• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المسلمون والحوار في عالم اليوم

د. سعيد بنسعيد العلوي

المسلمون والحوار في عالم اليوم

◄يعيش المسلمون اليوم واقعاً جديداً مخالفاً، من وجوه عديدة، لما كانوا عليه في السابق - سواء تعلّق الأمر بالأمس القريب (أي بعقود قليلة سابقة) أو كان راجعاً إلى العصور الماضية. إنّه، في المقارنة مع الحالين معاً، واقع له سمات تحمل على المراجعة وإعادة النظر، وتتوافر على قدر كبير من الوضوح والتمايز يجعلها قابلة للملاحظة والتحليل. وإذا كان الناظر في واقع البشرية اليوم يجد أنّ حال العالم صراعٌ وتنافر وكراهية وتصامم وكان يرى أنّ في مجريات الأمور ما يؤكد هذا الزعم ويقويه فإنّ هذا المتأمّل يجد نفسه، في الوقت ذاته، مظطراً إلى القول بأنّ الإنسانية تتجه، مع ذلك أكثر من أي وقت مضى، إلى ما من شأنه أن يجنّبها الحروب العظمى التى تؤدي إلى الخراب والدمار الشاملين حتماً ومن ثم فهي، ضرورة لا اختياراً، تسعى لمدّ قنوات الحوار والتفاهم. والمسلمون، في مختلف الأصقاع التي يوجدون فيها معنيون بالحوار بدورهم ومطالبون به أو هم بالأحرى يُضطرون إليه اضطراراً: ليس بحسبانهم جزءاً غير قليل العدد من ساكنة العالم فحسب، بل لأنّ الحوار بالنسبة لهم ضرورة أكيدة وقضية حيوية من أجل الدفاع عن النفس ضد الاتهام والهجوم المستمرين اللذين ينالانهم ومن أجل البحث عن الهُويّة القلقة والخروج من حال الوجود المأزوم.

 

1- المسلمون في العالم اليوم

قد يجوز في الحديث عن حال المسلمين في العالم اليوم، من الجهة التي تتصل بقضية الحوار بكيفية أو أخرى، عن العناصر التالية دون أن يعني السكوت عن أخرى غيرها التقليل من خطرها أو الاستصغار من شأنها. عناصر لا يعني الترتيب في ذكرها والتدريج فيها من الأهمية، فهي في العمق متداخلة يأخذ بعضها بأطراف البعض الأخر.

أ- يتجاوز المسلمون، من الناحية العددية، ألفاً ومائتي مليون نسمة، أي ما يعادل خُمس ساكنة الكرة الأرضية تقريباً. وإذا كانت هذه الساكنة قد شغلت، عبر قرون عديدة، مناطق من القارات الكبرى الثلاث (أسيا، أفريقيا، وبعضاً من أوروبا الوسطى) فإنّ الجديد في الأمر هو أنّ المسلمين اليوم ينتشرون بأعداد غير قليلة في أوروبا الغربية (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا، ألمانيا)، وبأعداد هائلة في بريطانيا ثم في بعض من أوروبا الشمالية (السويد والدانمارك خاصّة). هذا الانتشار جعل من الإسلام الديانة الثانية في البلاد المذكورة وجعل النسبة ترتفع لتبلغ حوالي 10% من مجموع السكان في فرنسا. هذه الأعداد الغفيرة تجاوزت، في البلاد التي تعيش فيها، واقع الجاليات دون أن ترقى، من الناحيتين الواقعية والاجتماعية، إلى وضعية المواطنين وإن كانت، من الناحية القانونية الجاري العمل بها في تلك البلاد في حال المواطنة بكلّ مستلزماتها الحقوقية.

يعيش هؤلاء الأوروبيون المسلمون أوضاعاً صعبة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. فهم، من جانب أوّل، يشكّلون القاعدة العريضة من سكّان الأحياء الفقيرة الهامشية ويتخبطون في مشاكل سيكولوجية - اجتماعية خانقة ولذلك كان الفرنسي ينعت تلك الضواحي التي يقطنها هؤلاء الناس بالأحياء والأخطار التي يشكّلونها على المدن التي يقطنون فيها، وبالنظر إلى أنّ التذمر وصل أحياناً كثيرة، درجة الاحتقان الذي يسلم إلى العنف. من الطبيعي أنّ الوعي الديني الإسلامي يمتزج بالآراء التي تجنح إلى السخط والرفض، تغذيها النسبة الهائلة من الأُمّية وتؤججها أوضاع العيش على هامش الحياة الطبيعية الأمر الذي يحذو بعدد من الدارسين المتخصصين أن يعتبر ساكنة تلك الأحياء من الأوروبين المسلمين صورة نموذجية لصعوبات الاندماج في المجتمع الأوروبي الحديث، وأرضية مناسبة لتفريخ حركات الغلو الديني مما جعل عالم اجتماع سياسي هو فرنسوا أوليفيه F.Olivier يتحدّث عن الإسلام المعولم Islam is globalized أي ذلك الذي يصير به الأمر، في نهاية التحليل، إلى تصدير التطرّف والغلو، بل وممارسة الإرهاب باسم الإسلام.

ب- يمكن الحديث، بالمقابل، عن صورة جديدة للإسلام أخذت ترتسم في الوعي الغربي الأوروبي من جانب أوّل، والغربي الأمريكي من جانب ثانٍ. تلك الصورة، كما نستطيع أن نستشف ذلك من الإشارة إلى الواقع الجديد الذي أسلفنا القول فيه في الفقرة السابقة، هي صورة الإسلام في أوروبا الغربية منذ العقود الأربعة الأخيرة سواء ما اتصل بأنماط الوعي والسلوك عند الشبيبة الأوروبية - الإسلامية، أو الشبيبة ذات الجذور الإسلامية عامّة والعربية الإسلامية خاصّة. وصورة الإسلام في الوعي الغربي الأمريكي أخذت ترتسم بالتدريج في تفاعل مع معركة البترول في بداية سبعينات القرن الماضي، ثم أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران، لتزداد قوّة واشتداداً مع أعمال الإرهاب التي مست مصالح أمريكية خارج الولايات المتحدة الأمريكية، ثم في واقعة 11 سبتمبر 2001م لتغدو تلك الصورة أكثر تشوهاً واضطراباً بفعل تفاعل عوامل ثلاثة. العامل الأوّل: هو السقوط الأمريكي في براثن الحملات الصهيونية واللوبي الإسرائيلي الذي استمر في الضغط والعمل المتصل بكافة وسائل التأثير (المال، الإعلام، عمل مراكز البحث وقد تمّ تسخيرها في وجهة معينة)، ونتيجته هي ما لا نزال نشاهده ونعيشه من الانحياز الأمريكي غير المشروط للأطروحات الإسرائيلية ضداً على الشعب الفلسطيني وإذكاء لمشاعر الغضب عند مسلمي العالم في كلّ مكان من المعمورة. والعامل الثاني: هو انهيار المنظومة الشيوعية وانهيار نظام القطبية الثنائية واستفراد الولايات المتحدة بالسيطرة العليا التي تتوق إلى فرض التصوّر الأمريكي والانصياع لمصالح الولايات المتحدة الإمريكية طوعاً أو قسراً، والتطلّع إلى زعامة العالم وإملاء خارطة جديدة له من جهة أولى، والتطلّع إلى زعامة العالم الغربي والتحدّث باسمه من جهة ثانية. وأمّا العامل الثالث والأخير فهو ثمرة التردي المتصاعد الذي حصل في المعرفة بالإسلام، في البلدان الغربية عامّة، وفي المتحدة الأمريكية، تردي جعل جيل الباحثين الكبار الذين يجيدون معرفة الإسلام لغات وحضارة وديناً وفكراً وفلسفة يعوّض، على نحو مؤسف، بجيش من الذين يجهلون كلّ شيء تقريباً عن الميادين المشار إليها فينقلون معارف وتصوّرات خاطئة يغذيها ما ذكرناه من عوامل تغذية الكراهية وتقدم وسائل الاتصال والتقدم الهائل الذي نعرف.

جـ- السمة الثلاثة التي نود التنبيه إليها، والتي نرى أنّها أصبحت تتخذ أشكالاً من الموضوع والتمايز تتعلّق بالقلق أو ما يمكن أن ننعته بالوعي المأزوم أو المرتعب (إذا ما شئنا استعارة العبارة الهيجلية la conscience effrayee  الذي يعيش به المسلمون اليوم إسلامهم. من مظاهر هذا الوعي ظهور حركات إسلامية تدعو إلى الانغلاق على الذات ومعاداة الآخر والإصرار على التمسك بصورة نمطية للإسلام هي جماع كلّ السلبيات التي عرفها الإسلام في فترات الانكماش والجمود والهروب إلى الماضي مع استحضار النماذج والأسماء التي ترمز إلى رفض العقل والحوار ومعاداة الغير المخالف في الملة والعقيدة وإشهار الحرب عليه بكلّ سبيل.

 

2- حوار مُتعدّد الأطراف:

أشرنا في بداية هذا الحديث إلى ضرورة الحوار بالنسبة للعالم الإسلامي كضرورة أكيدة، ما دام يتصل بالدفاع عن النفس لدفع التهم التي توجه للإسلام والمسلمين اليوم، وما دام الحوار أمراً لا مندوحة عنه من أجل الوجود في عالم اليوم كذلك. هذا الحوار يتطلب الأسباب، يستدعي أطرافاً عديدة وإنّه أوّلاً وقبل كلّ شيء، حوار داخل الإسلام وبين أهله في بلدان العالم الإسلامي العربية وغير العربية. وهو ثانياً حوار مع أهل الديانتين السماويتين. وهو من جهة ثالثة، حوار مع الغرب الأوروبي. ومن جهة رابعة حوار مع الغرب الأمريكي، وهو من جهة خمسة، حوار طرفه الصين وقوّتها الصاعدة الماحقة وساكنتها الذين يعادلون مجموعة أهل الإسلام في الأرض جميعاً. وقد يلزم أن نذكر في هذا الحوار مُتعدّد الأطراف ضرورة جهات أخرى لكلّ منها أهميتها في الساحة الدولية ولكلّ منها أثرها القوي في مجال الثقافة والتكنولوجيا والإعلام ونحن نذكر منها الهند واليابان والبرازيل ودول أمريكا اللاتينية الأخرى، ونيوزيلندة، وأستراليا. ولا يخفى أنّ الحوار مع هذه الأطراف كلّها وهو وإن كان واحداً من حيث الهدف الذي يرمي إليه الإسلام من ورائه فهو يختلف باختلاف الجهة التي يكون العالم الإسلامي مخاطباً لها سواء كان العالم جزءاً ببعض دوله أو مناطقه، أو كان كلاً بواسطة المنطقة التي يفترض أنّها تتحدّث باسمه، منظمة العالم الإسلامي. لا شك أنّ تعدّد أطراف الحوار واختلافه يستوجب اختلافاً في لغة الخطاب ونبرته ولكنّنا اليوم نكتفي بوقفة قصيرة عندما كان في الرتبة الأولى من حيث أطراف الحوار، أي ما كان حواراً داخل ملة الإسلام وبين أهله.

يأتي لزوم الحوار بين أهل الإسلام واضحاً فهو لا يحتاج إلى تبرير أو تفسير، وإنما هي حقائق ماثلة للعيان.

وأمر آخر نود التنبيه عليه في حديث الحوار مُتعدّد الأطراف بين أهل الإسلام، نقول عنه إنّه الاعتراف الثقافي على شاكلة الاعتراف السياسي، وإن كان الأوّل أعلى درجة وأخطر شأناً من الثاني نقصد بالاعتراف الثقافي الانتباه إلى الاختلافات الجلية التي تميز المواطنين الفرنسيين والهولنديين والإطاليين والإنجليزيين والأمريكيين وغيرهم ممن يدينون بالإسلام، وينحدرون من أصلاب آباء أو أجداد قدموا إلى فرنسا وهولندا وإيطاليا وإنجلترا وأمريكا وغيرها مهاجرين، وهم من حيث دساتير وقوانين البلاد التي ينتسبون إليها، بحكم الجنسية التي يحملونها، مواطنون أوروبيون وأمريكيون تملي عليهم المواطنة واجبات وتلزم بشروط ليست تكون دوماً في وئام وانسجام تام مع مقتضيات الملة الإسلامية (أو مع تلك المقتضيات في جوانب هامة منها). لا شك أنّ هذه الحال تجعلنا أمام نمط جديد من الحوار مخالف بعض الشيء، مختلف في شرائطه ومناهجه. والقول في المسألة حديث ذو شجون، وليس المقام بمتسع لنا للخوض فيه.

 

3- الحوار: مقدماته وشروطه

نود الآن، على جهة الاختصار في الحديث والتدقيق في القول، أن نعرض لما ألمحنا إليه من شروط يلزم اجتماعها حتى يكون الحوار ممكناً من جهة أولى، مثمراً من جهة ثانية، وحاملاً على مفارقة لا تحمل على الرضا من جهة ثالثة. والشروط التي نرى حضورها ضرورة ثلاث أوّلها شرط النقد الذاتي، وثانيها استحضار المكونات الأساس الفاعلة في الدعوة الإسلامية، وثالثها التوجه إلى الفعل والانتساب إلى العالم واقعاً لا وهماً.

 

3- 1- النقد الذاتي

لا غرو أنّه لا فائدة تُرجى من محاورة الغير متى كان المحاور يستشعر من نفسه ضعفاً وخوراً شديدين، كما أنّه لا خير في حوار يكون كلّ همه دفع التهمة والدفاع عن النفس، فالحوار لا يكون مفيداً منتجاً إلّا متى كان مراداً من ذات واثقة من نفسها، في غير انطواء ولا استعلاء وشعور بئيس بالاكتفاء بالذات من جهة أولى، ومتى كان يستهدف الاقتباس والأخذ بما يراه الأحسن عند الغير مع إرادة الفهم وهذا من جهة ثانية. وليس يكون للحوار معنى عند المسلمين اليوم ما لم يكن يريد هذه الأمور كلّها وما لم يكن، خاصة، وعياً بالحاجة إلى التغيير ومفارقة حال لا تبعث على الانشراح والرضا. لا معنى لمحاورة الغير عند أهل الإسلام اليوم ما لم يكن الحامل على الحوار هو الانتفاض ومراجعة الذات، بل ومحاسبتها حساباً هدفه الانتفاض والعمل عملاً بالآية الكريمة (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11). وليست المراجعة تكون موفقية بالقصد المتوخَّى منها ما لم تكن شاملة متصلة بمناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.

إذا أردنا أن ندل على النقد الذاتي بعلامات تيسر الطريق نحوه فنحن نقول: ليس القصد بالنقد الذاتي البكاء على الأطلال (الارتكان إلى الماضي الذهبي الزاهي)، ليس المراد منه الاستسلام وجلد الذات. وليس يكون له معنى متى كان تنكّراً للمقومات الروحية من جانب أوّل، ورفضاً للحداثة وأسبابها من جانب ثانٍ.

النقد الذاتي المطلوب، إرادة للتغيير والفعل، وسعي إلى المزاوجة بين الإسلام في قيمه وثوابته وبين الحداثة ومستلزماتها. إنّه استلهام للعصر الذي نقول عنه إنّه عصر النهضة ولمفكريها واقتداء به. ومن ثم فهو استحضار لما نرى أنّه المكونات الفاعلة الأساس في الدعوة الإسلامية.

 

3- 2- المكونات الأساس في الدعوة الإسلامية

لعلّ الأنسب، بل الأجدى، أن نكتفي باستدعاء ما نراه من المكونات الأساس في الإسلام الأكثر دلالة على حديثنا في الحوار، وفي حاجة أهل الإسلام إلى محاورة بعضهم البعض وإلى محاورة العالم من حولهم. المكونات الأساس، من جهة النظر التي تصدر عنها، ثلاثة نذكرها على جهة الاختصار.

أ- العلم- وهل أدل على العلم ومكانته في الإسلام أفضل من الفعل الأوّل الذي خاطب الله تعالى به نبيّه في الوحي آمراً "إقرأ"؟ هل نحسن في حاجة إلى التذكير بآيات تامة البيان كما يقول الشافعي؟. (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28)، (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت/ 43) (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وفَصْلَ الْخطَابِ) (ص/ 20). هل نحن في حاجة إلى التنبيه على أحاديث نبويّة، لا يكتنفها ضعف ولا يشوب صحّتها شيء من رواية وسند، تشيد كلّها بالعلم وعلو شأنه، وبالعلماء وارتفاع قدرهم حتى أنّ مداد العلماء يوزن بدماء الشهداء فتعلو الكفة الأولى على الثانية وتفضلها.

ب- العقل- أليس في القرآن آيٌ كثيرة تحمل على التدبر في الكون والمخلوقات، وتدعو إلى إعمال العقل، وتحثّ على التمييز؟ أليس الشرط الأوّل في التكليف عند فقهاء الإسلام هو العقل؟ ألا ترى أنّ علماء الكلام يجمعون في كُتُب أصول الدِّين على القول بأنّ أوّل ما أوجبه الله تعالى على المكلف هو النظر (= إعمال العقل) المؤدي إلى معرفته تعالى! وإذا كان الحديث النبويّ يدعو، في مواطن عديدة من كُتُب الحديث قدسي إذ يقول (ص): "أوّل ما خلق الله العقل، قال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر..." إلى آخر الحديث يقرر فيه الخالق عزّوجلّ أنّ العقل أفضل ما خلق الله.

جـ- تكريم الإنسان والقول بتكريم الإنسان ورد مطلقاً، فليس القصد به مؤمن ولا كافر، بل هو ابن آدم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70)، وتكريم الإنسان يعني تكريم الإنسانية في الإنسان وحفظه من الامتهان. والأحاديث النبويّة، مرة أخرى، غزيرة مقطوع بصحّتها في معرض تكريم آدم وأبنائه، وفي التشريع الفقهي في الإسلام حديث غير قليل عن "حقوق الآدميين" مسلمين كانوا أم غير ذلك، مؤمنين بالله أو منكرين لوجوده.

ولتكريم الإنسان أبعاد ودلالات.

 

3- 3- الفعل والانتساب إلى العالم

القصد بالفعل في حديثنا هو الوقوف على درب التغيير والخطو بعد شحن الذات بنداء الانتفاض وعدم الرضا على الحال القائم. والحال التي لا سبيل إلى الرضا عنها لها مظاهر وتجلّيات، قد نذكر منها الأُمّية بأصنافها العديدة ودرجاتها التي أدناها عدم القدرة على التهجي وفك طلاسم الحروف والأرقام، وأعلاها الإفادة من تكنولوجيا الحديثة إذ تقتحم الحياة اليومية وتيسر أسبابها. ونذكر منها الفقر الشديد الذي يبلغ درجة البؤس وامتهان كرامة الإنسان (أليس اعتبار دخل فردي دون الدولار الواحد حطاً من كرامة بني آدم في زماننا هذا؟)، ونذكر منها التخبط في شرك الخرافة والشعوذة وما يماثلها من إغراق في الروحانيات إغراقاً يصرف عن الواقع أو قل إنّه إغراق يحيل الواقع، في عملٍ ظاهره الورع الشديد وباطنه إماتة العقل والارتماء في شرك الخنوع الذي يحعل المريد بين يده سيِّده الشيخ، شيخ الطريقة، أشبه ما يكون بالميت بين يدي غاسله كما يقال.

الرضا عن حال لا يمكن الرضا عنها يعني الفعل والعمل والإقرار بأنّه حتى نحاوِر (بكسر الواو) ونحاوَر (بفتح الواو) يجب ألا نكون أُمّيين، ولا في فقر مدقع يهين الكرامة، ولا في ظل فساد سياسي، ولا في حال عبودية لخرافة وشعوذة وتخدير من روحانية غريبة عن الإسلام على الحقيقة مميتة للعقل مُذهبة للقدرة على التمييز والفهم. والرضا عن حال لا يمكن الرضا عنها ليس يكون إلّا بالارتماء في الحداثة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وعدم النفور منها نفوراً مرضياً ونفاقاً لا يكشف عن هُويّة صاحبه.

هي إذن شروط ثلاث ومقدمات ضرورية لكلّ حوار يريد له أهل الإسلام أن يتصف بصفات الإمكان، والإنتاج، والإعداد من أجل التغيير ومفارقة حال الهوان والضعف.

ويشتكي الكثير من أهل ملة الإسلام من سوء الصورة التي ترتسم للإسلام والمسلمين في الوعي الثقافي الغربي عامّة، ويرون في مقدمة المهام التي يلزم المثقفين والمنظمات الثقافية الكبرى (ومنظمة العالم الإسلامي في طليعتها) الاطّلاع بها هي العمل على تصحيح تلك الصورة بكلّ الوسائل المتاحة. ولا شك أنّ تلك الصورة ليست في حاجة إلى إعادة تصحيح فحسب، بل إنّها تستوجب إعادة التكوين والاستئناف الجديد بتوسط الوسائل السمعية البصرية، وبمراجعة منهجية شاملة لما يكتب عن الإسلام في الكُتُب المدرسية والمؤلفات الجامعية، فضلاً عن القواميس والمعاجم الكبرى والمجامع الفكرية. ثم لا شك أنّ الجهد المبذول، جهد قليل يعوزه التنسيق من جانب أوّل، ويفتقر إلى الجدية والمثابرة والمعقولية من جانب ثانٍ. ثم لا شك أنّ هناك جهات، لا تنقصها الوسائل والإمكانات، تعمل بكلّ سبيل على الإساءة إلى صورة الإسلام والمسلم معاً. ولكننا نرى مهمة أخرى، أكثر إلحاحاً واستعجالاً، تستوجب المبادرة بالقيام بها. تلك هي مهمّة تصحيح صورة الإسلام عند المسلمين أنفسهم أوّلاً، لا بل إعادة رسمها وتركيبها تركيباً جديداً في ضوء ما يستجد من أحداث تمس المسلمين والإسلام معاً.►

 

المصدر: كتاب قولٌ في الحوار والتجديد (المسلمون والمستقبل)

ارسال التعليق

Top