• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صيام الصالحين

حسني محمد بدوي

صيام الصالحين
   يعالج حجة الإسلام، الإمام الغزالي، في كتابه "إحياء علوم الدين"، فريضة الصوم معالجة دقيقة شاملة، فيتناول الأبعاد المختلفة للصوم.. الظاهرة منها والباطنة.. درجات الصوم وشروطه وفضائله.. وذلك ببصيرة نفاذة وعقل ثاقب، فهو يسبر أغوار المعاني ليستخرج أسرارها.. ونحن إذ نلقي بعض الأضواء على تلك المعاني والأسرار، انما نقول بادئ ذي بدء أن للصوم عند الإمام الغزالي ثلاث درجات، هي: صوم العموم – وصوم الخصوص – وصوم خصوص الخصوص. 1- صوم العموم: هو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. 2- وصوم الخصوص: هو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. 3- وأما صوم خصوص الخصوص، فصوم القلب عن الدنايا والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عزّ وجلّ بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عزّ وجل واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا. ·       وليكن حديثنا اليوم عن صوم الخصوص، صوم الصالحين، وهو كف الجوارح عن الآثام، ويكون تمامه بستة أمور: الأوّل: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عزّ وجلّ. قال (ص): "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله، فمن تركها خوفاً من الله آتاه الله عزّ وجلّ إيماناً يجد حلاوته في قلبه". الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان. وقد قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم. رواه بشر بين الحرث عنه. وروى ليث عن مجاهد: خصلتان تفسدان الصيام: الغيبة والكذب. وقال (ص): "إنما الصوم جنة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن إمرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل إني صائم، إني صائم". الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه، لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه ولذلك سوى الله عزّ وجلّ بين المستمع وآكل السحت، فقال تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) (المائدة/42) وقال عزّ وجلّ: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ...) (المائدة/ 63)، فالسكوت على الغيبة حرام، وقال تعالى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) (النساء/ 140)، ولذلك قال (ص): "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم". الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال، ثمّ الإفطار على الحرام. فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصراً ويهدم قصراً، فإنّ الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله: وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره، إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهاً. والحرام سم مهلك للدين. والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره. وقصد الصوم تقليله؛ وقد قال (ص) "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش"، فقيل هو الذي يفطر على الحرام، وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عزّ وجلّ من بطن ملئ من حلال. وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة، إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام؟ حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لمرضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ومعلوم أنّ مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى. وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثمّ اطعمت من اللذات واشبعت زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها، فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فاما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً، فلم ينتفع بصومه. بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدراً من الضعف حتى يخفف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء.. وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت، وهو المراد بقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر/ 1). ومن جعل بين قلبه وبين صدره محلاة من الطعام فهو عنه محجوب، ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عزّ وجلّ، وذلك الأمر كله ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام. السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه، فهو من المقربين أو يرد عليه، فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها. ·       فقد روي عن الحسن ابن أبي الحسن بين الحسن البصري، انّه مرّ بقوم وهم يضحكون، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم، ففازوا وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب، في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن باحسانه والمسيء بإساءته، أي كان سرور المقبول بشغله عن اللعب وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك. ·       وعن الأحنف بن قيس: أنّه قيل له إنك شيخ كبير، وإنّ الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه. ** هذه المعاني والأسرار الجوهرية التي عالجها الإمام الغزالي في صوم الصالحين.. ونسأل الله تعالى حسن التوفيق.

ارسال التعليق

Top