• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفطرة في القرآن الكريم

البروفيسور عبدالعزيز بايندر/ ترجمة: محمّد روزي باقي

الفطرة في القرآن الكريم

◄الفطرة، تعني: مبادئ وقوانين الخلقة والتغيير والتطوّر، وهي التي تُكوّن البُنية الأساسية للكائنات، أي: إنّ السماوات والأرض والبشر والحيوان والنبات وغيرها من الأشياء تتكوّن وتعمل وفق تلك القوانين والمبادئ، أي: الفطرة.

كما أنّها المبدأ الأساسي في العلوم والتكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية. ومخالفة الفطرة يُفسد التوازن الاجتماعي، قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الرُّوم/ 41)، وقال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج/ 18).

وأمّا الدين، فينظّم علاقة الإنسان بربّه، كما ينظّم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقته بالطبيعة لاسيما البيئة التي يعيش فيها، والمبادئ التي جاء بها الدين يطلق عليها كذلك الفطرة، قال الله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرُّوم/ 30).

وتُعرف الفطرة من آيات الله تعالى، فهي ليست محدودة بما أنزل الله تعالى من الكُتُب، بل تشمل الآيات المسطورة في الكتاب المنشور في الكون، قال الله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصِّلت/ 53).

والمعرفة التي نحصل عليها من آيات الآفاق والأنفس، نستحضرها في أذهاننا ونهيِّئ أنفسنا للاستفادة منها، وهذه المعرفة تسمّى "الذِّكر"، واستحضارها في الذهن يسمّى أيضاً "الذِّكر"، وتلك المعرفة في أكمل التناسق والانسجام مع كتاب الله تعالى، لذا كلّ مَن يقرأ القرآن الكريم يزداد ثقة وطمأنينة.

وقد دعا الرسول (ص) الناس إلى التذكُّر. والتذكُّر هو تنشيط ما هو موجود وتفعيله في الذهن، فقول إبراهيم (ع) لقومه (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (الأنعام/ 80)، معناه: ألا تقارنوا ما قلته بما عندكم من المعرفة فتعرفوا أنّكم مخطئون؟ فتعودوا إلى رشدكم؟ فهو دعوة لهم منه إلى محاسبة النفس.

والذِّكر كذلك اسم مشترك للكُتُب المنزّلة من الله تعالى، كما في قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرَّعد/ 28). قوله عن القرآن الكريم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9)، فالذي يقرأ القرآن الكريم بالتدبُّر يجد أنّ الذِّكر الموجود في القرآن مطابق مع الذِّكر الموجود عنده أي المعلومات الموجودة عنده، لذا قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرَّعد/ 28)، وصحّة معلومات الإنسان متوقفة على مدى تطابقها مع الآيات القرآنية، فكلّما استوعب الإنسان الآيات القرآنية والكونية ازدادت معلوماته ثقة وطمأنينة.

وغير الإنسان لا يخالف الفطرة، بل الإنسان هو الذي يخالف الفطرة ويفسد توازن البيئة، لأنّ الله خلقه وأعطى له العقل والإرادة والقدرة يستطيع بها أن يفعل ما يشاء.

الذي يدفع الإنسان إلى مخالفة الفطرة هو المنافع والآمال والرغبات، والإنسان ينزعج بمخالفته للفطرة في بداية الأمر، ثمّ يتعوّد ويأخذ طبعاً جديداً، فيبدأ يرتاح ويتذوّق بفعل ما يخالف الفطرة، وأحياناً يظهر الانزعاج المختفي عنده، فهو يعلم أن تصرّفاته تخالف الفطرة، فيعتريه الشبه ولكنّه يتجنّب محاسبة نفسه، قال الله تعالى: (لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 110).

فالآثام والأخطاء هي السلوك المخالفة للفطرة، والصواب هو ما وافق الفطرة، إلّا أنّه يتطلّب بذل الجهد في الاستمرار عليه، لذا يعدل الإنسان عن الصواب إلى الخطأ مع علمه بذلك، قال الله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 8-10).

والمخالف للفطرة ينزعج في البداية، ثمّ إمّا أن يترك المخالفة أو يستمر فيها، فهو ينزعج لأنّ الله تعالى يلهمه بأنّه عاصٍ، وهذا إنذار، تقول له نفسه الملهمة: أنتَ على خطأ، فلهذا ينزعج حين يعصي.

والتقوى، هي: الصون من الوقوع في الخطأ، والسلوك الموافق للتقوى يريح الإنسان، وهو إلهام الله تعالى إيّاه بأنّ هذا الفعل موافق للفطرة.

عن وابصة بن معبد الأسدي أنّ رسول الله (ص) قال لوابصة: "جئت تسأل عن البرّ والإثم؟". قال: قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره، وقال: "استفت نفسك، استفت قلبك يا وابصة - ثلاثاً - ، البرّ: ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم: ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس أو أفتوك".

ولا يقع في مثل هذا الخطأ إلّا العاطفي الذي لا يستعمل عقله، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (يونس/ 100).

ومصدر العلم كذلك الفطرة. والعلماء المتخصصون في الرياضيات والتقنيات لا يصدرون القوانين، وإنّما يحاولون ويبذلون الجهد لكشف ما في الآيات من القوانين، هذا هو الاتباع منهم للفطرة، كذلك من علماء الاجتماع وعلماء الإحصاء مَن يكشف القوانين بقراءته لتلك الآيات، ولكن بعضهم يحاول إعطاء المجتمع صوراً خاصّة حسب أهوائهم بعيداً عن الحقيقة، وهذا الموقف منهم يؤدي إلى التطبيقات المخالفة للفطرة، تظهر آثاره السيِّئة بعد حين، ويفسد التوازن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبالتالي يكون الضرر الناتج عن مخالفة الفطرة كبيراً ومستمراً.

والنتائج المعرفية التي وصل إليها العلماء يمكن استعمالها لإفساد البيئة والمجتمعات خلافاً للفطرة، كما نعيش فيه اليوم من فساد بيئي واجتماعي جراء مخالفة الفطرة. وتعدّي الحدود التي جاء بها القرآن الكريم هو الابتعاد عن الفطرة، قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الرُّوم/ 41).

كلّ ما جاء به القرآن الكريم متناسب مع الفطرة تمام التناسب، فلا خلاف بينهما، لأنّ الإسلام هو دين الفطرة. فيستفاد من الفطرة في فهم القرآن، كما يستفاد من القرآن الكريم في معرفة الفطرة. ومظن الخلاف بين القرآن الكريم والفطرة هو عدم فهم القرآن الكريم، وعدم إقامة الروابط والعلاقات بين القرآن الكريم والفطرة، والأمثلة على ذلك كثيرة.►

 

المصدر: كتاب مفاهيم ينبغي أن تُصحح في ضوء القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top