• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

موسى (ع).. كليم الله

جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

موسى (ع).. كليم الله
- موسى (ع) والانتصار للحق: اعتنى القرآنُ الكريم بذكر قصة نبي الله موسى (ع) لما في قصة هذا النبي من دروسٍ وعبر، خصوصاً مع ما واجهه وعاناه من بني إسرائيل. لقد كان هذا النبي محلاً للعنايةِ الإلهيةِ منذ أن وضعته أمُّه وألقته في اليم بإلهام من الله، وتربَّى عند عدوه فرعون، وكانت عناية الله تعالى به أنّه (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص/ 14). وقد خصه الله عزّ وجلّ بالحكمة والعلم ومن يتصف بذلك لابدّ وأن ينطلق في كل عملٍ يقوم به ضمن ما يريده الله عزّ وجلّ ومنها نصرة المظلوم، لقد دخل موسى إلى المدينة (مصر)، هذه المدينة التي كان قوم موسى وهم بنو إسرائيل يعانون أشدَّ أنواع العذاب والظلم من فرعون وجنوده، ويصادف دخول موسى (ع) مع قيام عراك بين شخصين أحدهما من بني إسرائيل والآخر من جماعة فرعون، وورد أنّه كان طباخاً لفرعون وكان يُكره الإسرائيلي على حمل الحطب معه إلى قصر فرعون وهنا لما رأى هذا الإسرائيلي موسى وعرفه استنقذه، ومن الطبيعي أن يتدخل موسى فالذي استصرخه رجل مظلوم، فأقبل موسى لنصرته وقتل الذي من أصحاب فرعون. وما قام به موسى (ع) هنا لم يكن معصيةً على الإطلاق لأنّ ذلك الرجل كان يستحق القتل ولأنّ موسى (ع) إنما فعل ذلك دفعاً لظلمه وفساده، ولكن ذلك لم يكن لمصلحة موسى، لأنّ هذا الفعل سوف يؤدي إلى إيقاعه في مشاكل لا يريد موسى (ع) الدخول فيها وهو يبحث عن طريق الخلاص لقومه من ظلم فرعون. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (القصص/ 15-16). ولكن مجرد كون موسى قد استعجل بقتله للرجل لا يعني إطلاقاً أن نصرته للمظلوم كانت خطأً ولذلك قال موسى بعد ذلك: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (القصص/ 17). إذاً لا يصح على الإطلاق أن يكون الإنسان ممن يقدم المعونة للمجرمين وهذه المعونة قد تكون بالتقصير في نصرة المظلوم. وقد ورد في رواية عن الإمام الرضا (ع) ما يشرح به هذه الآيات عندما سأله المأمون عن قول الله عزّ وجلّ: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) (القصص/ 15)، فقال (ع): إنّ موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) (القصص/ 15)، فقضى موسى على العدو وبحكم الله تعالى ذكره (فَوَكَزَه) فمات (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)، يعنى الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (ع) من قتله (إنّه) يعنى الشيطان (عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (القصص/ 15)، فقال المأمون: فما معنى قول موسى (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (القصص/ 16)، قال: يقول: إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة (فاغفِرْ لِي) أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني[1].   - موسى ودعوة فرعون إلى الحق: يحدثنا القرآن الكريم عن فرعون وفساده، يقول تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 4). مثل هذا الإنسان كان على موسى أن يدعوه إلى الإيمان بالله والطاعة له، وهذا أمر ليس يسيراً، ولكن الله الذي اصطنع موسى لنفسه مكّنه من التصدي لهذا الأمر ليس يسيراً، ولكن الله الذي اصطنع موسى لنفسه مكّنه من التصدي لهذا الأمر ولذا أمره بالذهاب إلى فرعون لدعوته إلى الإيمان وكانت الوصية الإلهية لموسى أن تكون خطوته الأولى في الدعوة تعتمد على القول اللين: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) (طه/ 43-47). انّه المنطق الذي يعتمد اللغة الهادئة في الدعوة والتذكير بالله عزّ وجلّ وأنّ السلام إنّما يكون لمن اتبع الهدى. وأما الخطوة التالية فهي الآية أي الدليل على صدق مقولة موسى بأنّه مرسل من الله، وهي العصا المعجزة، وقد طلب فرعون الدليل وأخرج موسى له الدليل (قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (الأعراف/ 106-108). ولا مجال لفرعون أمام رآه من تحدٍّ إلا أن يكمل التحدي لأن إيمانه بما جاء به موسى يعني نهاية كل هذا التسلط والتجبر، وهذا أمر لا يمكن لفرعون الطاغي أن يفعله، ولأجل أن لا يتأثر من كان حاضراً في مجلس فرعون بمعجزة موسى خاطبهم فرعون بتحذيرهم من موسى عبر اتهامه بالسحر تارة وبالجنون أخرى، وهذه عادة الطغاة إذا جاءهم الرسول من ربهم. (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) (الشعراء/ 27-35). وكان الإتفاق على يوم التحدي وأن يكون في يوم عيد القوم لأن موسى (ع) أراد أن يستغل فرصة اجتماع الناس لتصل دعوته إلى مسامع أكبر عدد منهم. (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (طه/ 58-59).   - يوم الزينة والانقلاب على فرعون: لقد بذل فرعون كل جهده لتكون الغلبة له على موسى، ولعله كان يعتقد بذلك ويتيقن به، ولذا جمع الناس لمشاهدة هذا الأمر، وكذلك قام بالبحث عن كل ساحر في المدن والبلاد حتى وصفه الله عزّ وجلّ بقوله: (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى) (طه/ 60). ولم يكن ذلك من فرعون إلا لأنّه كان يرى انّه (قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) (طه/ 64). وهنا يعتمد موسى على تحذير السحرة الذين غرر بهم فرعون وتخويفهم من عذاب الله لأنّهم يتحدون رسوله: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) (طه/ 61). ولكن فرعون كان قد حذرهم من موسى محولاً المسألة إلى مصالح الناس جميعاً لأن في انتصار موسى هزيمة القوم وإخراجهم من أرضهم وأن تزول كل تقاليدهم وأعرافهم ومقدساتهم وديانتهم الوثنية (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) (طه/ 63). وهكذا انتقلت المسألة إلى المواجهة الفعلية، وفعلاً لقد أثَّر فعل السحرة في النفوس (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف/ 116). ولكن الله عزّ وجلّ كان في نصرة نبيّه موسى وثبت فؤاده (قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه/ 68-69). وهكذا انتصر موسى وحدث الإنقلاب على فرعون. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) (طه/ 70). وإيمان السحرة أوجد هزة قوية في النفوس لأن إيمانهم إقرار منهم بأن ما جاء به موسى لم يكن سحراً مما يتقنون صنعه، بل كان معجزة إلهية. ولذا عاقبهم فرعون بأشد أنواع العقاب. (لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) (الشعراء/ 49).   - الدروس المستفادة من قصة موسى: 1- إنّ الخطوة الأولى في الدعوة لابدّ وأن تعتمد على بيان الحق لأنّ العاقل يتبع الحق إذا وصل إليه. 2- إنّ على الداعية أن يكون ذا قدم راسخة في الدعوة وأن لا يضعف أمام أي تهويل قد يعتمده الضالون، ولذا تجرأ أهل الضلال على اتهام الأنبياء – عليهم السلام – بالسحر والجنون ولكن ذلك لم يضعف من عزيمة الأنبياء في الدعوة إلى الحق.   - خلاصة الدرس.. * لقد كان نبي الله موسى محلاً للعناية الإلهية منذ اليوم الأوّل له في هذه الدنيا حيث أنجاه من القتل. * اضطر موسى إلى مغادرة مصر لما انتصر لمظلوم من بني إسرائيل استنجده على رجل من أصحاب فرعون كان يتسلط عليه، ولم يكن فعل موسى هذا فعلاً محرماً لأنّ المقتول كان مستحقاً للقتل. * اعتمد موسى على دعوة فرعون إلى الحق على أسلوب الحوار الهادئ والقول الليّن ولمّا لم يجد منه استجابة تحدّاه بالمعجزة الإلهية (العصا). * آمن السحرة بمجرد أن رأؤوا معجزة موسى (ع) لأنهم علموا أن ما جاء موسى لم يكن من صنع البشر، وأحدث إيمانهم هزة في النفوس ولذا عاقبهم فرعون أشد العقاب. * الدروس المستفاد من قصة موسى هي أن على الداعي اعتماد الحوار الهادئ في الدعوة والإتيان بالأدلة والبراهين على صدق الدعوة، وأن لا يضعف ويصاب بالوهن عند اتهامه من قبل الآخرين ومحاولة تفريق الناس عنه.   الهامش:

[1] عيون أخبار الرضا (ع)، الشيخ الصدوق، ج2، ص 176-177.

   المصدر: كتاب ألو العزم (سلسلة دروس ثقافية 16)

ارسال التعليق

Top