• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الإسلام، هل ينفي الآخر؟

حسن السعيد

الإسلام، هل ينفي الآخر؟

◄تحت السياق النمطي المتقدم، تندرج العديد من المفردات والمحاور، فيما يتعلق بتغطية الإسلام غربياً. وإذا ما قُدر أن نفهم الدواعي الدفينة لأحكام الدوائر الاستشراقية و"وصفات" المختبرات الاستراتيجية والأمنية، فإنّ ما لا نفهمه هو انغماس بعض المدارس الفكرية في هذا الاتجاه، رغم اللافتات العلمية العريضة التي ترفعها!

فها هو الانتولوجي الفرنسي الشهير "كلود ليفي شتراوس"، رائد المدرسة البنيوية في الأنثروبولوجيا ومؤسسها، يتألق في أكثر من موقع، بيد أنّه يكبو بشكل مفجع، حينما يتعاطى مع الإسلام. ففي الوقت الذي نراه يدين صراحة ما قام به النسق الحضاري الأوروبي (الذي ينتمي إليه شتراوس) في عملية إبادة دموية منتظمة تاريخياً لمجموع قبائل الهنود الحمر، والتي ألهمت "شتراوس" ما ألهمته في الكتابة عنها، من دهشة وإعجاب، مقرونة بالإحساس بالذنب، والشعور بالشفقة تجاه هؤلاء.. فإنّه لا يعتريه أي إحساس مماثل، تجاه ما تعرض له المسلمون من ظلم واضطهاد وحيف، قد يرقى في بعض حالاته إلى مستوى الإبادة!

لقد بذل "شتراوس" جهداً علمياً كبيراً، في استكشاف عوالم ما تبقى من قبائل الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية، مأخوذاً بروعة ورقي تجربتها الحضارية ومعاييرها الثقافية، بحيث أنّه أفرد لدراسة النسق الميتولوجي عندها نحوَ أربعةٍ من مؤلفاته، هي بالفعل من أهم ما كُتب في هذا المجال.. وقد أقر "شتراوس" نفسه بعملية التدمير التاريخية هذه "للآخرين" المختلفين، إلى الحد الذي جعله يربط بين ولادة الأنثروبولوجيا نفسها، وبين الصورة التاريخية التي "تم خلالها استعباد القسم أكبر من البشرية بواسطة قسم آخر، بحيث أنّ الملايين من الضحايا البشرية الأبرياء كانت ترى مواردها وقد نُهبت، ومعتقداتها ومؤسساتها وقد دُمرت. وذلك قبل أن تكون هي نفسها قد ذُبحت بوحشية، وأُختزلت إلى العبودية"[1]، تحت ذريعة ادعاء الغرب حقّ معالجة الآخر، كموضوع.. كشيء!

إنّ هذه المسحة الإنسانية تختفي بالكامل، في مقالته عن الإسلام، التي وردت في كتابه "المدارات الحزينة"، حيث يتعاطى شتراوس مع التجربة الإسلامية برؤية أخرى مغايرة، تحت وطأة الصدمة الناتجة عن "لقائه" بالإسلام، خلال جولته (التفقدية) للمناخ الإسلامي الهندي – الباكستاني، وبعد عودته من رحلته الانتولوجية الغزيرة التجربة، في أواسط البرازيل عند قبائل الهنود الحمر، ويلجأ إلى ذات المقولة الغربية التدميرية، في حقّ معالجة الآخر، كموضوع.. كشيء، على حد تعبير الانتولوجي "شتراوس" نفسه! الذي مضى يقول: "إنّ الإسلام هو دين كبير يقوم على العجز عن نسج علاقات مع الخارج أكثر مما يقوم على بديهية وحي.. مقابل العطف الشمولي للبوذية والرغبة المسيحية..".

والغريب انّ "شتراوس" الذي يجهل كلّ شيء عن الإسلام، يواصل اصدار أحكامه المتحيزة قائلاً: "في الحوار يتبنى اللاتسامح الإسلامي (هكذا..) شكلاً لا واعياً، عند الذين يشعرون بالذنب؛ لأنّهم إذا لم يسعوا دائماً وبطريقة وحشية لجذب الآخر لتقاسم الحقيقة، فانّهم مع ذلك (وهذا أخطر) عاجزون عن تحمل وجود هذا الآخر. إنّ وسيلتهم الوحيدة في البقاء بمنأى عن الشك والاحتقار، هي في عملية الغاء الآخر كشاهد على إيمان آخر وسلوك آخر"[2].

والنصّ ليس بحاجة إلى تعليق، لاسيّما وأنّه يتضمن جملة من الأفكار المركزية حول الإسلام، في مقدمتها؛ أنّه دين قائم في جوهره الحضاري على مقولة النفي، "نفي الآخر" المختلف، ورفض وجوده، بل والعمل على إلغائه، حين رفضه الاندراج داخل الجماعة الإسلامية القائمة على الإيمان بالله ورسوله.

وتستبطن هذه الأحكام المتحيزة، في جوهرها الأصلي، ذلك الموقف الانتولوجي الأوروبي نفسه تقليدياً من الآخرين، بحيث نرى أنّ الانثروبولوجيا في الغرب تعمل على ذرف الدموع، واستدعاء الرحمات، وتعداد الخصال الحميدة والحسنة التي كان يتمتع بها ذلك "الشهيد الحضاري الآخر"، والذي اغتيل على يديها بالذت، بينما تتحول هذه البكائية الكاذبة إلى عدوانية شرسة مدمرة – على حد تعبير د. محمّد حسين دكروب – إذا ما تبين لها أنّ الجسد الحضاري، لهذا الآخر، ما يزال ينبض بدماء المقاومة الحارة لفعل القتل والاغتيال الممارسين بحقه على أيديها. الهنود الحمر حضارة أُبيدت، فتحول "شتراوس" إلى بكائي على أطلالها، فيما تبقى منها من غابات الأمازون وجبال الأنديز. أما الإسلام فهو حضارة قاومت ونجحت في صد الفعل العدواني الأوروبي بحقها، منذ الحروب الصليبية وحتى عصرنا الراهن، لذا يتحول "شتراوس" بصددها إلى محرض، يُسقط ما في ذاته الانتولوجية الغربية، من ميول ورغبات في إلغاء "الآخر" على الإسلام نفسه، مبرراً بالتالي حقّ الاستمرار في ممارسة العنف عليه، ولو بأشكال مختلفة[3].

الهامش:


[1]- للمزيد يراجع كتاب "الانثروبولوجيا؛ الذاكرة والمُعاش" للدكتور محمّد حسين دكروب، اصدارات كتاب الفكر العربي (9)، بيروت، 1984م، ص68.

[2]- يراجع كتاب "أوربا والإسلام"، دار الحقيقة بيروت، 1980، ص78-79.

[3]- المرجع نفسه، ص70.

المصدر: كتاب الإسلام والراي الآخر

 

ارسال التعليق

Top