• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المسلمون وكتابة التاريخ

د. عماد الدين خليل

المسلمون وكتابة التاريخ
  ◄في عصر التخصّص هذا لم يعد ممكناً الدخول إلى ساحة التاريخ من باب واحد، بعد إذ أصبح علماً، أو نشاطاً معرفياً ذا طبقات شتى، فكان لابدّ من الولوج إليه من أبواب متفرّقة يُفضي كلّ واحد منها إلى طبقة أو دور من عمرانه ذي الطبقات والأدوار.

وبقدر ما يتعلق الأمر بإسلامية هذا العلم، فإنّ علينا – أوّلاً – أن نتبين جيداً مسالكه وأبوابه، وأن نضع نصب أعيننا خرائطه التفصيلية كي لا تتبقى أية مساحة، لا تمتد إليها المحاولة – فتعيد تكييفها إسلامياً، إنْ على مستوى المنهج أو الموضوع، بغضّ النظر عن حجم الجهد والمدى الزمني المطلوب.

وبمقدور المرء أن يؤشّر ها هنا، مجرد تأشير، على السياقات أو المحاور الأساسية للنشاط المعرفي التاريخي.

هناك سياق أو محور يُعنى بنشوء التدوين التاريخي وتطوره حتى أصبح علماً، وهذا يتضمّن بطبيعة الحال تحليلاً (هستريوغرافياً) تنطوي فيه دراسات جلّ أولئك الذين أسهموا في هذه المسيرة عبر طريقها الطويل، من رواة وإخباريين ومؤرخين، فضلاً عن تحليل أنماط التدوين ما بين عام ومحلي، حضاري وسياسي، تراجم وحوليات، وموسوعي ومتخصص إلخ.. مما هو معروف لدى الباحثين.

وهناك سياق ثانٍ يهتم بمنهج البحث التاريخي الذي يستهدف بلوغ الواقعة التاريخية، أو مقاربتها في الأقلّ، والذي تحقّق بأقصى وتائر النموّ في تقنيّاته، في العقود الأخيرة، بسببٍ من تراكم الخبرات، والانفجار المعرفي الذي هيّأ له أدوات عمل متقدمة (علوماً مساعدة) على قدر كبير من الاكتمال والقدرة على إضاءة الطريق أمام البحث التاريخي وإعانته على هدفه المذكور.

وثمة سياق ثالث يذهب إلى محاولة تفسير القوانين والسنن التي تتشكل بموجبها معطيات التاريخ بوقائعه المزدحمة المتشابكة من أجل وضع اليد على مجموعات نمطية من المؤثرات التي تتحكم بالحركة التاريخية فتسوقها في هذا الاتجاه أو ذاك، والتي ترتّب النتائج والمسببات على الأوّليات والأسباب، فيما يعرف بفلسفة التاريخ.

يوازي هذا كلّه رابع، يتمثل بالبحث التاريخي نفسه، ذلك الذي يعنى بالحديث عن هذه الواقعة أو تلك، مكتفياً بجمع الروايات عنها حيناً، محلّلاً مقارناً مفسّراً حيناً آخر، مما يشكل – في حقيقة الأمر – المساحة الأكثر اتساعاً في معطيات النشاط المعرفي التاريخي.

فبمجرد إلقاء نظرة عابرة على أيّة مكتبة تاريخية، فإننا سوف نجد معظم محتوياتها تنضوي تحت السياق الأخير، ولا تتبقى سوى قلّة منها تغذي السياقات الثلاثة الأولى: النشأة، والتطور، المنهج، والفلسفة.

ولحسن الحظ فإنّ العقود الأخيرة على وجه الخصوص، بدأت تشهد نشاطاً ملحوظاً، على مستوييْ الكم والنوع، في هذه السياقات قد يبلغ في عقدنا الراهن درجة التدفّق التي تحتّم على المؤرخ المسلم أن يشمّر عن ساعد الجد، لكي يكون قديراً على احتواء الموجة ما وسعه الجهد، وتوظيفها في دائرة أسلمة المعرفة التاريخية.

وقد يكون هذا بحدّ ذاته ما يبرّر محاولة الأخ الدكتور عبدالعليم عبدالرحمن خضر في تأليفه الكتاب الذي بين أيدينا، وما يسوّغ معه قيام (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) بوضعه تحت تصرّف القرّاء.

إنّ هذا الكتاب – برغم اختلافي مع مؤلفه في بعض المسائل – يعالج، وبرؤية إسلامية صافية، العديد من الموضوعات والمفردات التي تمسّ النشأة والتطور حيناً، وتتحدث عن (المنهج) حيناً آخر، وتمضي لكي تدلي بدلوها في (فلسفة التاريخ) حيناً ثالثاً.

وبنظرة على محتويات الكتاب: بعناوينه الرئيسية وموضوعاته الفرعية، يمكن للمرء أن يتبيّن المساحة الواسعة التي اجتازها المؤلف عبر هذه المحاور الثلاثة، محاولاً، بقدر كبير من الإخلاص للحقّ، أن يقدّم رؤية إسلامية لهذه المسألة، أو تلك من المسائل المزدحمة المتشابكة في معمار المعرفة التاريخية المتشعّب وخرائطها المعقدة الصعبة.

ولقد قام المؤلف بتغذية مؤلّفه وتوثيقه بحشد غير قليل من النصوص والاستشهادات، سواء من المصادر العربية القديمة، أم الدراسات والبحواث الحديثة، عربية وغير عربية، الأمر الذي يمنح الكتاب قيمة علمية ويوسّع آفاق التحليلات المقارنة التي تمثل واحدة من أهم ميزات الكتاب.

ومن أجل تأسيس رؤية إسلامية وتوكيدها أوْلى المؤلف معطيات القرآن، الكريم والسنة الشريفة أهمية بالغة، هذا إلى أنّه منح القناعة لقارئه بالدور الرائد، والجهد المبتكر، على مستوى الموضوع والمنهج، ذلك الذي نفذه المسلمون، زمن تألّقهم الحضاري، بصدد تطوير علم التاريخ ورسم مناهجه.

والمؤلف يتجاوز منطق الدفاع عن المنظور الإسلامي للتاريخ إزاء المعطيات الوضعية، ويتحوّل إلى نقد هذه المعطيات، فيما هو واضح في الفصلين الأوّل والسادس، وهو أمرٌ ضروري لتأكيد أصالة المنظور الإسلامية، وتجاوز مرحلة الإعجاب والأخذ غير الممحّص عن الغير.

ويلمح المرء – في مقابل هذا – وعبر الفصلين المذكورين وبخاصة أوّلهما – فقرات، بل صفحات بأكملها لا تتجاوز مهمة سرد النصوص التي تتحدث عن مسائل شتى تتعلق بعلم التاريخ وعلاقته بالعلوم الأخرى، وأهمية علم التاريخ، وببعض الاتجاهات الحديثة في مجال البحث التاريخي.. إلخ، مما هو معروف لدى الباحثين، وقد لا يكون مرتبطاً ارتباطاً منهجياً بصلب الكتاب الذي أريد له أن (يؤصّل) للمنظور الإسلامي في مجال الفكر التاريخي.

وبرغم أنّ المؤلف يخصص الفصل الرابع لتحليل (ملامح المنهج العلمي لتدوين التاريخ عند ابن خلدون) فإننا نجد مساحات واسعة من الفصل الثالث الذي يسبقه تخصص لابن خلدون كذلك (انظر الصفحات: 87-103) وهذا يمثل ولا ريب توزيعاً للمادة قد يريك القارئ، فما دام المؤلف قد خصّ ابن خلدون بفصل مستقل، فليس ثمة مبرر لتخصيص هذه المساحة الواسعة عنه في فصل سابق، بالرغم من أنها تعالج ما يمسّ الفصل المذكور.

هناك مساحة واسعة من الفصل السابع (نحو منهج إسلامي لإعادة كتابة التاريخ) (وبخاصة الصفحات: 251-266) لا ترتبط بهذا الفصل قدر ارتباطها بالفصل الخامس الذي يتناول (مناهج البحث التاريخي عند المسلمين، كما أنها أقرب كذلك إلى الفصل الثاني الذي يتناول (علم التاريخ عند المسلمين.. كما أنّ المؤلف في بقية صفحات الفصل السابع المذكور يطرح بعض الملامح الأساسية للمنهج الإسلامي، ويناقش بعض المحاولات، التي انحرفت عن هذا المنهج، ويتمنى المرء لو أضيف إلى هذا برنامج عمل، أو مقترحات محدّدة في كيفية الإفادة من هذا (المنهج) لإعادة كتابة التاريخ).

مهما يكن من أمر، فإنّ الكتاب يغذّي توجّهات عديدة في دائرة أسلمة التاريخ، ويفتح آفاقاً شتى للبحث والتقنين، كما أنّه يشجّع الباحثين الآخرين، لكي يدلوا بدلوهم في واحد أو أكثر من سياقات الفكر التاريخي: تأسيساً وتنظيراً، أو مقارنة ونقداً وتحليلاً، أو تركيباً وتطبيقاً.

وعلينا أن نتذكر ها هنا أن روّاد المعرفة التاريخية في حضارتنا الإسلامية أيام ازدهارها وتألّقها. لم يألوا جهداً في أي من السياقات الأساسية لهذا الحقل، فأسهموا في تأسيس وتطوير هذا العلم، ووضعوا مناهجه، وزادوها بلورة ونضجاً، وسعى بعضهم إلى تفسير الواقعة التاريخية. والتأشير على السنن والقوانين التي تتشكل بمقتضاها، فكانوا روّاداً في حقل (فلسفة التاريخ) البكر.. هذا إلى ذلك الكم الهائل الذي قدّموه في مجال البحث التاريخي والذي لم يكد يترك صغيرة ولا كبيرة إلّا أتى عليها، فيما لم ترق إليه تواريخ الأُمم والشعوب الأخرى، في أي مقياس من المقاييس.

لكن هذا كلّه لا يكفي، أو يبرّر، أيّة ممارسة من ممارسات الانغلاق على الذات، أو التحقق بالاكتفاء الذاتي في مجال النشاط المعرفي التاريخي، وأنه لابدّ من الانفتاح على هذه المعرفة النامية المتطورة على مستوى العالم كلّه. أخذاً ونقداً وتمحصياً..

والذي يدفع إلى هذا أكثر من أمر يجعله (ضرورة) محتومة، وليس ترفاً أو اختياراً، ويبدو أنّ أكثر هذه الدوافع إلحاحاً، كون الخبرة التاريخية في سياقاتها المختلفة مسألة ديناميكية تواصل سعيها للنموّ والاكتمال، مستفيدة إلى حد كبيرٍ من قانون تراكم الخبرة الذي تمثل معطيات حضارتنا الإسلامية عنصراً أساسياً فاعلاً في إغناء مكوّناته.. وأنها (أي الخبرة التاريخية) قد بلغت في العقود الأخيرة من القرن العشرين مرتقى صعباً، بالاستمداد منها، والإفادة من نتائجها، قد نستردّ بعض ما أسديناه لها من ديْن.

هذا إلى أنّ سياقات أو محاور المعرفة التاريخية ليست على قدم سواء، فهي في بعض مساحاتها تنطوي على بطانة أو خلفية قد ترتطم – ابتداءً – بالتصوّر الإسلامي للمعرفة التاريخية، وبالتالي فإنّ لنا أن نتجاوزها، ولكن ليس قبل أن نخبرها جيداً، ونسعى لأن نهدم حججها وأسانيدها، لأنّ هذا – بحد ذاته – يمنح التصوّر الإسلامي فرصة أكبر لإثبات الذات، ويعطي المزيد من المبرّرات الملحّة لأسلمة هذا الحقل الذي تجاوز الوضعيون صراطه المستقيم فضلّوا وأضلّوا.

إلّا أنّ المعرفة التاريخية في مساحات أخرى منها، وبخاصة تلك التي تتعلق بتقنيّات المنهج، إنما تمثل خبرة حيادية، سنكون مخطئين مقصّرين إن لم نسع للإفادة منها في تطوير مناهجنا وإغنائها، فيما يعين على أن نمضي إلى أهدافنا في مجال أسلمة المعرفة التاريخية، بخطى أسرع وأكثر خبرة ووعياً حِرَفياً.

وغير التقنيات، كشوف ذات قيمة بالغة في هذا الجانب أو ذاك من تاريخ البشرية، بحثاً وتحليلاً وتركيباً وتفسيراً.

إنّها معادلة صعبة.. نعم.. لكن وضوح الرؤية العقدية، وتنامي الخبرة التاريخية في سياقاتها كافة لدى الإسلاميين، ستعين – ولا شكّ – على فكّ لغزها، وتوظيف محصّلتها الأخيرة لصالح إسلامية هذا الفرع المهم، من فروع المعرفة الإنسانية.

ولن تكون المسألة ها هنا إلّا كما كانت هناك، على كافة صُعُد التعامل الثقافي مع الغيْر: تحكيم الخبرة المتشكّلة في دائرة التصوّر الإسلامي الأصيل، من أجل ألّا يمرّ، إلّا كلّ ما يمكن أن يعين على البناء.

 

كاتب المقال: د. عبدالعليم عبدالرحمن خضر

المصدر: كتاب الوحدة والتنوع في تاريخ المسلمين (بحوث في التاريخ والحضارة الإسلامية)

ارسال التعليق

Top