• ٣٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحرية الفكرية في الإسلام بين القبول والرفض

إبراهيم العبادي

الحرية الفكرية في الإسلام بين القبول والرفض

◄إنّ المستشرقين هم أوّل مَن صاغ القناعة السائدة - حالياً - في الغرب، والتي يرددها أيضاً المثقفون المتغربون، والقائلة بوجود علاقة تناقضية بين الالتزام الديني في الإسلام وبين حرّية الفكر. ويستدلّون على تأخّر العالم الإسلامي، بهذه العلاقة التي أنتجت سيادة لون واحد من التفكير وغلبة الرقابة المؤسسيّة، التي تمثّلها المؤسسة الدينية على ألوان النشاط الفكري، والرقابة الذاتية التي يفرضها الفرد المسلم خشية خروجه على الإطار الإسلامي، إذا ما أعطى لعقله حرّية الانطلاق في عالم الفكر، وارتياد المجهول والتفكير في اللامُفكَّر فيه.

لقد أُعيد البحث في هذا الموضوع مع ظهور فتنة المرتد سلمان رشدي. ومارس الغرب لعبته الثقافية مهاجماً الإسلام ومستهدفاً إعادة إنتاج النموذج الأوروبي في المنطقة الإسلامية، وشنّ حرباً إعلامية ضدّ القوى الإسلامية، من خلال معاكسة حركة الإحياء القوية، وتصويرها حالة ارتدادية تعمل ضدّ التقدّم، لأنّ طريق التقدّم، ما انفَكّ يتأسس في العقل الغربي على القطع مع الفكر الديني ونبذه، والتحرّر من جميع التزاماته والزاماته وقيوده.

ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذه المفارقة، إلّا أنّنا في بداية الحديث نسجّل اعترافنا بأنّ الحرّية الفكرية تفتح عوالم جديدة أمام الإنسان والمجتمع، للوصول إلى ما يريدان الوصول إليه، وإنّ الإبداع رهين بكسر حواجز الاستبداد والصنميّة، مثلما أنّ الكمال مشروط بتمزيق الحُجب وكسر القيود الذاتية، التي تمنع الانطلاق في عالم الحقيقة الرحيب.

ولكنّ المشكلة التي تواجهنا هي أنّنا بحاجة إلى تعريف لحدود الحرّية الفكرية، وتشخيص لسقفها الأعلى. فليس هناك اتفاق على حدود هذه الحرّية في جميع البيئات الثقافية والدينية، وإنّما أصبح القياس يرتكز دائماً على استحضار حدود الحرّية الليبرالية، التي عاشها الغرب وأسهمت في نهوضه. ومَن لم يتمكّن من مطابقة وضعه مع أوضاع الغرب فإنّه يبقى متخلّفاً أو مُتَّهماً، كأنّ هناك تماثلاً في درجة القداسة بين القانون الديني والقانون الوضعي.

وبسبب الحالة الدفاعية التي عاشها الفكر الإسلامي، فإنّ الخطاب الاحتجاجي الذي استخدمه الإسلاميون لتأكيد وجود الحرّية الفكرية في الإسلام، لجأ إلى التذكير بالتاريخ والماضي البعيد، والمقارنة مع الواقع الذي عاشته أوروبا في القرون الوسطى، تحت سلطة الكنيسة. وليس لأحد الحقّ في نكران ما قدّمه الإسلام من نموذج متطوّر في قرونه الأولى، غير أنّ المشكلة القائمة هي مشكلة الواقع الحالي فتاريخ المسلمين المعاصر والحديث، لا يُصلح للاحتجاج بوجود الحرّية الفكرية، وذلك لسيادة أنواع من القيود المختلفة على حرّية التفكير، مصدرها الفَهم الديني والأعراف الاجتماعية، وبالخصوص القيود السلطوية التي فرضتها مؤسسات الحكم.

ومن هنا، كان لزاماً على مَن يتصدّى لمعالجة قضية الحرّية في الإسلام، أن يؤسّس وعياً جديداً في الوسط الاجتماعي، ولا سيما في الأوساط الفكرية والثقافية لتصبح مصدر تنوير، يوضّح أهمية ممارسة هذا الحقّ الطبيعي والشرعي، وأهمية كسر الأغلال التي تحول دون ذلك. ويستلزم الأمر - أوّلاً - تأصيل الحرّية مفهومياً وفلسفياً من جديد، وردّ الاتهامات والشبهات وسوء الفهم، لبناء الوعي النظري بها، وثانياً تحديد حدود هذه الحرّية، أي التأسيس القانوني لها، وهو الجانب المرتبط بالفقه والممارسة العملية.

وقد ساهمت الرموز الفكرية في المعركة في شقّها الأوّل، وتناولت في العديد من الأبحاث المبثوثة والمستقلة موضوع الحرّية في الإسلام، وبضمنها الحرّية الفكرية، لكنّ هذه الأبحاث اقتصرت على الجانب المفهومي النظري، ولم يتبعها تقنين واضح يحدّد للإنسان المسلم تكليفه. فقد كُتُب العلامة المرحوم السيِّد محمّد حسين الطباطبائي عن الحرّية الفكرية في ثنايا تفسيره الشهير (الميزان في تفسير القرآن). وكُتُب المفكّر الشهيد السيِّد محمّد باقر الصدر عن الموضوع ذاته في "المدرسة الإسلامية". وتناولها العلامة السيِّد محمّد حسين فضل الله والعلامة الشهيد مرتضى المطّهري، والشهيد سيِّد قطب، والشهيد الدكتور صبحي الصالح. كما تناولتها البحوث المتأخّرة والمهتمّة بتدوين ميثاق إسلامي لحقوق الإنسان. وبيان تمايزاته عن الميثاق الذي صاغته العقلية الغربية. وقد أسهم في هذه البحوث أساتذة أجلّاء، إلّا أنّ المشكلة ظلّت قائمة عملياً، فحدود الحرّية الفكرية ربما تكون واضحة نظرياً، إلّا أنّها عملياً غير واضحة وهناك بعض الأمثلة على ذلك، منها أنّنا لا زلنا نعيش مشكلة الحدود النهائية للمغامرة الفكرية والفنية والأدبية. ولم نتوصّل إلى اتفاق حولها، مع التسليم بأنّ القيود التي وضعها الإسلام محدودة ولا تتجاوز نطاقاً ضيّقاً. أي أنّ هناك قيوداً ذهنية واجتماعية، تعمل عمل الكوابح التي تحول دون انطلاق حرّية الفكر. ولسنا نطالبُ بحرّية غير مسؤولة، وبأدب وفن يتعدّى الذوق الأخلاقي والحدود الشرعية. ولكنّ صرامة الموقف تعكس رؤية فكرية وفلسفية، خاصّة، وبالتالي فإنّ ردّ الفعل العنيف الذي يظهر أحياناً على شكل أطروحات داخل الصف الإسلامي، يعكس وجهة نظر متشدّدة، ولكنّها صادقة ومخلصة، ومشكلتها أنّها تصدر عن عقلية تفهم الإسلام على طريقتها، بينما يفهمه آخرون بطريقة مغايرة، إنّنا نُواجَه أحياناً بحالات تتطلب موقفاً حاسماً، يكون البتّ فيه تحديداً لموقف الإسلام من الحرّية الفكرية. إذ هل يستطيع إنسان مسلم ملتزم لا يُشكُّ في نواياه، أن يبحث ويحقّق في قضايا تاريخية، ويعطي فيها رأياً استنتاجياً أو اجتهادياً، دون رقابة اجتماعية أو مؤسساتيّة مباشرة وغير مباشرة، لمجرد أنّها تصدم الوعي السائد أو تطيح بقداسة موروثات مقدّسة ومتعارف على قداستها. ودون أن يُتّهم بتُهم مختلفة - كالطائفية مثلاً - فيُتّهم في الوسط الشيعي بأنه سنّي، أو في الوسط السنّي بأنه يتشيع! وهل يمكن لعالم أو مثقف أن يعبّر عن رأي غير متداول ولا تستسيغه الذهنية العامّة، وله انعكاسات جدّية، وهو مطمئن إلى أنّه يمارس حقّ التفكير من داخل الدائرة الإسلامية، وله أن يعبّر عن رأيه دون أن يُساء تفسير ذلك الرأي، أو دون أن تصدر ضدّه ردود فعل حادّة؟ وهل يستطيع باحث مسلم، أن يُبدي رأياً اجتماعياً في قضايا إسلامية، قد تحُدث نوعاً من الهزة في السكينة السائدة، دون أن يُقال له إنّ أفكاره تهدم عقيدة عوامّ الناس وتزلزل تديّنهم، ولا يفهم موقفه على أنّه اجتهاد في دائرة الاجتهاد المفتوح؟.

قد يقال إنّ هذه القيود لا علاقة لها بالإسلام من حيث المبدأ. ولكنّها ترتبط بالواقع الإسلامي من حيث تعقيداته وتقاليده، وتتعلق أساساً بالفهم الديني وليس بجوهر الدِّين الإسلامي.

هذه الأسئلة تحتاج إلى جواب جدّي. فإذا كنّا نقول إنّ بداية الحرّية الفكرية في الإسلام مفتوحة على مصراعيها - وهي كذلك - فلماذا تضيّق بعض الأوساط الإسلامية بالرأي المغاير داخل الدائرة الإسلامية نفسها، فضلاً عن الرأي الآخر الذي قد لا يلتقي معها أبداً؟ ولماذا يتصاعد الخلاف ويتحوّل إلى تراشق عنيف بالتُّهم، كما حصل مثلاً في الصراع بين أنصار ثورة الدستور (المشروطة) وأنصار (المشروعة) في إيران، قبل قرن من الزمان تقريباً، وقبل أن تنحرف المعركة لاحقاً، أو كما يحصل في واقعنا المعاصر حول الكثير من القضايا التي تنطلق في الساحة الفكرية.

اعتقد أنّنا مازلنا ندور في حلق التأصيل النظري مأخذوين بالحالة الدفاعية التي تحاول أن تنفي عن الإسلام تُهمه تقييد الحرّية الفكرية. فيما الواقع العملي لا يبدّد هذه التُّهمة. والسبب في ذلك، عدم وضوح الحدود التي ترسم سقف الممارسة العملية، ويعود الأمر إلى تخلّف الفقه السياسي بالقياس إلى فروع الفقه الأخرى. وهذا ناشيء - بدوره - عن وجود أسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا.

إنّ الدفاع عن الإسلام، عبر إظهار مثالب الحرّية الليبرالية لا ينفع الإسلام في شيء، لأنّ المعركة تكون قد جرت على أرض الإسلام، وبما أنّ نموذج الليبرالية قائم وله بريقه الخادع، فإنّ الأذهان تنصرف إلى النموذج العملي الأضعف. ولو إنّنا اعترفنا بصراحة بأنّ الإسلام لا يماثل الليبرالية، وله تعريفه الخاص للحرّية، ولحدود ممارستها والتعبير عنها، وإنّه يرفض الحرّية المطلقة ويضع قيوداً على الحرّيات المتداولة والممارسة في البيئة غير الإسلامية، ولا يجيزها أصلاً، فلا يسمح بأدب خليع وفكر يعادي الغيب والتوحيد والإيمان، ويشكّك بضروريات الدِّين، باسم العقل والعلم، لكان ذلك أجدى وأنفع، نلاحظ - مثلاً - ضجّةً كبيرة تُثار حول كُتُب منعها الأزهر، تعرّض فيها كتّابها ومؤلفوها إلى التشكيك بضروريات الدِّين أو الإساءة لحُرمة الأنبياء وعصمتهم. وتدوّي آثر ذلك الصيحات العلمانية التي تتحدث عن معاداة الإسلام لحرّية الفكر. ثمَّ تُعاد الكّرة من جديدة حول قضية مماثلة ليتكرر الجدل، المقصود منه حشر الإسلاميين في الزاوية الدفاعية دائماً.

إنّ التعبير عن الفكر والدعوة إليه في مجتمع مسلم، تحكمه سلطة علمانية، أو سلطة إسلامية شرعية، تتحوّل إلى تقنين واضح يصدر عن الشريعة الإسلامية في خطوط تفصيلية. بحيث يعرف الإنسان المسلم واجبه وموقفه، ويتمكّن من التمييز بين الفكر الذي يصدر عن عقلية علمانية وله مقاصد وغايات تخريبية، وبين فكر يصدر عن عقلية مسلمة ملتزمة، ولكنّه ينطوي على تجديد أو إبداع أو نقد للواقع، في محاولة لتغييره نحو الأحسن، وبما ينسجم مع الرؤية الإسلامية وليس لتخريبها أو معاكستها. ومثل هذا التمييز ضروري، حتى لا يتساوى ردّ الفعل ويضيع الفكر البنّاء في زحمة الفكر الهدّام، ويُدفع الفكر الإسلامي بنعوت وتُهم لمجرد سوء الفهم، أو لصعوبة هضمه من قبل العقلية التقليدية. فليست وظيفة المفكّر الانسجام مع الفكر الموجود، بل وظيفته الإبداع والإضافة والتجديد، وكلّ جديد يحمل صفة المعارضة والنقد والنقض لما هو موجود أو للبعض منه على الأقل، لابدّ أن يستثير جميع المعارضين والمحافظين. وعليه يكون من الضروري تحديد حدود دائرة الحرّية، وإن كان هذا التحديد مرفوضاً على أساس أنّه قيد مرسوم، ومادمنا نقرّ بأنّ الإسلام يضع الضوابط والقيود، فلنسمِ هذه الضوابط والقيود حدوداً يكون متجاوزها قد خرج عن جادّة الصواب.

وهناك صعوبة في ترسيم هذه الحدود ولكنّ التفكير بها جدّياً أمر ملحّ وضروري. لأنّ عنوان كُتُب الضلال - الذي وضعه الفقهاء - لا يمكن أن يسري على آراء علماء أو مثقفين، قصدوا منها التعبير عن أفكار يعتقدون بسلامتها، شرعياً وعقائدياً، وجدواها في إصلاح المجتمع، وإعادة بناء فهمه للإسلام. مثلما هو مُثار حالياً هذه الأيام حول دور العلوم الإنسانية الحديثة في فهم النص الإسلامي المقدّس.

إنّ أنصار الحرّية الفكرية ربما كانوا يقولون اتركوا له الحرّية، ونحن نقارع الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة ومن أراد الاهتداء إلى الحقّ أو زاغت به قدماه إلى الباطل فذنبه على نفسه.

ولكنّ الإسلام لا يمنع أحداً من إبداء القول الذي يعتقد به، ومثلما واجه المسلمون حركات الزنادقة، ومثلما عاصروا أبا شاكر الديصاني وابن أبي العوجاء، وانتهى فكر هؤلاء ولم يصمد، فإنّ إتاحة المجال لأفكار أمثالهم لن يضرّ المسلمين في شيء، غير إنّ واقع الحال يشير إلى أنّ هذا الموقف المبدئي تترتب عليه بعض السلبيات. وإنّ الحرّية الفكرية غير المنضبطة، تقود أحياناً إلى الشطط والإسفاف والضلال، وإنّ الحدّ منها يقود إلى الانغلاق والتحجّر وهيمنة الجهل والخرافة.►

 

المصدر: كتاب جداليات الفكر الإسلامي المعاصر (قضايا إسلامية معاصرة)

ارسال التعليق

Top