• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القراءة وتطور الفكر

محمّد عدنان سالم

القراءة وتطور الفكر

القراءة قبل الولادة.. (القراءة الجينية):

لقد خُلق الإنسان قارئاً، ومزوّداً بكمية كبيرة من المعلومات.. إنّه يقرأ صفاته النوعية، وكثيراً من قواعد السلوك في كتاب مورثاته (جيناته)، ويلتزمها بكلّ دقة، فإذا ما وسع قراءته إلى موروثات الآخرين، وضمّها إليه، أمكن أن يرتقي في سلم المال، وتحسين النوع إلى مستوى أفضل.

لقد أدرك الناس منذ القدم، ما للوراثة من أثر كبير في الحفاظ على النوع، ومارسوا التهجين لتحسين النسل. ثمّ جاء علم الوراثة الحديث ليؤكد قدرة الإنسان على الاحتفاظ بصفاته المميزة، والحصول لسلالاته من بعده على أحسن فرص الحياة، من خلال التعمق في دراسة المورثات (الجينات) وخصائصها.

وها هو القرآن الكريم يرسم لنا صورة رائعة لميثاقٍ كبير، استقر في مورثات الإنسان؛ فطرةً فطر الله الناس عليها (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم/ 3).

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (الأعراف/ 172-173).

لا أريد أن أتدخل في هذه الصورة خشية أن أشوهها، بل أترك للقارئ أن يستمتع بهذا المشهد العظيم، الذي تم فيه أخذ الميثاق؛ البيعة، بإيجاب وقبول بين الله الخالق الواحد الأحد وجموع البشرية المحتشدة بكلّ أجيالها، ممثلة بموروثاتها (جيناتها): (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) (الأعراف/ 172).

وانتقل إلى صورة أخرى لقراءة جينية، لا تقل عن سابقتها روعة:

 

آدم يقرأ الأسماء:

ففي البدء كان الكلمة، وعندما أراد الله أن يخلق آدم من طين، ويحمله مسؤولية خلافته في الأرض، (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة/ 31)، وسلّحه بالعلم والمعرفة، ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء، فعجزت الملائكة، وأنبأهم آدم بها، فأثبت جدارته، وفاز في مسابقته الملائكة (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الأعراف/ 11).

وسكن آدم وزوجه الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض ليتقلد فيها منصب الخلافة تعرّض لامتحان جديد، كان أشد وطأة من امتحانه الأوّل، حين أغراه الشيطان بالأكل من الشجرة التي نهاه الله هو وزوجه عن الأكل منها، فاستجاب لإغراء الشيطان وعصى وزوجه أمر ربِّهما، فبدت لهما سوءاتهما، وتعلما من تجربتهما درساً قاسياً، وقفا على أثره في قفص الاتّهام (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأعراف/ 22)، فلم يتنصلا من المسؤولية، ولم يلقيا بالتبعة واللوم على الآخرين، بل (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 23)، فنجّاهما في الامتحان الثاني، وأثبتا جدارتهما بالخلافة فقال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ) (الأحزاب/ 72)، وصدر حكم الله تعالى بهبوطهما إلى الأرض ليحملا أمانتها والمسؤولية عنها التي تعهدوا بحملها بمحض إرادتهما واختيارهما.

ولئن كان آدم قد خاض منفرداً تجربته الأولى مع الملائكة (والتي كانت في اتجاه واحد لا منازع فيه)؛ إنّه في تجربته الثانية مع الشيطان قد تعزز بزوجه لتشد من أزره في حلبة الصراع، وليتعاونا في معترك الحياة، يتعلمان فيها من تجاربهما وأخطائهما، كيف يصلان إلى الحقّ عبر الباطل، ويهتديان إلى الرشد عبر الضلال. (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10).

وتكاثرت الذرية من آدم وحواء وقال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).

وظلت قراءة آدم للأسماء التي علمه إياها الله، وكرّمه بمعرفتها، وللمسؤولية التي حملها إثر تجربته الأولى مع الشيطان، وأثبت بها جدارته بالخلافة في الأرض... ظلت مستقرة في مورثات الأجيال، فطرةً تقرؤها عندما تخلق.

 

القراءة الجنينية:

وفي الرحم، كانت أمك تقرأ لك أمانيّها وأحلامَها، تناجيك وأنت جنين في بطنها، فتسري نجواها إلى ذاكرتك البكر، لتكون أوّل المُدخلات المختزنة فيها.

وكنت تسترق السمع، متنصتاً على والديك؛ تسعد لوشوشاتهما الودودة، وتقلق لشجاراتهما الحانقة، ويستقر ذلك كلّه في وجدانك، ليؤثر في بنيانك النفسي بعد الولادة.

 

الأذان في أُذُن المولود:

سنّة شرعها الإسلام، ليكون الأذان أوّل ما يقرع سمع المولود وهو يستقبل الحياة. عن أبي رافع قال: رأيت رسول الله (ص): "أذّن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة" رواه أبو داود والترمذي وقالا حديث صحيح.

قال ابن القيِّم: "سرُّ التأذين، والله أعلم، أن يكون أوّل ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمّنة لكبرياء الرّب وعظمته.. وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه، وإن لم يشعر".

 

قراءة الوجوه والقسمات:

(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 78).

فمن أجل أن يتعرّف المولود على محيطه الجديد، ويتكيف مع بيئته، ويتعرّف على مجتمعه، فإنّه يقرأ في وجوه الآخرين وقسماتهم، سلوكهم وتصرفاتهم، كما يقرأ الكيفية التي يستقبلون فيها سلوكه وتصرفاته.. إنّها اللغة الصامتة بلا أحرف ولا أصوات، فهو يقرأ في وجوههم البشاشة أو التقطيب تعبيراً عن الرضا أو الغضب حيال تصرفاته، وتستقر هذه المعلومات في ذاكرته وفؤاده، استعداداً لتوسيعها عن طريق ما وهبه الله من وسائل المعرفة؛ السمع والبصر.

وتلك هي قراءة (الفطرة)، حيث كلّ مولود يولد على الفطرة، مزوداً بكمية من المعلومات المختزنة في ذاكرته، والتي تجعل منه عالِماً صغيراً، بالرغم من أنّ مَن حَوْله لا يستطيعون أن يكتشفوا ما يدور في ذهنه، لانعدام اللغة المشتركة بينهم وبينه.

وهي مرحلة (المهد) التي يبدأ الإنسان فيها بتلقي (العلم)، وعليه أن يواصل مسيرته مع العلم والتعلم، إلى أن يدخل في (اللحد).

 

قراءة اللغات صامتة ومكتوبة:

ويبدأ الطفل بقراءة اللغة الصائتة، وهي المؤلفة من أصوات تخرج من الأفواه، وتتمايز حسب تفاوت مخارجها بين الحلق والشفتين، وتشكل رموزاً تعبر، حين يتركب بعضها مع بعض، عن معانٍ ومدلولات، وتختلف هذه الرموز من بيئة إلى أخرى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الرّوم/ 22).

ثمّ يتدرج الطفل ليقرأ اللغة المكتوبة، فتزداد معارفه بقدر ما نوليه من اهتمام ورعايته، وما نقدم له من زاد معرفي يشبع نهمه وتطلعاته.

إنّ ما يميز الطفولة المبكرة في عمر الإنسان هو قابليته للنمو الجسدي والمعرفي بشكل متسارع وملموس، ومثلما يحتاج نموه الجسدي إلى الغذاء المركز، فإنّ نموه المعرفي يحتاج كذلك إلى الزاد العلمي المركز، وذاكرته البكر متأهبة لتلقي المزيد من المعلومات، بل إنّ نهمه إلى المعرفة، وحبه لاستطلاع محيطه يثير في نفسه كمّاً كبيراً من الأسئلة، يستقبله بعض الآباء بالتجاهل فيصيبون طفلهم بالإحباط والخيبة، لكنه لا يمل من تكرار أسئلته عليهم من جديد ليروي ظمأه إلى المعرفة.

ولقد درج الناس على إهمال تعليم أطفالهم (القراءة) قبل سن الخامسة ظنّاً منهم أنّ الطفل في مرحلة (الحضانة) لا يُحسن تلقي المعلومات عن طريق البصر كما يتلقاها عن طريق السمع، فيكتفون بتلقينه اللغة الصائتة، ويحرمونه من متعة اكتساب المعرفة عن طريق البصر بواسطة القراءة للكلمة المكتوبة، قبل أن يجلس لتلقيها على مقاعد الدرس.

 

القراءة في المدرسة:

وعلى مقاعد الدرس تبدأ رحلتك مع الحرف المكتوب، ومع الكتاب.. تتلقى فيها تعليمك الإلزامي، وتلقن أساسيات العلوم، دون أي خيار لك فيما يقدم إليك من زاد، بل إنّ عليك أن تزدرد الجرعات التعليمية حتى لو لم تستسغها، وأن تتبنى كلّ وجهات النظر المدرسية حتى لو لم تأنس من نفسك القناعة بها، وأن تسير في برنامجك التعليمي حسب المنهج المعد لك دون أن تحيد عنه قيد أنملة... وإلّا سقطت في الامتحان. هذا ما اقتضته أنظمتنا التعليمية، ومضت في تطبيقه دون أي اكتراث بالمواهب الشابة، وإيجاد المناخ الملائم لتفتحها ونموها، دون مبالاة بما قد ينجم عن أحادية الثقافة من برمٍ بها وعزوف عنها.

إنّه نظام التعلم من أجل الحصول على الشهادات العلمية، والشهادات أوراق ضرورية لطرق أبواب الحياة، وتأمين المستقبل، وحتى التخصص العلمي فهو محكوم بالعلامات لا بالميول.

وما على الملكات الشابة إلّا أن تطفئ ظمأها العلمي والأدبي خارج نطاق البرامج التعليمية، ولا تدع لقناعاتها فرصة للتدخل أو التأثير على هذه البرامج، فمعايير الامتحانات، والسلالم المعدة لمنح العلامات، لا تكترث إلّا بما هو منصوص عليه في الكتب المقررة، وكم يُسعدُ الطلبة أن يقوم معلموهم بالتخفيف عنهم بحذف بعض الصفحات من الكتب المقررة، وكثيراً ما يعمد الطلبة إلى مساومة معلميهم ليتكرموا عليهم بمزيد من المحذوفات، وأحياناً تقع الكارثة عندما تأتي بعض أسئلة الامتحان من هذه المحذوفات.

إنّ هذا النظام التعليمي ربما يكون صالحاً لمحو الأمية، وإزالة عارها.. وهو على كلّ حال ناجح في تكوين الركائز العلمية لثقافة مشتركة تنتظم كلّ أفراد المجتمع، وتوحد معلوماتهم، حتى يخرجوا من مقاعد الدرس نسخاً متطابقة، يحملون ثقافة آلية، مثل كلّ منتج صناعي تنتجه الآلة، فيأتي متشابهاً في السمات والأوصاف، وأي شذوذ عن المواصفات المقررة، سوف تلفظه (مراقبة الجودة)، وترميه في سلة التالف (الستوك).

ولكن هل يستطيع الإنسان أن يضع عقله في (قالب)، مثلما كان الصينيون يضعون أرجل أولادهم في (قالب) ليصوغها في شكل معيّن، ويمنعها من التمدد خارجه؟!

 

المصدر: كتاب القراءة.. أوّلاً

ارسال التعليق

Top