• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عمارة المنازل في الحضارة الإسلامية

د. خالد عزب

عمارة المنازل في الحضارة الإسلامية
بنى الرسول (ص) مساكنه إلى جوار المسجد في المدينة المنورة، وقد قال الكتاني في التراتيب الإدارية: "ثم بنى (ص) مساكنه إلى جنب المسجد باللبن، وسقفها بجذوع النخل والجريد، وكان محيطها مبنياً باللبن وقواطعها الداخلية من الجريد المكسو بالطين والمسوح الصوفية، وجعل لها أبواباً ونوافذ متقنة الهواء داعية إلى السهول في الدخول والخروج وخفة الحركة مع وفر في الزمن والسرعة إلى المقصد. عن هدي رسول الله (ص) في تدبيره لأمر مسكنه (يقول ابن قيم الجوزية: "لما علم (ص) أنه على ظهر سير، وأنا الدنيا مرحلة مسافر ينزل فيها مدة عمره، ثم يتنقل عنها إلى الآخرة، لم يكن من هديه وهدي أصحابه، ومن تبعه الاعتناء بالمساكن وتشييدها، وتعليتها وزخرفتها وتوسيعها، بل كانت من أحسن منازل المسافر تقي الحر والبرد، وتستر عن العيون، تمنع من ولوج الدواب، وليست تحت الأرض فتؤذي ساكنها، ولا في غاية الارتفاع عليها، بل وسط، وتلك أعدل المساكن وأنفعها، وأقلها حراً وبرداً، ولا تضيق عن ساكنها، فينحصر، ولا تفضل عنه برائحتها، بل رائحتها من أطيب الروائح لأنه كان يحب الطيب، ولا ريب أنّ هذه من أعدل المساكن وأنفعها وأوفقها للبدن، وحفظ صحته". في هذا العرض الموجز عرض لنا ابن القيم الشروط التي يجب توافرها في المنزل الإسلامي، وهي: البساطة، التلقائية، الخصوصية، التوافق مع البيئة. هذه الفلسفة في عمارة المساكن نرى ابن العربي يعبر عنها كما يلي: "إنّ الله سبحانه وتعالى خص الناس بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الإنفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على من فيها من خارج، أو يلجوها بغير إذن أربابها، لئلا يهتكوا أستارهم، ويبلوا في أخبارهم".   الواجهات نص قصصي: يعد تكوين واجهات المباني السكنية في العمارة الإسلامية، أشبه بتكوين نص قصصي، فمكوناتها تروي حكاية تكوين المبنى، وترسم ملامح هيكليته، ومن خلال عناصر الواجهة، المعمارية والزخرفية، يمكن التعرف على نوعية وظيفة كل فضاء من الفضاءات الوظيفية للمبنى، وأبعاد حدوده وموقعه من حيث الترتيب في التكوين العام للمبنى أو من حيث توجيهه، هذا بالإضافة إلى أهميته في هذا التكوين. كما توضح الفتحات وسعتها، وكثافة ونوعية التشكيل الزخرفي للواجهة جهتها، وتحدد عناصر الواجهة جهتها، وتحدد عناصر الواجهة المعمارية والزخرفية نوعية المعالجة البيئية أو الإنشائية. لذا كان لمبدأ حيازة الضرر أثر بالغ على تكوين واجهات المنازل في مدينتي رشيد والقاهرة، ونلمح هذا بوضوح من خلال واجهات منازل رشيد، فمبدأ حيازة الضرر الذي يسبق به الجار جاره، جعل صاحب منزل الجمل يفتح نافذة أسفل خرج منزل محارم الأسبق تاريخياً، وهذا يعني أن منزل الجمل أحدث تاريخياً، وأنّ منشئه لم يستطع أن يفتح نوافذ جانبية في منزل الجمل، إلا أسفل خرج منزل محارم. وبذلك نستطيع من خلال مثل هذا النوع من فتحات المنازل تأريخ المنازل الأثرية المتجاورة وتحديد أيها أسبق تاريخياً، وقد أرخ أحد الباحثين منزل محارم بأنّه يعود للقرن 12هـ/ 18م، وأرخ منزل الجمل بأنّه يعود للقرن 12هـ/ 18م، ولكنه لم يحدد أيهما أسبق تاريخياً، وبناء على الاستدلال السابق نستطيع أن نستنتج أنّ منزل محارم أقدم تاريخياً من منزل الجمل، وكذلك لم يستطع منشئ منزل الجمل أن يبرز بخرجه عن سمت خرج منزل محارم، حتى لا يسد النوافذ الشرقية للجزء البارز من واجهة منزل محارم. ويبدو أنّ هذه الظاهرة شاعت في رشيد إذ نرى في منزل علي الفطايري برشيد، لجوء المنزل المجاور لنفس الطريقة لفتح نافذة أسفل خرج منزل الفطايري وهو ما يعني أنّ منزل الفطايري المؤرخ بعام 1030هـ/ 1620م، نستطيع من خلال تأريخ المنزل المجاور له بتاريخ لاحق () بينما يرتد المنزل الأمامي في الصورة رقم 7 بالكراسة رقم 16 بكراسات لجنة الآثار العربية عن المنزل المجاور به، مما يعني أنّ المنزل الأمامي أحدث تاريخياً. وقد يحوز الضرر أحد المنازل، فيفتح نوافذ في جانبي خرج المنزل على الشارع، ولا يستطيع جاره عند بنائه سد هذه النوافذ فيرتد في جزء من بروز واجهته ليبرز مرة ثانية في أحد الطوابق العليا عندما يكون قد تلافى ضرر جاره، وهذا ما نراه بوضوح في منزل رمضان برشيد الذي تلافى مهندسه سد النوافذ الغربية لخرج منزل محارم، وبالتالي اضطر إلى الارتداد في جزء من خرج الواجهة إلى ارتفاع الطابق الأول علوي، متفادياً بذلك كشف نوافذ الجار، وقد عاد للبروز مرة أخرى في الطابق الثاني، حيث استخدم في نوافذه الخشب الخرط الميموني الضيق، الذي لا يسمح لأي من الطرفين كشف الآخر بوضوح، وبذلك يكون منزل محارم أسبق تاريخياً من الناحية الإنشائية، من منزل رمضان وتكررت هذه الظاهرة مرة أخرى في منازل رشيد، فنراها بوضوح في منزل عثمان أغا الأمصيلي الذي يرجع للقرن 13هـ/ 19م. حيث اضطر معمار منزل الأمصيلي إلى الارتداد بخرج منزل الأمصيلي بالطابق الأوّل علوي، حتى يتفادى هذه المرة سد النوافذ الغربية لخرج منزل حسيبه غزال، وكذلك لعدم كشف من بالطابق الأوّل علوي، وقد عاد بالبروز مرة أخرى بالطابق الثاني، حيث لا توجد نوافذ لمنزل حسيبة غزال بخرج هذا الطابق. وأخذت هذه الظاهرة شكلاً آخر لافتاً للنظر في منزل ثابت، إذ ارتد المعمار بخرج الواجهة إلى الطابق الثالث علوي، وهو ما يعني أنّ جاره الذي لم يعد موجوداً حالياً، قد سبقه تاريخياً ولم يستطع معمار منزل ثابت البروز بالواجهة إلى آخر الطابق الأخير من المنزل. وقد أعطت هذه الارتدادات تنغيماً رائعاً لتشكيل واجهات المنازل في رشيد قل أن نجده في منطقة أخرى، وقد حلاها المعمار بكرانيش وكرادى حاملة للبروز في الطوابق العليا، يزخرف أحياناً باطن بروز الخرج في الطابق التالي بالأطباق النجمية كما هو الحال في منزل الأمصيلي. هناك رأي للإمام سحنون في هذه البروز التي سُئل عنها، فقد قيل له: الرفوف والعساكر تطل على الطريق هل يمنع من ذلك عاملها؟ قال: لا لم تزل هذه حال العساكر والرفوف يتخذها الناس ويطلون بها على الطريق فلا أرى يمنع أحد من ذلك مالم يضر بأحد. وفي القاهرة نرى تأثيراً آخر واضحاً لمبدأ حيازة الضرر، فالواجهة الجنوبية لمنزل زينب خاتون 9هـ/ 15م، قد تأثرت بحيازة المنزل المقابل لها لأضرار عديدة فالمعمار لم يستطع البروز بروشن على هذه الواجهة إلا في الجدار الشرقي لارتداد الواجهة، متلافياً بذلك الإضرار بجاره، وهذا الارتداد اضطر إليه المعمار للحفاظ على خط تنظيم الطريق، فضلاً عن قلة النوافذ بهذه الواجهة. أما في منزل الهراوي (1144هـ/ 1731م فقد حاز جاره الضرر بسبق بنائه، ولذا فقد منشئ المنزل ميزة فتح نوافذ على جاره في الجدار الشمالي، مما جعله يضع الفناء في هذا الضلع ويرتفع بجداره الشمالي ويفتح عليه العناصر الرئيسية للمنزل.   حق الهواء: ومن مظاهر دور الفقه في العمارة السكنية حق التعلي في الهواء أو البروز في الهواء، ونرى ذلك في منزل التوقاتلي برشيد (12هـ/ 18م) والذي برز فيه المعمار بروشنين في الواجهتين الشرقية والغربية ولم تتبق لنا منازل أثرية بهاتين الواجهتين حتى نستطيع أن نجزم بأنّه بذلك قد حاز الضرر سابقاً جاريه، ولكن على أيّة حال فإنّ هذا الفعل قد تم بالطابق الأخير من المنزل، وهو ما يعني أنّ ضرر الجار ربما يكون قد تلافاه المعمار في هذا الطابق، ونرى مظهراً آخر للبروز في الهواء دون الإضرار بالجار، حينما برز معمار منزل رمضان بحمام المنزل في الطابق الأخير منه إلى فناء منزل محارم ومن المعروف أنّ الحمامات لا تفتح بها نوافذ يمكن منها كشف الجار، ولكن يتم تزويدها بأسقف جصيه، يتخللها الزجاج الملون لإضاءة الحمام، وبالتالي لا يشكل بروز الحمام ضرراً بالجار. كان للخصوصية أثر واضح على الواجهات نراه بوضوح في تلك الفتحة المعقودة التي توجد أسفل كل سبيل ملحق بأي من منازل رشيد، هذه الفتحة التي كان يطلق عليها في رشيد "النازوره"، كانت تستخدم وقت الفيضان في ملء صهريج المنزل والسبيل بالمياه من قبل السقاء دون حاجة منه إلى الدخول للمنزل، ومن المعروف أنّ كتب الحسبة شددت كثيراً على الآداب المتعلقة بالسقاء وعمله. ومن العناصر التي نرى تأثيرها على الواجهات: المشربيات، والشبابيك ذات الخشب الخرط فنرى المعمار في الطابق الأوّل بمنازل رشيد قد استخدم الخشب الخرط الصهريجي، والأنواع الأخرى التي تتميز باتساعها، بينما استخدم في الأدوار العليا الخشب الخرط الميموني وتشكيلاته المختلفة، وكذلك المشربيات والرواشن التي تتميز بأنّها أكثر ضيقاً، وبذلك لا يستطيع الجار المواجه كشف من بهذه الطوابق، وهي المخصصة للحريم، بينما نجد في الطابق الأوّل استخدام أنواع من الخشب الخرط الأوسع، وهو طابق الاستقبال الخاص بالرجال. هكذا نرى بوضوح أثر الخصوصية على واجهات منازل رشيد ولعل هذا يقدم لنا تفسيراً للتنوع في مساحات وتغطيات نوافذ قاعة محب الدين (751هـ/ 1350م) التي تطل على شارع بيت القاضي بالقاهرة. لكننا هنا سنتوقف عند نوع من النوافذ يسمح بإدخال الضوء دون أن يسمح الخارج، ولذا فإنّه يكشف عن تطبيق مبدأ ضرر الكشف، إذ لا يسمح لصاحب المنزل بكشف جاره، وهي عادة تكون علوية مغطاة بالجص المخرم أو الحجر أو الخشب أحياناً بأشكال نباتية وهندسية مشبكة ومخرمة، ثمّ شاع فيها استعمال الزجاج الملون المعشق، وتغطى من الخارج بأشرطة أو شبكة من النحاس للمحافظة عليها.   القمرية: والقمرية إما مستديرة أو مستطيلة مقنطرة أو مربعة، وتوضع القمريات غالباً في "شند" ومعناها ثلاثة، فيرد في الوثائق المملوكية "أشناد" و"شند قمريات" أو في مجموعات من سقة ثلاث مستطيلة تعلوها ثلاث مستديرة وتسمى "دست" أو "دست قمريات". وأحياناً يطلق على القمرية شمسية أو شمسيات سواء كان عليها زجاج أم لا. والقمريات كانت من ضمن المسائل التي وردت في كتابات الفقهاء، فمنها: "لزيد مربع في داره وله طاقات للضوء تسمى بالقماري يأتي إليها الضوء من دار جاره في قديم الزمان، ولجاره في داره مربع أيضاً أسفل من الأول، وسطحه أسفل من القماري، يريد الجار أن يبني على مربعه المذكور طبقة مسقفه بسقف فوق القماري، بحيث يكون الحائط والقماري داخلين فيها، ويسند بذلك الضوء المذكور بالكلية، وفي ذلك ضرر بين لزيد، ويريد زيد منع الجار عن ذلك فهل له منعه؟ الجواب: نعم.. فإنّ سد الضوء بالكلية بأن يمنع من تلاوة القرآن الكريم، والكتابة ضرر فاحش، فيمنع منه كما أفتى بذلك العلامة أبو السعود. قال ابن عابدين: "أقول: إذا كان قمريتان فسد ضوء إحداهما بالكلية مع إمكان الانتفاع بالأخرى لا يمنع، والظاهر أنّ ضوء الباب لا يعتبر لأنّه قد يضطر إلى غلقه لبرد ونحوه، والظاهر أنّ الشباك كالباب والله تعالى أعلم".   المصدر: مجلة البيت العربي/ العدد 10 لسنة 2012م

ارسال التعليق

Top