• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ظلم النفس...

ظلم النفس...

◄يحفل القرآن الكريم بالآيات التي تتحدث عن ظلم النفس كقوله تعالى: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (التوبة/70).

والسؤال هنا كيف يظلم الإنسان نفسه؟ ذلك أنّ الظلم نوع من الإساءة فكيف إذن يسيء الإنسان إلى نفسه؟ والجواب: إنّ علة الظلم تنجم عن أمرين هما الغفلة والجهل.

صحيح أنّ الظلم إساءة وأنّ الإنسان لا يريد الإساءة لنفسه ولكن هذا الأمر يتحقق إذا كان الإنسان قد شخّص المسألة وأنّه فعل ذلك عمداً مع معرفته، ولو كان الأمر كذلك لما ظلم نفسه أبداً. غير أنّ الظلم يأتي أحياناً مع تصوره بأنّه يحسن إلى نفسه فإذا به يلحق الظلم بها دون أن يدرك ذلك.

فكم من ظالم نفسه مسيء إليها وهو يتصور أنّه قدم لنفسه الخير، ولكن وبسبب جهله وعدم إدراكه تنقلب الأمور وإذا الخير الذي نواه هو في الحقيقة شر وظلم.

قال تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف/ 104).

كتب رجل إلى أحد الصحابة يطلب منه موعظة، فكتب الصحابي في جواب رسالته: لا تسيء إلى أحب الخلق إليك، ولم يفهم الرجل القصد من وراء هذه الموعظة إذ كيف يسيء الإنسان إلى أحب الأشياء إليه؟ فكتب إليه الصحابي: نعم نفسك التي بين جنبيك تسيء إليها وتظلمها لا عن عمدٍ ولكن عن غفلة وجهالة.

إنّ كلّ الذنوب والآثام التي يرتكبها البشر هي في الحقيقة محاولات خاطئة لإيصال الخير إلى النفس في حين أنّ المسألة على العكس، فهذه المحاولات الخاطئة لها مواقف عدائية تلحق الضرر بنفس الإنسان، فإذن فعلة الظلم إنما تنشأ عن الجهالة والغفلة. وهناك سبب آخر مهم أيضاً، فقد يرتكب الإنسان أحياناً ظلماً ويسيء إلى نفسه عمداً عن علم وإدراك، وهذا أمر يدعو إلى التعجب.

يقول الفلاسفة أنّ علل هذا العالم تنقسم إلى قسمين: الأوّل: علة فاعلة والآخرة منفعلة، والعلة الفاعلة هي المؤثرة والمنفعلة هي المتأثرة.

فالرسام الذي يرسم لوحة ما هو علة مؤثرة واللوحة علة متأثرة. فمن الرسام الذوق والفكر والفن والمهارة، ومن صفحة اللوحة القابلية على تقبل ذلك، ولولا وجود هاتين العلتين ما ظهرت اللوحة إلى الوجود.

وهناك قاعدة أخرى تقول: إنّ العلة الفعّالة المؤثرة مستقلّة دائماً عن العلة المتأثرة، وإنّه لا يوجد شيء يمكن أن يكون فاعلاً ومنفعلاً في نفس الوقت.

قد يعترض البعض على هذه القاعدة قائلين: كيف لا يمكن ذلك ونحن نشاهد الطبيب يمرض فيقوم بعلاج نفسه ومداواتها، والجواب: أنّ هناك التباساً وفهماً خاطئاً في هذه المسألة، عندما يتصور المرء أنّ الطبيب هذا يقوم بدور الفاعل والمنفعل، ذلك أنّ الطبيب إنسان والإنسان يضم جوانب مختلفة، فهو من جهة جسم يتعرض للمرض، وفكر وعلم وطبابة يعالج بها بدنه من جهة أخرى، وإذن فالفاعل والمؤثر هنا غير المنفعل والمتأثر.

والسؤال الذي يثار هنا هو كيف يظلم الإنسان نفسه فيصبح ظالماً ومظلوماً أيضاً؟!.

إنّ الحالة هنا تشبه إلى حد ما حالة الطبيب، ذلك أنّ الإنسان يتألف من عقل وشهوة، فشهوته هنا تظلم عقله وتسحق إرادته وتضرب حقّه عرض الجدار، وإذن فإنّ إطاعة الشهوة والانقياد لها ظلم للعقل والضمير والوجدان.

فمثلاً يكذب البائع فيزيد في قيمة بضاعته ويخدع المشتري فيكسب من وراء كذبه منفعة مالية يشتري بها ثوباً أو رغيفاً من الخبز، ولكنه في نفس الوقت يكون قد وجّه صفعة إلى وجدانه وضميره، وذلك أنهما لا يسوّغان الكذب وخداع الآخرين.

إنّ الكاذب يوجّه ضربة قوية للضمير ويضعفه، وإذن فهو يظلم نفسه، كذلك الظالم فالذي يظلم الآخرين يظلم نفسه أيضاً، ذلك أنّ قلبه يقسو وتغزوه الظلمة ويملؤه التصدع. ولذا فإنّ القرآن ينعتهم دائماً بأنّهم "ظالمون لأنفسهم"، فهم إما يظلمون أنفسهم عن جهل وغفلة أو عن طغيان يسحق إرادة العقل ويدمّر إنسانية الإنسان.►

ارسال التعليق

Top