• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإنفتاح أم البعد عن الغرب؟

محمد بن حامد الأحمري

الإنفتاح أم البعد عن الغرب؟

على متن رحلة للطيران البريطاني في عام 1996، كان إلى جانبي بريطاني من أصل أيرلندي، وفي أثناء الحديث ذكر لي أنّه اصطحب معه جوازي سفر، الجواز البريطاني والجواز الأيرلندي، وقال إنّه خائف من أن يختطف الطائرة أصوليون عرب لهم ثأر على بريطانيا، وفي هذه الحال سوف يبرز لهم الجواز الأيرلندي، حيث لا خصومة ولا حقد بين الأيرلنديين والعرب. أشياء كثيرة يمكن أن تدركها من كلامه، الخوف أحدها، والشعور بذنب البريطانيين تجاه العرب والمسلمين حقيقة أخرى. وشعور الغربي أنّ العالم ضاق عليه حقيقة ثالثة، وأنّ القوة وحدها تجعله مقبولاً، وأنّه مثار لغيره، كما يشعر هو أنّه مجلبة للكراهية، لأنّه أجبر الناس أن يكرهوه. فإذا كان الأيرلندي يشعر أنّه بلا جريمة، فهو يقر بعكس ذلك لحامل الجواز الآخر.
وظلم الغربيين للمسلمين وللمستضعفين في العالم حقيقة تحز قلوب المنصفين والراحمين الغربيين المهمشين، وأشار إلى هذه الحقيبة وزير العدل الأمريكي الأسبق رمزي كلارك بأنّهم ظلموا أكثر مما يعرفون ومما يتوقعون. أصبح الغربي في بلاد المسلمين يترقب أن تنتهي مهمته أو رحلته ليهرب ويختفي في بلده، يختفي من عالم يكرهه، أو يحقد عليه، أو يحسده، أو يحاربه، أو يغتاله! وبعد عودته فإن تجار السلاح وملاك الشركات عابرة القارات لن يطيب لهم أن يأمن العالم، وسوف يعملون على إخافته إلى آخر لحظة، ليبرروا إستبدادهم به، وسلبه الضرائب، وترويعه ليقولوا نحن أمّناك، كما هي سياحة حزب بوش الابن، التي عبّر عنها أحد الأمريكان: "إننا لا نصنع إلا أن نخاف!!" فتجارة الخوف والتخويف والترويع هي تجارة السياسي الأمريكي والبريطاني الرابحة سياسياً ومالياً.
كانت القاعدة المسلّم بها أن "مجتمعات المسلمين منغلقة، ومجتمعات الغربيين منفتحة!!" تلك كانت القاعدة القديمة، ولكنها زالت، ومن بقي يؤمن بها سيكون مثيراً للسخرية، إلا إذا كان الإنفتاح عنده هو التعري والشذوذ وما أشبه. لأنّه سيجد عقبات لا تُحصى إن أراد السفر للمجتمع المنفتح، وإن كان مقيماً في المجتمع الغربي، ثمّ كانت عنده فكرة مخالفة للسياق فإنّه سيجد المجتمع الغربي مغلقاً أكثر، اليوم تغيرت الحال، فأصبح الغربي يشعر بشعور الغني المحسود، فيغلق منافذ داره ويرفع أسواره في وجه الفضوليين، ومع الزمن تحول الشعور بالحسد إلى خوف، وتحول خوف الغربي إلى هاجس رعب، وبروز للوحشية الغربية المشهورة.
الجدران العالية التي يبنيها الغربيون حول أنفسهم الآن، في غاية الطرافة والتعبير عن التحولات النفسية والعالمية، والرعب المحاصر لهم، فالمستعمرون الخارجون للعالم يفتحون العالم ويتسامحون، ويهدمون الأسوار في حال الإنطلاق، ولكنهم اليوم فعلاً يخافون، ويرهبون غيرهم، ويسمحون بتأكيد سياسة الأسوار ويمتدحونها، وكانت مظهراً مختلفاً يعيرون به الروس، فكلمة "الستار الحديدي" لم ننسها بعد، كانت شتيمة للشيوعيين، ولكن الغربيين الآن يبنون هذه الأسوار والحواجز حول أنفسهم في كل مكان، وعبارة العالم الحر أصبحت "العالم المغلق أو العالم المسوّر"، وهي أسوار مكلفة ومرعبة لهم حين يحلمون ليلاً ونهاراً أنهم يرون أنّ البرابرة على الأبواب كما يقولون، أو في كل مكان. وهي ليست كجدران الأغنياء، ولا كجدران العزل لليهود في الحارات القديمة في أوروبا، إنّه عالم جديد، ومخيلة محاصرة غير منفتحة، مخيلة خائفة، من كل شيء، وانظر إلى أسوار السفارات الأمريكية في العالم، لقد أصبحت عبئاً على المدن، وعلى الجيران، وعلى الحكومة الأمريكية نفسها.
ما الذي يصنع هؤلاء لأنفسهم؟ وما هذا الرعب المهيمن؟ إنهم يحاصرون أنفسهم قبل أن يحاصرهم خصومهم ويبالغون في تخويف أنفسهم بأنفسهم!! يبدو أنّها اليوم قلاع المنتصرين، أو جنة المحسودين، ولكنها قد تكون غداً مأوى الخائفين!! وما أعجب السنن؟
التاريخ لا يتكرر، ولكنه لا يرحم من لا يعتبر، حين وقف التوسع الإسلامي وبدأ ينكمش، وساد الخوف عند المجتمعات الإسلامية من الغزاة، صنع المسلمون آنذاك أفكاراً تعزلهم، ويبالغون في البحث عن أدلتها، وبالغوا في محاولات التميز، والمفاضلة، وأغلقوا مدنهم، ورفعوا أسوارها، وقبعوا فيها يرهبون قدوم الغزاة، أو قدوم البرابرة من الغرب، أو من الشرق، وطال الترقب وتهدمت الأسوار قبل وصول الغزاة، ولما وصل الغزاة لم يكن للمدن أسوار!!
الإنفتاح ثمرة للشعور بالقوة والعزة، أمّا العزلة فهي نتيجة للشعور بالضعف. فمن شعر بالضعف توارى، واختلق كل المعاذير التي تبرر له أن ينطوي على نفسه، وسيملك كل يوم عذراً، والعذر القادم أقوى من سابقه. والعزلة والإنفتاح في حياة الأفراد والشعوب مرتبطة بالوضع الفكري والنفسي الذي يعيشه الفرد والمجتمع.
عندما صعد الغرب صعوده الأخير تلقاه المسلمون بالهروب منه وبالعزلة، وبالمفاصلة والتهرب والإستنكار، والكراهية لكل مكوناته. سواء أكانت صادراته علماً أم صناعة أم غيرها. وكان لبعض علماء الإسلام دور مهم في هذا، ولسنا في صدد تقييم الموقف السابق، غير أنّهم رأوا في عملهم خير وسيلة للوقاية من شر مروع قادم.
اليوم يتسع العالم الإسلامي ويبتلع سكانه مساحتهم الأرضية، ويمتدون لغيرها، وتضيق عليهم الآفاق، ويحاصرهم الغربيون ويمنعون حركتهم، ولهذا يجب أن نسعى لأن يكون في العالم إنفتاح حدودي وثقافي وسياسي وإجتماعي، وحقق الغربيون كل ما يريدون من الإنفتاح لهم في بلاد المسلمين وزيادة، فجوازات سفرهم مقدسة، وجوازات سفر المسلمين بلا قيمة، ترفض عند أغلب السفارات، وتسد أمام أصحابها طرق العيش وسبل العمل.
آن أن نتعامل بشيء من الإعتراف بحق الإنسان المسلم في أن يعيش في عالم لا يغلق في وجهه بكل وسيلة، وأن ينتهي الحصار المفروض على المسلمين وعلى حركتهم، يشتعل السوق بالدعاية للإستثمار الغربي، ولذهاب المال لأسواق أوروبا وأمريكا، ثمّ يمنعون التاجر من أن يتابع مصير تجارته! ويمنعون الباحث من أن يقرأ أو يتابع في مجال دراسته، ويمنعون المرضى من فرص العلاج.
لن يستطيع هؤلاء أن يحققوا الخير المحض لأنفسهم، ويصدروا الرعب والفقر والحرب للعالم الإسلامي، ولا أن يستثمروا العالم وهم معزولون عنه، فسوف تقوم قوى تحيا مع الناس، وتشاركهم آمالهم وآلامهم، ومشاعر التعاون والتماثل وتبني معها العلوم والسفر والتجارة، ولعل ما يحدث من توجه السياحة لبلدان إسلامية مساهمة في هذا التغيير. فالسياحة هي ثروة ومعرفة وصداقة وتجاوب، والسائح قد يكون مستكشفاً، ورائداً لنفسه ولغيره.
تلقى العالم الإسلامي اليوم ضربات الغرب كلها، وأشدها الضربة الثقافية، وما تراه من مظاهر التخلف والعهر والفسق هي البضاعة التي بقي الغرب يجبر المسلمين على سلوكها، ويمتص ثروتهم بحقوقها الفكرية، وينشر بها هامشاً تافهاً متغرباً، يعيش على هامش الغرب، وعلى هامش العالم الإسلامي، وهو هامش ثري ثروة المنعطفات الحدودية، حيث تلتقي الأجزاء المختلفة فتفرض هشاشة وليونة وليست من الطرفين المختلفين. وهذه البيئات الرخوة مزدحمة بالمتناقضات، وتقدم ما كانوا يسمونه بخدمات البحّارة.
هذه المغاضن المؤذية بما تجمعه من أذى لا تستطيع أن تكون هي جسم الأُمّة، ولم تكن يوماً كذلك. غير أنّ الأمريكان في صراعهم مع الروس استخدموها وأنتجت أثراً كبيراً، فالخمر والنساء والموسيقى والمخدرات والفساد والفكر العبثي، وصور البنات لابسات الجينز، والمترفهات بالدخان والكوكا كولا، عملت عمل جيش في تدمير روح الشباب الشرقي. وكذلك المجلات التي سخرت لمهاجمة "الأيديولوجيا" ويقصدون الفكر والمواقف اليسارية، وكان لهذا النوع بالغ الأثر في هدم الثقة بالشيوعية.
واليوم نحن نستقبل هجوماً ثقافياً عارماً من نوع المجلات وثقافة المغاضن، ولكن الجسم الإسلامي اليوم حي، وفي أحسن مراحل حيويته منذ قرون عديدة، وستكون قدرته على نفي ثقافة المغاضن وسمومها قوية، وستكون غالباً مواطن تعارف، وتجاوب، وقد يستطيع قلب بعض الشرور لأن تكون منارات إفادة وتأثير.
بناء ثقافة التجاوب والتأثير والمشاركة له مشكلاته الكثيرة، غير أنّ الجسم الإسلامي يبدو اليوم أقدر على المخالطة للعالم وبتأثر، وسلبية أقل من السابق. ولأنّ العزلة الغربية التي يراد فرضها اليوم على الثقافة الإسلامية، بحيث تصبح ثقافة شريرة محظورة، مثلما كانت الشيوعية ثقافة الشر ذات يوم، واستخدم الإسلام لمحاربتها، ولكنه جاوز دور أن يستخدمه أحد ضد نفسه، فإنّهم يريدون عزله وحصاره، وتمزيقه من داخله، فإذا عزل خاف وانكمش، كما يتمنون، وبالتالي جعله معزولاً خائفاً، وبالتالي غير موثوق، ولهذا فمخالطة العالم، وتثقيفه، وحسن عرض ما عندنا وتنويع سبله سوف يبقي الزخم، والإقناع – للمسلمين – والتأثير في غيرهم.


المصدر: كتاب ملامح المستقبل

تعليقات

  • مهند الاسدي

    بنظري ان العرب هم من ظلموا أنفسهم والغربييون معهم كل الحق بالهروب من البلاد العربية والعربي للاسف في أغلب الأحيان قليل التطلع للمستقبل ونظرته للامور على الأغلب آنية

ارسال التعليق

Top