• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المعرفة بلغة الفطرة

د. بهشتي

المعرفة بلغة الفطرة

يمكن في بحث المعرفة انتهاج ثلاثة أساليب:

الأوّل: المعرفة بالأسلوب الفلسفي مع الاصطلاحات. والثاني: المعرفة بتصور القرآن. والثالث: المعرفة ومسائلها التي نتعامل معها إلى حدود ما ونكون بحاجة إليها. وهذا يعني ان هناك جملة من المسائل المطروحة أمامنا في مجال المعرفة. فما هي تلك المسائل؟ وما هو رأينا في كل واحدة منها؟ باعتقادي انّ الأسلوب الأخير هو الأنسب، إذ أننا نستطيع أن نوصل بحثنا إلى المرحلة المطلوبة. واستناداً إلى هذه الأفضلية فإن بحثنا حول المعرفة له نهجه الخاص. وإذا ما فرغنا من هذا البحث فلن يصعب علينا فهم بحث المعرفة بتصور القرآن، أو بحث المعرفة بتصور المذاهب الفلسفية المختلفة للعالم. لا أدري هل انكم تفضلون بدوركم هذا الأسلوب على أسلوب المعرفة بتصور المذاهب الفلسفية المختلفة أم لا؟ وأقول هذا الكلام من الناحية التالية، وهي اننا في بعض الأحيان نبحث في درس الفلسفة، وفي أحيان أخرى نبحثُ في درس أيديولوجي يوضح أيديولوجية ثورة أو حركة ما. وعندما نريد أن نشرح ايديولوجية ثورة أو حركة معيّنة، وأن تفهم هذه الأيديولوجية وينقلوها للآخرين، فإني لا أرى أي لزوم وضرورة لأن يستهلك الوقت في طرح مسائل الآخرين. ويحتمل أن يكون هذا الأمر مفيداً في مرحلة أخرى. لكن وقبل كل شيء يلزم أن نرى ما الذي نملكه حول كل موضوع. وعندما يتبين لنا ذلك نتطرق إلى ما يملكه الآخرون، ونرى ما هي النتيجة التي يمكن ان نحصل عليها من خلال المقارنة بين الاثنين؟ وطبيعي انّ هذا الكلام لا يعني انني سوف لن أشير خلال البحث إلى ما قاله الآخرون، بل على العكس فانني سأقوم بذلك العمل ولكن في حدود الضرورة. كانت هذه مقدمة لبحثنا، والآن لندخل في موضوع البحث: وسأشير إلى ملاحظات حول الموضوع وأشرحها: الملاحظة الأولى: تقوم بيني وبين محيط حياتي علاقات متعددة، منها الإدراك والمعرفة. ونحن الناس لنا مع محيط حياتنا أنواع وأقسام من العلاقات، منها العلاقة التي نُسميها بالمعرفة، الإدراك. فالبعض يصرّ على ان يقول: إنّ العلاقة الوحيدة البنّاءة القائمة بين الإنسان ومحيطه تتمثل بالعمل (اصالة العمل). لا بأس، قولوا لا توجد هناك معرفة، وانما عمل نؤديه طبقاً لعلاقتنا مع المحيط. نحن لا نبحث في هذا الأمر، لكنني أسألكم؛ أليس العمل الذي نقوم به في مجال علاقتنا مع المحيط على نوعين؟ انكم في هذه اللحظة تؤدون بعض الأعمال. ففي ما يتعلق بالمحيط، أوّلاً انكم تتنفسون، كما ان أجهزتكم الدموية تواصل عملها. ومستوى علاقة هذا العمل بالمحيط واضح. وثانياً انكم تصغون إلى حديثي، وتتمعنون به. هل ان عملية التنفس التي تقومون بها في الوقت الحاضر، عملية إرادية وناتجة عن وعي؟ وبعبارة أخرى هل تتنفسون بإرادة ووعي منكم أم طبقاً لحركة طبيعية من جانب الرئة؟ وعلى أي حال هل هي عملية ناتجه عن الوعي أم لا؟ انكم تتنفسون من دون أن تشعروا بذلك، وفي نفس الوقت تصغون إلى حديثي. وهذا العمل هو عمل ناتج عن الوعي. إذن يمكن لنا ان نقسم العمل نفسه إلى نوعين: العمل الحاصل عن الوعي، والعمل الحاصل عن غير وعي. ونرى هنا ان مسألة الوعي تطرح نفسها مرة أخرى. وان الاستناد إلى العمل، يضع مسألة الوعي جانباً. الوعي نوع من العلاقة القائمة بيني وبين محيطي. ولكي نوضح هذا النوع من العلاقة فاننا نضرب مثلاً: نقول انكم اليوم جئتم إلى جلسة، وان مجيئكم هذا حصل على أساس من العلاقة القائمة بينكم وبين هذا المحيط. كنتم تعلمون أن درساً يوجد في هذه الجلسة يتم فيه البحث حول المعرفة. ولو كنتم تجهلون هذا الأمر لما اتيتم إلى هذه الجلسة. فمجيئكم إلى الجلسة يُعدّ نوعاً من العلاقة، وان معرفتكم بوجود قاعة تحتوي على مقاعد وتتوفر فيها إمكانيات الجلوس وإمكانية الدرس تعتبر بحد ذاتها نوعاً من العلاقة. كما ان معرفتكم بمكان الجلسة ، وان بحثا سيطرح في هذه الجلسة تعتبر علاقة أخرى. وانكم تستطيعون من دون أي عناء ان تفصلوا العلاقة الثالثة والثانية عن العلاقة الأولى، وتتعرفوا عليها أيضاً. وبالنسبة لنا فإن معرفة علاقة خاصة باسم "الوعي" أو "الإدراك" هي عملية بسيطة وبديهية وواضحة، ونحن لسنا بحاجة إلى وسيلة أخرى أو معينٍ ما أو عامل آخر لمعرفة الوعي وادراك المعرفة وتمييزها من العلاقات الأخرى القائمة بيننا وبين العالم. لكن إذا كان من المقرر ان نعي "المعرفة" بواسطة شيء آخر، فحينئذ نواجه هذا السؤال لا وهو: هل ان ذلك الشيء الآخر معروف لدينا أم لا؟ فإذا كان غير معروف فهذا يعني أن مجهولاً قد ساعدنا في التعرّف على شيء مجهول! هل يمكن قبول هذا الكلام؟ وإذا كان ذلك الشيء أو العامل – الذي نريد بواسطته أن نعي المعرفة – معروفاً، فما هو الشيء الذي يكون معروفاً لدينا قبل إدراك المعرفة نفسها؟! وعلى هذا فإنّ السعي لتعريف المعرفة، والإتيان بتعريف لها – مثل التعريف الذي نأتي به للطاولة، أو للكتاب، أو للإنسان – لن يجدي نفعاً للمعرفة. ذلك ان مثل هذه التعاريف غير كافية لتعريف المعرفة. لأنّ الشيء الأوّل الذي نعرفه نحن هو المعرفة، وليس هناك قبل ذلك أي شيء آخر يكون معروفاً لدينا لكي نقوم من خلاله بتعريف المعرفة. الملاحظة الثانية: انني اعي بسهولة مثل هذا النوع من العلاقة (المعرفة)، ولن يستطيع أي شيء أن يعرّف لي شيئاً آخر بدلاً من ذلك أو أفضل منه. وعلى هذا الأساس فإنّ المعرفة من ذلك أو أفضل منه. وعلى هذا الأساس فإنّ المعرفة غنية عن التعريف، أي أنها من البديهيات. انني أسير في هذه الأجواء، وأتنفس فيها، وأنام فيها، وهذه الأمور تشكل سلسلة من العلاقات التي ادركها، واعلم بها، وهي غنية عن التعريف. الملاحظة الثالثة: وهذه العلاقة، هي علاقة قائمة بيني وبين محيطي من جهة وبيني وبين نفسي (الإدراك الذاتي، معرفة الذات) من جهة أخرى. وكذلك الحال على سبيل المثال فيما يخص طريق "طهران – شهريار" حيث أن لي حالتين: حالة المعرفة، وحالة عدم المعرفة (في بعض الأحيان اعرف طريق "طهران – شهريار) وفي أحيان أخرى لا أعرفه. وهناك حالتان فيما يخصني وطريق "طهران – شهريار": الادراك وعدم الادراك، المعرفة وعدم المعرفة، العلم وعدم العلم) وكذلك الحال أيضاً بالنسبة للعلاقة القائمة بيني وبين ذاتي، فإن هاتين الحالتين تكونان موجودتين. حيث انني أعلم بأشياء عن نفسي واجهل أشياء أخرى. فعلى سبيل المثال: انني أعلم بأشياء عن الجسم واجهل أشياء أخرى. أو طالما لم تقرؤوا (علم التشريح) فانكم لن تعلموا أبداً لكم عظماً تتكون منها أيديكم وما عدد عضلاتها وأوردتها وشرايينها وأعصابها، ومقدار الدم الذي يجري فيها، وميزان ما تحتويه من الأنسجة. لكن عندما تضعون كتاب علم التشريح أمامكم وتطالعونه بدقة، أو أن يشرحوا لكم هذه المسائل في قاعة التشريح، فحينئذ تدركون الأمر، ويقول الواحد منكم؛ نعم، انني اكتسبت معلومات جديدة حول جسمي. وكذلك الحال أيضاً بالنسبة لشخصياتنا الروحية، فمثلاً أنتم أناس طيبو الأخلاق أو عكس ذلك، أناس صابرون أو غير صابرين. وهذه معلومات تكتسبونها حول شخصياتكم الروحية من خلال التجارب، وحول تصرفاتكم وأخلاقكم الشخصية أيضاً. فعلاقتكم إذن على نوعين: المعرفة أحياناً، وعدم المعرفة في أحيان أخرى. وعندما يحصل الإنسان على معلومات وافرة حول نفسه فحينذااك يقولون عنه انّه إنسان مدرك يعي نفسه. لذلك فإن علاقة المعرفة لا تتوفر بيني وبين محيطي فحسب بل بيني وبين نفسي أيضاً، ونعبر عنها بالإدراك أو الوعي الذاتي. الملاحظة الرابعة: الإدراكات، وتشكل أذهاننا أو جزءاً منها. إنكم تدركون بعض الشيء عن محيطكم، أو تدركون بعض الأشياء عن أنفسكم، وتسمى مجموعة من هذه الإدراكات بالذهن. والآن يجب أن نعرف هل انّ الذهن يتكون من مجموعة من الإدراكات المتراكمة أم أنّه مجموعة إدراكات ليست متراكمة فحسب بل وتوجد علاقات معينة بينها؟ أم أنّ الذهن عبارة عن جزء من وجود الإنسان تقوم هذه الإدراكات بتنميته (يعني ان ينمو الذهن مع كل إدراك، وأن يلعب كل إدراك أمام الذهن دور جذب نسجة جديدة، أم دور تنمية الذهن في هذه الإدراكات، كما ينمو الجنين على أثر المواد الغذائية التي يجذبها أو كما تنمو النطفة) وعلى أي حال فإنّ الإدراكات تشكل جزءاً من أذهاننا. عندما نطلق كلمة الذهن فإننا نشير إلى هذه الإدراكات، الإدراكات لوحدها أو مع ماهياتها، أحياناً مع أشياء أخرى. لذلك فعندما نطلق كلمة الذهن فإننا نريد بها الإشارة إلى هذه الإدراكات المتراكمة والمتصلة. نحن نقول، الذهن العين. أي اننا استخدم الذهن مقابل العين، فنقول انّ هذا الأمر، ذهني وهذا الأمر عيني. لنضرب مثلاً: لنفرض انّكم في هذه اللحظة تسيرون في مكان مظلم، وتمرون من جانب حائط منخفض، فإنكم تغرقون في بعض التصورات وتقولون في أنفسكم؛ يحتمل ان يكون أحد الأشخاص متربصاً لنا خلف الحائط ويريد مهاجمتنا. ثمّ يتعاظم هذا التصور في نفوسكم فتطلقون صيحة. فهل يوجد خلف الحائط واقع عيني لشخصٍ تتصورنه عدواً لكم ويتربص لكم هناك أم لا؟ انّه يوجد في أذهانكم. إذن فهذا واقع ذهني. وفي الحقيقة انكم تصورتم أن شخصاً أو عدواً كان متربصاً لكم فاطلقتم صيحةً. وهنا فانكم تفصلون الذهن والعين عن بعضهما، وتقولون انّ العدو الذي واجهناهُ لم يكن له واقعاً عينياً بل واقعاً ذهنياً. أي في الحقيقة مرّ في أذهاننا مثل هذا الشيء (الذهني – العيني). وهناك أشياء كثيرة في العالم لكننا نجهلها ولم تخطر ببالنا أبداً فهي عينيات لم تمر في أذهاننا مطلقاً. حسناً، فهذا السؤال مطروح أمامنا وهو عندما نقول الذهن والعين فهل يعني انّ الذهن ليست له عينية؟ وهذه ملاحظة هامة أرجو أن تمعنوا النظر بدقةٍ فيها؛ هل اننا عندما نقول الذهن والعين ونستخدمهما مقابل الواحد الآخر، فإننا نعني بذلك انّ الذهن هو شيء بحد ذاته وانّ العين هي شيء آخر؟ وعلى هذا الأساس فهل انّ الذهن ليس عيناً؟ هل اننا نتصور وجود رابطة ادراكية تقوم بيننا وبين محيطنا؟ وعندما نقول اننا كنا نتصور، فإنّ التصور يصبح واقعاً! ويصبح عيناً. ولو استخدمت كلمة العين بمعنى الواقع أو مرادفة للواقع، فإنّ الذهن والتصور والتفكير والإدراك هي سلسلة من الأمور العينية. واننا عادةً نستخدم العين بهذا المعنى. حيث نستخدم العين بمعنى الواقع في معناها الأساسي ومعناها الواسع. الملاحظة الخامسة: إنّ الذهن والعين يستخدم أحدهما مقابل الآخر، لكن يلزم القول انّ الذهن هو جزء من العين. فالذهن له واقع. ومثلما قلتُ فإنّ الشخص الذي يسير في الظلام إلى جانب حائطٍ يقول في نفسه، ماذا لو كان أحد الأعداء متربصاً لي خلف الحائط؟ ويتعاظم هذا التصور في داخله وبذلك يصيح؛ أيها الناس انقذوني من هذا المأزق. وهذا التصور هو ذهن، ذهن ليست له عينية. والواقع انّه ليس هناك عدو خلف الحائط، الا أن هذا التصور هو واقع عيني بحد ذاته. لقد تصور ان عدواً يوجد خلف الحائط، ولهذا أطلق صيحةً. والا فإنّه لم يكن ليصيح. كل هذه الأشياء هي واقع عيني سواء كان هذا الواقع هو تصوره، أو ارتباكه، أو صياحه. لا حظوا جيِّداً، عندما نستخدم الذهن والعين أحدهما أمام الآخر فهذا لا يعني انّ الذهن شيء مفصول عن العين أساساً. كلا، فالذهن جزء من العين، وجزء من الواقع الذي فيما إذا قارنّاهُ مع الأجزاء الأخرى للواقع فحينذاك نقول لهذا انّه ذهن، ولذاك انّه عين. واننا عادة نستعمل كلمة ما في معنى خاص، ثمّ نستخدم نفس الكلمة في جزء آخر من معناها. فعلى سبيل المثال يطرح سؤال على بعض الناس: يا سيد فلان، هل كنت في مدينة مشهد؟ نعم. كم يوماً مكثت؟ سبعة أيام. ماذا تعني بسبعة أيام؟ هل تعني سبعة أوقات من الصباح إلى المساء؟ أو سبع ليالٍ وسبعة أيام؟ وعادة يتكون اليوم من أربع وعشرين ساعة. وفي مثال آخر نقول: يا سيد فلان، المناخ حار، فكيف تقضي الصيف؟ فيجيب قائلاً؛ انني في الأيام موجود هنا (أي انّه في الليالي يخرج من طهران ويذهب إلى ناحية أخرى). وهنا فإن كلمة (اليوم) تستخدم مقابل الليل. إذن فإننا في بعض الأحيان نستخدم لفظ اليوم بشكل يشمل الليل والنهار، وفي أحيان أخرى نستخدمه بشكل يقابل الليل، أي انّه يشمل الليل في معنى ويقابل الليل في معنى آخر. وكذلك الحال بالنسبة للعين، فهي تشمل الذهن في معنى وتقابل الذهن في معنى آخر. وهذه ملاحظة دقيقة وهامة في بحث المعرفة، بل وحتى في موضوع الوجود وفهم الوجود. وهنا أريد أن أشير إلى ملاحظة أخرى وهي ان تبايناً جزئياً يسفر عن المقارنة بين هذين المثالين مع الذهن والعين. انّ الذهن والعين مرتبطان مع بعضهما، ويؤثران بنفس الدرجة في الواحد الآخر. أي: أوّلاً: انّ العين تؤثر في الذهن. مثلاً انكم تذهبون إلى حديقةٍ ما وتشاهدون فيها الورود والماء والأشجار. وفور رؤيتكم لذلك المنظر فإنّه يرتسم في أذهانكم. إذن فإن تلك العين، أي منظر الورود والماء والأشجار قد تركت أثراً على الذهن، وأضافت منظراً جديداً وصورة أخرى إلى الذهن. وهذا هو معنى أنّ العين لها أثرها في الذهن. ان أكثر ذهنياتنا وادراكتنا الذهنية من مثل الرؤية والسمع والشم والذوق والتصفيق وما شابه ذلك قد حصلنا عليها في تعاملنا مع العين. مثلاً عندما تلمسون كأس الماء تجدونه بارداً. فإن تشخيص ذهنكم لبرودة هذا الكأس هو إدراك ذهني وجد على أثر تعاملكم مع عينٍ. وثانياً: انّ الذهن يؤثر بدوره في العين. لقد ضربنا مثلاً وقلنا ان شخصاً كان يسير لوحده إلى جانب حائطٍ، وتصور ان عدواً يقبع له خلف الحائط، لذلك أطلق صيحة وفرّ هارباً. فالصحية التي أطلقها كانت عملاً عينياً. لكن ممّ نشأت هذه الصيحة؟ وممّ نشأ هروبه الذي يُعدُّ هو الآخر عملاً عينياً؟ لقد نشأ كل منهما من ارتباكه، وانّ هذا الارتباك نشأ من تصوراته الذهنية. إذن فالذهن يؤثر في العين. ولنضرب مثلاً آخر: إنّ قاعة الجلسة عندما ارادوا بناءها لم تكن حينذاك سوى قطعة أرض خالية لا غير، فما الذي فعلوه في الوهلة الأولى؟ في البداية جاء المهندس، ورسم في ذهنه خريطة القاعة، ومن ثمّ نقلها على الورقة، فأوجد خريطةً. وتلك الخريطة كانت حصيلةً لخريطته الذهنية. ثمّ سلّم الخريطة للمعمار. وبذلك انتقلت الخريطة إلى ذهن المعمار الذي بدأ ببناء القاعة طبقا لتلك الخريطة. وفي كل عمل كان يؤديه المعمار فإنّ هذه العينية كانت حصيلة لتلك الخريطة. وفي كل عمل كان يؤديه المعمار فإن هذه العينية كانت حصيلة لتلك الذهنية، أي ذلك التصور الذهني الذي حصل عليه من خلال رؤيته لتلك الخريطة. إذن لاحظوا استمرار التأثير المتقابل للعين والذهن. الملاحظة السادسة: انّ الذهن والعين يؤثران بنفس الدرجة أحدهما الآخر. فهمنا – لحد الآن – اننا نملك ذهناً وعيناً، وتقوم بين ذهننا هذا وهذه العين علاقة باسم علاقة الإدراك والمعرفة التي فهمناها ببساطة. والسؤال المطروح هو: ما هي توقعاتكم من هذا الذهن ومن ذهنياتكم؟ إنّ أهم وأكبر توقع للإنسان من هذه الإدراكات الذهنية هي أن تعرّف له الواقعيات العينية، ان تبينّها له، وان تدلّه عليها. إنّ اسمى القيم التي يطمح الإنسان إليها من هذه الإدراكات هي الواقع، وواقع تلك الإدراكات (الأشياء). انني عندما افتح عيني وانظر إلى اللوحة الموجودة أمامي فأنني أريد ان اقرأ العبارة المدونة على اللوحة بشكل صحيح. وعلى هذا الأساس فإذا ظهرت من خلال قراءتي صورة خاطئة، أي صورة متباينة مع ما هو مكتوب على اللوحة، فحينذاك أشعر بالاستياء وأقول لماذا اخطأتُ؟ ولوان ذهنية ما لم تُرينا واقعاً عينياً، وتخلق لنا تصوراً غير ذلك بمثابة واقع، ففي تلك الحالة نكون قد خُدِعنا بهذه الذهنية. الملاحظة السابعة: ان أهم قيم الإدراك والمعرفة بالنسبة للإنسان هي تلك التي تبين له الواقع، أي أن تكون واقعية. والآن لنضع ذهنياتنا هذه على محك الاختبار من ناحية الواقعية. فلو اختبرناها لعدة مرات فاننا سنصل إلى هذه النتيجة الواضحة وهي أن جزءاً من ذهنياتنا هي واقعية بلا شك وترينا الواقع، كما أن جزءاً آخر منها ليست واقعية، وان ما تبديه لنا ليس له واقعاً. إذ أنّ الواقع هو غير ذلك. ونحن نحصل من خلال وضع الذهنيات على محك الاختبار على هاتين النتيجتين ببساطة. ولا نشك في أي منهما مطلقاً. الملاحظة الثامنة: نرى بوضوح من خلال إختبار ذهنياتنا أن جزءاً من هذه الذهنيات يشكّل واقعيات ترينا الواقع، وانّ الجزء الآخر لا يضم واقعيات، وانّ الواقع العيني هو شيء آخر عدا الذي يوجد في أذهاننا. ونحن لا نتردد في هذا الأمر. انّ الذهنية التي لا تكون واقعية وتبين خلال الواقع فإنّها لا تُعدّ إدراكاً. وعلى هذا الأساس فإنّ المسألة الهامَّة في بحث المعرفة هي مسألة الحصول على المعايير والمناهج والأساليب التي تساعدنا على اكتساب إدراك واقعي (المعيار، والنهج، والأسلوب الصحيح للمعرفة). ولو استندنا في بحث المعرفة على هذا الأمر ووفّقنا، فهذا يعني اننا حققنا الهدف الأساسي من بحث المعرفة. وبعبارة أخرى اننا استطعنا أن نعي واقع العالم، وواقع أنفسنا، ومحيطنا كما هو أو كما يجب أن يكون، وبكلمة أخرى ماذا نفعل لندرك الحقيقة والواقع؟ إنّ أحد الأخوة طلب مني أن أبين الحقيقة والواقع، وها أنا أقوم بهذا العمل. اننا بحاجة لأن نعي الواقع والحقائق بشكل صحيح. والواقع، تعبير عما هو موجود، بينما الحقيقة تعبير عما يجب أن يكون عليه الشيء. ما هي الصلة بين الواقع والحقيقة؟ هل ان كان واقع، حقيقة؟ وهل ان كل حقيقة متصلة بالواقع؟ كلا فإنّ الصلة بين الحقيقة والواقع هي على النحو التالي: - ان بعض الوقائع هي حق وحقيقة. - ان بعض الوقائع ليست حقاً ولا حقيقة، بل هي باطلة. - ان بعض الحقائق والحقوق لم تصبح واقعيةً بعد. ففي ما يتعلق بالشطر الأوّل، لنفرض أن نظاماً اقتصادياً واخلاقياً واجتماعياً عادلاً سيقام في وقت ما. فإن مثل هذا النظام سيكون نظاماً واقعياً وحقاً. او انكم عندما تضحون بأنفسكم لثورة تعمل في سبيل الله فإن عملكم حينذاك سيكون عملاً حقاً وعملاً واقعياً. أي انكم في الواقع ضحيتم وان تضحيتكم هي عمل حق. وفيما يتعلق بالشطر الثاني، فانكم لا سامح الله لو اعتيدتم على إنسان وعلى حقوقه، وظلمتم ذلك الإنسان فان ظلمكم هو واقع لأنكم قمتم بممارسته، لكنه ليس حقيقة بل باطلاً ينافي الحقيقة. أمّا بالنسبة للشطر الثالث، فإنّ القيم والمُثل التي يميل لها الإنسان ويطمح إليها باعتبارها حقيقة وحقاً تشكل جملة من الحقائق والحقوق التي لم تكتسب بعد واقعية عينية. وبذلك اتضحت لدينا الصلة بين الحقيقة والواقع. ان بعض الوقائع هي حقائق كما أن بعض الحقائق هي وقائع. وتتوفر في بعض الأحيان أشياء حقيقية لكنها غير واقعية، كالمُثُلِ التي نطمح إليها لنجعلها واقعية. وعندما نسير خلف الإدراكات المتعلقة بالواقع فإننا نريد منها ان ترينا الواقع كما هو. وعندما نسير خلف الإدراكات المتعلقة بالحقيقة فإننا نريد منها أن تُرينا الحقيقة كما هي من أجل أن نمنحها واقعية، لئلا يتراءى لنا نهج باطل بصورة حق، وتذهب هباءً جميع المساعي التي بذلناها. إذن فإن دور الإدراك التي يتمثل في معرفة الحق والحقيقة يجب أن يكون بشكل يكشف لنا عن الحق والحقيقة كما هما حتى وان لم يصبحا بَعدُ واقعاً. الملاحظة التاسعة: أننا ننتظر من الإدراك ان يكشف لنا الواقع بعينه، أو الحقائق والحقوق بعينها. ولذلك فإن أهم فصل في بحث المعرفة يتمثل بالفصل المتعلق بأسلوب أو نهج المعرفة ومعاييرها ومحكاتها. أي ما الأسلوب أو النهج الذي يجب أن نستخدمه؟ وما المعايير والمحكات التي نستفيد منها لكي تكون ذهنياتنا (إدراكنا) مظهراً للواقع والحقيقة؟ هنا يلزم الإشارة إلى ملاحظة هامة جداً وهي اننا بهذا الأسلوب الذي انتهجناه قد انتهينا من مسائل جمّة. وبعبارة أخرى اننا فهمنا مسائل معقدة في مجال المعرفة بواسطة الأسلوب، أو بعبارة أدق النهج الذي انتخبناه. لذلك أرجو أن تقولوا لي ما يخطر ببالكم. وإذا كنتم ترون انّ المسألة واضحة فتفاءلوا، واعلموا أننا لسنا بحاجة لمثل هذه المسائل المعقدة والاصطلاحات المتعبة. ذلك انّ الإنسان بامكانه أن يعي المسائل بأسلوب أو نهج واضح يتطابق والفطرة. كما اننا لو تناقشنا معاً حول البحوث المعقدة مستخدمين الاصطلاحات فنتردد في بعض الأحيان ونقول انّ المسألة الفلانية هي هكذا أو ليست هكذا، في حين يلزم علينا أن نحصل على النتيجة بهذه الوسيلة. اننا نضع هذه الوسيلة التي يستخدمها الآخرون في نهاية المطاف أمامنا وأمام الآخرين، ولكننا في نفس الوقت مستعدون لأن نستمع لما يقوله الآخرون.   المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 1 لسنة 1403هـ

ارسال التعليق

Top