• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رؤية الإسلام للتأريخ

د. محمود إسماعيل

رؤية الإسلام للتأريخ

◄إنّ ظهور الإسلام يمثّل ثورة عالمية عقيدية واقتصادية واجتماعية وفكرية أيضاً. وبديهي أن يأتي بتصوّر للتاريخ البشري في ماضيه وحاضره ومستقبله. وبمعنى آخر اكتسب الوجود الإنساني قيمة أفضل مما انطوت عليه اليهودية بنزعتها العنصرية الضيِّقة، والمسيحية التي ترى في الحياة الدنيوية قنطرة عبور للآخرة ليس إلّا.

وليس أدل على تبجيل الإسلام للواقع الإنساني المعيش، من اعتبار السلوك البشري إبان الحياة الدنيا هو المدخل الأساسي للحياة الأخروية، قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8). كذا دعوته الصريحة لإعمال العقل في تدبير شؤون الخلق دونما حدود، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت/ 20). هذا فضلاً عن تحديد مسؤولية البشر وحرّية إرادتهم فيما يصنعون، بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صُنع الإنسان، وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صُنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق. ومادام الإنسان يصنع تاريخه فالأولى به أن يعي هذا التاريخ ويحاول تدبّر علل ظواهره، لأنّ البحث والنظر في هذه العلل طريق إلى المعرفة الحقة بالعلة الأولى، فالعقل يُعمّق الإيمان، والحكمة لا تتعارض مع الشرع، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر/ 28).

والواقع الإنساني ـ الذي هو التاريخ بعينه ـ لا يجري حسب رؤية الإسلام اعتباطاً، وحركة تطوّره ليست عشوائية، وأحداثه لا تقع حسبما اتفق، بل كلّ ذلك محكوم بقوانين وسنن حسب اعتراف (ولفرد كانتل).

تلك السنن التي تبدأ (منذ بدأ الخلق) وحتى القيامة، بمعنى أنّ الإسلام طرح فكرة الزمان المستمر المتطوّر بدلاً من فكرة الدورية التي كانت سائدة قبلاً. كما أنّ السنن المُسيِّرة لحركة التاريخ لا تقتصر على شعب دون شعب، ولا على إقليم دون آخر، لأنّ الإسلام أُنزل للناس كافة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).

وطرح الإسلام فكرة احترام الماضي باعترافه بنبوة الأنبياء. وكون محمّد (ص) خاتم الأنبياء، لا يعني أنّ الإسلام يجب ما قبله، فيضع ستاراً يحول بين الماضي وبين الواقع الجديد كما تصوّر (مرجوليوث). بل رمز إلى استمرارية الماضي في الحاضر بحيث يصبح جزءاً جوهرياً من مكوناته، وفي ذلك تأكيد على مبدأ (الاستمرارية) الحياتية.

كما طرح فكرة التطلع للمستقبل، وربط بين طبيعة تصوّره وبين أفعال الإنسان في الحاضر، بما يؤكد شمولية تلك الاستمرارية، بحيث تحتوي وتربط بين خيوط الماضي والحاضر والمستقبل في وحدة عضوية لا تقبل التجزئة. ولا يقلل من قيمة تلك الوحدة ارتباطها بالدِّين كما ذهب (روزنتال)، فالثابت أنّ دعوة الإسلام دين ودنيا في وقت واحد، وذلك من عوامل حيويتها وثرائها. فالدِّين لم يقصد به الدعوة للتوحيد وحسب، (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97)، إنما أُنزل الدِّين (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

والقرآن الكريم ـ فضلاً عن ذلك ـ انطوى على عديد من الحقائق العلمية في حقل التاريخ التي اصطلح على تسميتها بالسنن حين عرض لتواريخ الأُمم السابقة المعروفة (أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)، (للعبرة والموعظة الحسنة). وتلك السنن هي التي نسميها بلغة العلم (قوانين)، ومنها قانون (الحتمية) و(الضرورة) فضلاً عن قانون (الصراع الطبقي)، وهي أُمور يمكن أن يستشفها الباحث المدقق حين يستكنه المغزى التعليمي الأخلاقي للتاريخ في القرآن.

وقد سبق أن قدمنا اجتهاداً في هذا الصدد لا ضير من إيراده تدليلاً على انطواء القرآن على رؤية علمية للتاريخ ذات طابع سوسيولوجي، نوجزها في النقاط التالية:

أوّلاً: عالمية الدعوة الإسلامية تمثّل نظرة شاملة متكاملة للوجود الإنساني (منذ بدأ الخلق) وإلى (البعث والحساب)، وفي ذلك إحاطة تامة برحلة البشرية عبر الزمان والمكان، وهما بُعدا حركة التاريخ كوحدة لا تقبل التجزئة.

ثانياً: هذه الحركة (ليست عشوائية) وإنما محكومة (بسنن حتمية)، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) (الأحزاب/ 38).

ثالثاً: هذه السنن أو القوانين يمكن الوقوف عليها من خلال (الصراع)، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ) (البقرة/ 251).

رابعاً: والصراع نتيجة لما جُبِل عليه الخلق من شهوة التملك، ونزعة الأثرة والأنانية، فالإنسان (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (المعارج/ 20-21).

خامساً: وإطلاق العنان لهذه الشهوات والنزعات الأنانية ينتهي بالبشر إلى التسلط والطغيان، (إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق/ 6-7).

سادساً: والتسلط والطغيان مسؤولية الإنسان وليسا من صُنع الله، فالله هو العدل سبحانه، وذاته منزهة عن الظلم، (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس/ 44).

سابعاً: والظلم يترتب عليه نتائج اجتماعية وبيلة تنتهي إلى خراب العمران بالضرورة، (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (يونس/ 13).

ثامناً: فالظلم يؤدي إلى خلخلة البناء الاجتماعي، بظهور الطبقات وتسلط بعضها على البعض الآخر، وعدم ارتداع الطبقات المتسلطة بالحسنى (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) (يونس/ 13).

تاسعاً: ويترتب على ذلك احتدام الصراع بين المظلومين والظلمة، لتشبث الظلمة بامتيازاتهم، باعتبارها شيئاً موروثاً، وكفرهم بالدعوات الإصلاحية، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (سبأ/ 34).

عاشراً: إذن فلا ردع إلّا بالعنف والقهر، بحيث يُحسم الصراع بالضرورة بسحق الظلمة وانتصار المستضعفين، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص/ 5).

هكذا انطوى القرآن الكريم على خيوط المادّية التاريخية كافة أكثر النظريات المستحدثة علمية في تفسير التاريخ حسبما نعتقد.

وإذا طفر القرآن الكريم بالفكر التاريخي طفرة كبرى، فإنّ الرسول (ص) في سننه وأحاديثه نحا المنحى نفسه، برغم ما زعمه بعض الدارسين من تسفيه الرسول للشعر والشعراء، تحريم رواية القصص، والاستخفاف بالنسب.. إلخ. فالواقع أنّ هؤلاء الدارسين لم يفطنوا إلى مغزى مواقف الرسول في هذا الصدد، فقد استجاز الرسول (ص) قول الشعر ـ وكان حسان بن ثابت شاعره ـ لكنّه رفض أن يُقال في الأغراض البذيئة التي كان يتبارى فيها الشعراء كالمجون والهجاء والفخر والمباهاة... إلخ، وكان القصص السائد في عصره ينطوي على المعاني نفسها كتقديس الملوك والأبطال والتعصب القومي والشعوبي.. إلخ، والشيء نفسه يُقال عن الأنساب بما انطوت عليه من روح العنجهية القبلية وإثارة الفِرقة، بما يتنافى ودعوة الإسلام لإقرار مجتمع الأخوة على صعيد العالم أجمع، هذا فضلاً عن المبالغات والأساطير والخرافات وغيرها من المثالب التي شابت الشعر والقصص وأقوال النسابة.

بل نجد الرسول على الصعيد العملي يحض على طلب العلم والمعارف بغض النظر عن مصادرها، قال (ص): "اطلبوا العلمَ ولو في الصين"، وأتاح روح التسامح في الجدل والحوار، واستخدم المنطق في حواره مع اليهود - كما هو معروف -، وأجلّ العلم والعلماء، وأخذ برأي المستنيرين دون تعصب أو جمود.

كلّ ذلك ـ وغيره ـ يؤكد أنّ الإسلام جاء برؤية علمية للتاريخ، فضلاً عما تضمنه من أصول وقواعد منهجية لدرسه، بالإضافة إلى مادّة تاريخية أصبحت عماد الدراسات التاريخية فيما بعد، وبالذات فيما يتعلق بالسيرة النبوية والمغازي وتاريخ الدعوة الإسلامية، وبعض أخبار الماضيين والمعاصرين للدعوة من الأُمم الأخرى.

والأخطر من ذلك كلّه ما جاء به من تشريع لتنظيم العلاقات الإنسانية وفق معايير أخلاقية تعدّ كسباً حقيقياً للبشرية. ►

 

المصدر: كتاب سوسيولوجيا الفكر الإسلامي

ارسال التعليق

Top