• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العقلانية في الشخصية ودور الصلاة فيها

علي محمد كوراني

العقلانية في الشخصية ودور الصلاة فيها

- الشخصية العقلانية:
أقصد بالعقلانية في الشخصية: الملكة المنطقية التي تتأصل في مكونات الشخصية الثلاثة، المفاهيم والمشاعر والسلوك، حتى تكون طبيعة فيها.
ويتفاوت الناس في نصيبهم من هذه العقلانية، فقد يكون إنسان في قسم من مفاهيمه موضوعياً عقلانياً واضح الرؤية ثابت البرهان مطمئن البال، وفي قسم آخر مغبش الرؤية مشوش البال.
وقد يكون عقلانياً في قسم من مشاعره، عشوائياً في القسم الآخر.
وقد يكون عقلانياً في قسم من سلوكه، ارتجالياً في القسم الآخر.
وقد يكون عقلانياً في عامة مفاهيمه، ولكنه عشوائي المشاعر، ارتجالي السلوك.. إلخ..
وكما تتفاوت مساحة العقلانية في أبعاد الشخصية الثلاثة تتفاوت كذلك في حالات الإنسان وظروفه الداخلية والخارجية، فقد تتقلص في بعض الحالات، أو تزداد، أو تترسخ، أو تضعف، أو تزول..
ومن ضرب هذه الأقسام والحالات بعضها ببعض يتحصل مئات بل آلاف الأنواع من شخصيات الناس.
والنموذج الأعلى للشخصية العقلانية هو الإنسان الذي يعيش الموضوعية الصرفة المستوعبة الدائمة، يأخذ الحقيقة كما هي ويتعامل معها كما هي لا يفترض لها إضافة ولا ينتقص منها نقيصة، كما هو الحال في نخبة الإنسانية من الأنبياء والأئمة وكبار المؤمنين (ع)، الذين يعيشون المنهج العقلي والأيديولوجية الكاملة الموحدة في الفكر والشعور والسلوك.
إنّ الواحد من هذه الشخصيات العقلانية لهو مادة للدراسة الفكرية والجمالية.. إذا انفتحت عليه فهو يستهويك ويملك عليك لبَّك:
تجده صادقاً في نفسه ومع نفسه ومع الأشياء، حيوياً جاداً في مفاهيمه وانفعالاته وتصرفاته.
يعيش وضوح الرؤية ووحدة المنهج في مجموعة أفكاره، ابتداء من مفهومه عن الله والطبيعة والإنسان والتاريخ والمستقبل، إلى مفهومه عن نفسه وطريقه وعن الآخرين، إلى مفاهيمه الجزئية الصغيرة..
ونفس هذه المنهجية المضيئة تجدها في مشاعره من أكبر شعور إلى أصغر شعور، وفي سلوكه ومواقفه المصيرية والجزئية..
وكما ينتظم كل بعد من شخصيته في هذا الصدق الجميل تنتظم الأبعاد الثلاثة الأفكار والمشاعر والسلوك في كل منسجم بديع.. انّك تجد فيه البناء الإنساني المتين والجمال الإنساني العميق كشجرة متكاملة متكافلة ثابتة الأصول سامقة الفروع فارعة الجمال سخية الظلال والشذى والثمرات.

- الحصول على الصمت العقلاني:
وكذلك يستطيع المنهج الإلهي أن يصوغ بعقلانيته الفذّة الإنسان الفذ. وليس الحصول على هذا الصمت في الشخصية مطلباً خيالياً كما يظن البعض، ولا هو مقصور على شخصيات مؤمنة ماضية أتيح لها أن تضع نفسها في بساطة الهواء الطلق يوم كانت مغريات الحياة الدنيا قليلة ومشوشات الفطرة الإنسانية ضئيلة.. كلا، فمتى سمح أحد من الناس للإسلام أن يعمل في شخصيته ولم يجد الثمرات فعليه، ومتى سمح الناس لهذا المنهج الرباني أن يسود مجتمعهم بنصه وروحه ولم يجدوا إنتاجه من الشخصيات العقلانية؟
الصعوبة إنما أتت من النظم الإجتماعية التي تحكم حياة الناس وتصوغ شخصياتهم بطرقها الملتوية الكاذبة، وتعيق الإنسان أن يبني نفسه بالإسلام وينعم بعقلانيته الجميلة. وليس من ضير على الإسلام أن لا تتاح له التجربة الإجتماعية الكاملة ما دام يثبت بالبرهان صحة منهجه في بناء الإنسان وما دام قدم للناس يقدم عديداً من الشخصيات العقلانية في ظروف تطبيقه الجزئي على حياة الناس بل وفي أصعب الظروف المضادة.
وفي حياتنا الحاضرة، وفي ظل الأنظمة الإجتماعية والمفاهيم السائدة الضالعة في تزييف فطرة الإنسان وتشويه عقلانيته، ما على أحدنا إلا أن يوفر الصدق في نفسه حتى يجدها بعد خطوات في طريق هذه العقلانية. ثمّ ما عليه إلا أن يؤصل الصدق في نفسه كطريقة دائمة يبني بها أفكاره وشعوره وسلوكه، وما أسرع أن يرى أن أشياء الطبيعة من حوله صادقة في أنفسها وحياتها، ويرى أن نصيبه من الصدق موكول إليه ميسر أمامه.
إنّ دعوة الإسلام إلى هذا الصمت العقلاني، إلى الموضوعية والصدق في فهم الأشياء والتعامل معها، لا زالت دعوة قائمة موجهة إلى كل جيل وفي كل الظروف لأنّها الطريقة الوحيدة أبداً في بناء الإنسان ونجاحه... ولسنا بحاجة إلى التدليل على أنّ القرآن الكريم والسنة الشريفة والسلوك العملي للرسول والأئمة عليهم السلام دعوة حارة لأخذ الحقيقة الموضوعية بصدق والتعامل معها بصدق.

- مقومات العقلانية:
تتقدم العقلانية في الشخصية في نظر الإسلام بأساسين نظريين وأساس عملي: الإيمان بالله، والإيمان بالمسؤولية، والصلاة..
فإنّ الذي يؤمن بالله وبأن أمره عزّ وجلّ قائم بكله على أساس الموضوعية الصرفة في الخلق والإدارة والغاية، الذي يؤمن بأنّ الحق والصدق والحكمة هي طبيعة المخطط الكلي للوجود لأنّها طبيعة الخالق الحق عزّ وجلّ.. والذي يستبعد العبث عن ذهنه ويؤمن بالمسؤولية أمام الله في أن يجعل سلوكه حقاً نافعاً في تطوير وجوده وتحقيق سعادته، الذي يؤمن بالتوجيه الإلهي يرافقه وبالعين الإلهية تراقبه وبالموقف للسؤال ينتظره.. أقل إنّ الذي يؤمن بأن صاحب الكون ليس عابثاً وبأن سلوكه ليس ضائعاً سيجد نفسه مدفوعاً لمواكبة هذه الموضوعية الكونية الغامرة والجد في أمر مصيره. وعلى العكس من ذلك من يؤمن بالعبث ويغمض عقله عن العقلانية والمسؤولية اللتين تحكمان أشياء الكون.
وبعد هذين الأصلين الإعتقاديين يأتي دور الصلاة عملاً تربوياً يومياً يكرس الإيمان بالله والمسؤولية أمامه ويجسدهما أمراً عملياً معاشاً في وجدان الإنسان وحياته.
إنّ الصلاة تفرض الصمت العقلاني على الشخصية من جانبين:
أوّلاً: بحقائقها الكبيرة التي تقدمها إلى العقل بأسلوبها الخاص.. والصلاة زاخرة بالحقائق الكبيرة عن الله والكون والإنسان وموقعه وطريقه، ومتفردة في أسلوب تقرير هذه الحقائق واثارتها أمام العقل واثارة العقل لاستيعابها ومخامرتها والتفاعل معها. وقد تقدم من ذلك ما فيه الكفاية وبالأخص في بحث تلاوات الصلاة.
وثانياً: بموقفها الذي تمليه على المصلي، فإن وقفة الصلاة بحد ذاتها تفرض الصمت العقلاني، فيما أن يمثل الإنسان بين يدي الله ويقف بضبط واعتدال حتى يشعر أنّه بدأ في عمل جاد وأنّه خلف وراءه الهزل والتسيب.
ولا أحسبني بحاجة إلى التدليل على هذا العطاء للصلاة، فقد أصبح ذلك مثلاً على ألسن الناس وأصبح خير تعبير عمن يعيش حالة العقلانية والجد في أمرٍ من أموره أن يقال عنه: "انّه في صلاة".
ان أي مصلٍ ليحس بالفارق الجديد في شخصيته أثناء الصلاة، يحس بالعقلانية التي يفرضها عليه الموقف الذي يقفه والحقائق التي يواجهها، حتى ان نظرته إلى كثير من الأفكار والقضايا تختلف أثناء الصلاة وتتسم بالتعقل والموضوعية.. فالذي كان قبل قليل مندفعاً في شعور كراهية لإنسان لو عرض له هذا الشعور وهو في الصلاة لوجده نشازاً لا يلائم وضعه العقلي الجديد. والذي كان مستغرقاً في تصورات جنسية لأعراض الناس سينفر من هذه التصورات لو عرضت له وهو في الصلاة. والذي كان يعيش ذاتيته الشخصية الضيقة سيجد نفسه في الصلاة منفتحاً على أفق أوسع وذات أكبر.. وهكذا..
إنّ وقفة الصلاة إنما هي يد المنطقية الإلهية تمتد إلى الإنسان كل يوم لتنقذه بهدوئها واتزانها من انحراف المشاعر وارتجال التصرف وتمده بشحنه من العقل والجد، فتصلحه بذلك لحركة الحياة.

المصدر: كتاب فلسفة الصلاة

ارسال التعليق

Top