بهم عرب العهد العثماني – وكان أجدادنا عرب الجاهلية يستفيدون من عمائمهم في أسفارهم البعيدة عند شعورهم بالجوع أو الألم حيث يلفونها على بطونهم، لذلك لا نستغرب عندما أطلقوا على العمامة اسم "دستور الأمان".

وعندما جاء الإسلام العظيم أكّد على العمامة وحث على لبسها وإكرامها وقد نسب إلى الرسول محمد (ص) قوله: "العمائم تيجان العرب، فإذا وضعوا العمائم وضع الله عزّهم"، وبسبب كبر العمامة العربية وكثر طياتها أجاز علماء المسلمين المسح عليها عند الوضوء. ويذكر لنا التاريخ الكثير من العلماء المتميزين بكبر عمائمهم المفرط فبعضها كأنها الطبق تعادل رأس لابسها بأضعاف مضاعفة، وكان العرب يعتبرون نزع العمامة من على رأس لابسها إهانة كبيرة له، لذلك فهم لا يجيزون خلع العمامة وكشف الرأس إلا في المناسك تعبداً لله وذلاً، ومن أكبر العقوبات التي يتعرض لها العربي هي عقوبة نزع عمامته من على رأسها، ولا تصدر هذه العقوبة إلا من جهة متنفذة كالملك أو الحاكم أو القاضي، وهذا شاعر العرب الكبير أبو الطيب المتنبي (ت 354هـ) يؤكد بأنّه سيطلب حقه بالقوة، بالرماح وبرجاله المشايخ الذين من طول ما تلثموا بأطراف عمائمهم أصبحوا كأنهم شباب مرد – بمعنى زال الشعر من وجوههم – يقول:

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ *** كأنهم من طول ما التثموا مرد

ومن الشعر الشعبي، يقول الفارس حثلين (ت 1310هـ/ 1892م) شيخ قبيلة العجمان اليامية، هذا البيت من قصيدة طويلة، واصفاً كبر عمامة الشيخ الفارس محمد بن هادي ابن قرملة شيخ قبيلة قحطان:

تلفي لابن هادي كبير العمامه *** شيخ ورمحه مع أهل الخيل مرسام

وتذكر كتب السيرة والتاريخ، أنّ الرسول (ص) كان يلبس أربعة عمائم في أوقات مختلفة: الأولى عمامة محنكة، كان يلبسها في غالب أوقاته، والثانية عمامة سوداء كان يلبسها في الأعياد، والثالثة عمامة ذات ذؤابة كان يلبسها في بعض أوقاته، والرابعة عمامة بيضاء كان يلبسها في غالب أوقاته، ودخل يوم فتح مكة (8هـ) وعلى رأسه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه الشريفين وعلى مر التاريخ وتعاقب العصور والأجيال لم تفقد العمامة أهميتها – إلا في عصرنا الحالي – بل كانت في زمان مضى وانقضى هي الرمز المحبوب المستقر في قلوب وضمائر كلّ العرب فهي اللباس المفضل لرؤوسهم، وكانت ذات ألوان متنوعة وتلف بهيئات مختلفة حسب الطراز السائد في كلِّ عصر، وعرف عن عربان البوادي أنهم لا يضعون عمائمهم عن رؤوسهم إلا نادراً وبسبب حاجة ترغمهم على ذلك.

قيل لأعرابي: مالك لا تضع العمامة عن رأسك؟ قال: إنّ شيئاً فيه السمع والبصر لحقيق بالصون.

وهذا أعرابي يطلب من خليليه أن يشدا العمامة على كبده من ألم الجوي والغرام... فلنستمع إليه وهو يقول:

خليلي شدا بالعمامة واحزما *** على كبد قد بات صدعاً عمودها

خليلي هل ليلى مؤدية دمي *** إذا قتلتني أو أمير يقودها

وكيف تقاد النفس بالنفس لم تقل *** قتلت ولم يشهد عليها شهودها

 

العمامة في اللغة العربية الفصحى:

العمامة: ما يلف على الرأس. والجمع عمائم.

تعمم الرجل: لبس العمامة على رأسه.

العمة: هيئة الاعتمام. والعمة: العمامة.

 

السلطان العثماني محمود الثاني يمنع العمامة ويفرض الطربوش:

أصدر السلطان العثماني محمود الثاني (ت 1839م) فرماناً "مرسوماً" سلطانياً موجهاً لجميع موظفي الدولة من عسكريين ومدنيين "كان الأمر في البداية يخص العسكريين ثمّ فيما بعد شمل الموظفين المدنيين" أمرهم السلطان بموجب هذا الفرمان بأن ينزعوا العمامة من على رؤوسهم ويلبسوا بدلاً منها الطربوش التركي، واعترض الكثير من رجال الدين الإسلامي ورجال الدولة على هذا الأمر المخالف للشرع، ولكن السلطان محمود أصر على تنفيذ أمره في كلِّ الولايات العثمانية، وأمر الولاة ورجال الحكم باستخدام الشدة والغلظة وعدم التهاون واللين مع المعترضين، وأمر بسجن كلّ من يرفض أو يعترض على تنفيذ وتطبيق أمره السلطاني، وفعلاً تم سجن الكثير من رجال الدين والدولة، وتم تسريح وإنهاء خدمات العديد من رجال الدولة من عسكريين ومدنيين بسبب موقفهم الرافض لأمر السلطان، ولكن مع مرور الوقت نفذ أمر السلطان والتزم به الجميع فاختفت العمامة من على الرؤوس وحل محلها الطربوش، وستبقى الذكريات الخالدة للعمامة العربية في قلوب وضمائر أجيال العرب على مرّ العصور وتتابع السنين، إنها التاج الكريم الذي زين رؤوس كلّ القادة العظام والرجال الأفذاذ الذين انطلقوا من جزيرة العرب وحملوا الإسلام العظيم وخيره لكلِّ بقاع الدنيا، ولقد صدق شاعر العرب أبو الطيب أحمد المتنبي (ت 354هـ) عندما قال واصفاً هؤلاء الرجال:

من كلِّ أبيض وضاح "عمامته" *** كأنما اشتملت نوراً على قبس

وأصل اسم الطربوش جاء من "سر بوش" والتسمية مركبة من "سر" أي رأس، ومن "بوش" أي غطاء، فيصبح معنى "سر بوش" هو غطاء الرأس، وقيل إن أصل التسمية جاء من اللغة التركية أو من الفارسية.

 

"عمامة" الحجاج الثقفي أرهبت الناس ودخلت التاريخ!:

أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي، أحد جبابرة العرب وساستها وقادتها، من أعظم الخطباء المتميزين في التاريخ العربي الإسلامي، كان في بداية حياته معلماً لأطفال قبيلة بني ثقيف في الطائف، ثمّ خدم في شرطة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان بن الحكم (ت 86هـ)، ومازال يترقى حتى ولي قيادة الجيوش، وقضى على كثير من الفتن، ووحد شمل الأمة، ولكنه كان شديد القسوة، سريعاً إلى سفك الدماء، توفي بمدينة واسط بالعراق سنة 95هـ.

قال عبدالملك بن عمر الليثي: "بينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة، يخرج الرجل في العشرة والعشرين من مواليه، إذ أتى آت فقال: هذا الحجاج قد قدم أميراً على العراق، فإذا به قد دخل المسجد معتماً بـ" عمامة" قد غطى بها أكثر وجهه، متقلداً سيفاً، متنكباً قوساً، يؤم المنبر، فقام الناس نحوه، حتى صعد المنبر، فمكث ساعة لا يتكلم، فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق، حتى قال عمير بن ضابي البرجمي: ألا أحصبه لكم! فقالوا أمهل، حتى ننظر، فلما رأى عيون الناس إليه، حسر اللثام عن فيه، ونهض ثمّ قال:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع "العمامة" تعرفوني

ثمّ قال:

يا أهل الكوفة، إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الماء بين العمائم واللحى، ثمّ قال:

هذا أوان الشد فاشتدي زيم *** قد لفها الليل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم *** ولا بجزار على ظهر وضم

***

قد لفها الليل بعصلبي *** أروع خراج من الدوي

مهاجر ليس بأعرابي

***

قد شمرت عن ساقها فشدوا *** وجدت الحرب بكم فجدوا

والقوس فيها وتر عرد *** مثل ذراع البكر أو أشد

لابدّ ممما ليس منه بد

 

المصدر: مجلة الكويت/ العدد 320 لسنة 2010م

ارسال التعليق

Top