• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النجوى في القرآن

د. الشيخ شمران العجلي

النجوى في القرآن
◄يتحرك الإسلام العظيم متمثلاً بالنبيّ الكريم والقيادة الواعية في كل عصر لصنع مجتمع يسوده الأمن والسلام، ومن أجل تحقيق هذا الهدف في المجتمع الإنساني يتوسل الإسلام والقيادة الواعية الحكيمة بوسائل متعددة منها توجيه النجوى في العلاقة الشخصية والعلاقة الاجتماعية، في الاجتماع الخاص والاجتماع العام، في حديث الخير وحديث الشر.   مفهوم النجوى: جاء في معاجم اللغة: ناجيته أي ساررته، وأصله أن تخلو به في نجوة من الأرض أو تنجو بسرك من أن يطلع عليك أحد. وانتجيت فلاناً استخلصته لسري. والنجو: السرُّ بين اثنين، وجاء في اللسان: انتجاه: أي اختصه بمناجاة، قال: دعا رسول الله (ص) علياً يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه، فقال (ص): ما انتجيته ولكن الله انتجاه، أي أمرني أن أناجيه. وجاء في التنزيل "وإذ هم نجوى" أي متسارّون. وقوله: "خلصوا نجياً" أي اعتزلوا متناجين.   أنواع النجوى: ·       أوّلاً: علم الله تعالى: إنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يعلم الإنسان ويكشف له انّه سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وانّ علمه محيط إحاطة كاملة ودقيقة لكلّ شيء وفي كل شيء وبهذا يريد أن يرسم في ذهن الإنسان صورة له نوحي بالقوة المطلقة والرهبة الموجبة للطاعة والعبودية له وحده، وهذا ما تقوم به بعض أطراف القوى في العالم فإنّها دائماً توحي إلى الناس انّ اذرعها المتحدة في المجتمع وعيونها منتشرة في كل وسط تأتي لها بكل شاردة ووارد وبكل صغيرة وكبيرة فلا يفلت منها أحد ولا تغيب عنها حركة وبهذا توحي إلى الضعفاء بالاستسلام والقاء السلاح وشل الحركة، إذ كلّ حركة مرصودة، وهو أمر يحتاج إلى دراسة وتبصر وإعادة تقييم إذ انّ أكثره زيف. قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) (التوبة/ 78). وقال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ) (المجادلة/ 7). وقال سبحانه: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ) (الزخرف/ 8). وقال – عزّ وجلّ –: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) (الإسراء/ 47)، فوضَعَ الله تعالى نفسه موضع الإحاطة التامة بكلّ شيء، والقوة المهيمنة على كلّ نفس سرها ونجواها، فما يلفظ الإنسان من قول، وما يوسوس من وسوسة ولا يفكر في شيء بصمت فإنّ الله تعالى يعلمه. ووضع – سبحانه – نفسه موضع الإدارة الراعية الحريصة على المؤمنين، فيخبر النبيّ والمؤمنين بنجوى الأعداء وما يدور في اجتماعاتهم السرية. ·       ثانياً: المشورة واتِّخاذ القرار: لما كانت النجوى تعني الاختصاص بأحد الناس أو بمجموعة من الناس وتنجو بسرك له أولهم من أن يطلع عليه أحد، فهي أسلوب من أساليب المشورة لتطرح سرك على من اختصصته لتراجعه معه، وتتبيّن ما فيه أي في سرك من أمر حسن أو سيِّء، وتتوجه الوجهة الحسنة في اتخاذ القرار والعزيمة. قال تعالى: (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) (طه/ 62). وقال سبحانه: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الأنبياء/ 3). وقال – عّزّ وجلّ –: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (يوسف/ 80). ·       ثالثاً: النجوى المحرمة: قلنا في بداية الحديث انّ سياسة السلطة الحاكمة في الإسلام تمارس الضبط الاجتماعي تثبيتاً للأمن وحفاظاً على السلام ومن أجل ذلك فهي تمنع تكون جيوب داخل المجتمع الإسلامي أو محاور وتكتلات غير منسجمة مع توجه الإدارة السياسية، فهي تمنع أن تبيت مجموعة من الجماعة المسلحة أمراً بليل وتأتمر بعيداً عن الأنظار لتواجه الإدارة السياسية والمؤمنين بأمر مقرر من قبل لتجعلها أمام الأمر الواقع فتحدث بذلك فتنة داخل المجتمع الإسلامي، وقد اقترنت هذه النجوى بالمنافقين في أكثر المواضع. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (المجادلة/ 8). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المجادلة/ 9-10). ·       رابعاً: مناجاة الرسول (ص): كلّ فرد في المجتمع الإسلامي يطمع أن تكون له خطوة ومكانة عند النبيّ (ص) فهو يحاول أن يتقرب إلى النبي بمختلف الوسائل وكلّ حسب نيته، فمنهم من هو صادق في محاولة تقربه وتحببه إلى النبيّ ومنهم من يريد أن يشير إلى الناس انّ له خطوة ومكانة عند النبيّ ليستثمرها في مآربه الأخرى، لذا ترى بعضهم كان يتزاحم في المجلس ليكون قريباً من رسول الله فجاءهم الأمر والتعليم من الله تعالى في آيات في سياق النجوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ...) (المجادلة/ 11). لذا فكان بعضهم من يحاول أن يسار النبيّ (ص) بأمور تافهة ليس له إلا أن يراه الناس يختص برسول الله في سر وبهذا يشغلون النبيّ عن كثير من مهماته التبليغية والسياسية والاجتماعية، ويوهمون الناس انّهم أصحاب سر رسول الله (ص). فنظم القرآن هذه النجوى فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المجادلة/ 12). فتوقف المسلمون جميعاً عن مناجاة رسول الله (ص) إلا علياً (ع). جاء في كتاب البرهان في تفسير القرآن للبحراني: عن ابن عباس في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) (المجادلة/ 12)، قال: انّه حرّم لكلام رسول الله (ص) ثمّ رخص لهم في كلامه بالصدقة فكان إذا أراد الرجل أن يكلمه تصدق بدرهم ثمّ كلمه بما يريد، قال: فكفَّ الناس عن كلام رسول الله (ص) ونجلوا أن يتصدقوا قبل كلامه، فتصدق علي (ع) بدينار كان له فباعة بعشرة دراهم في عشر كلمات سألهن رسول الله (ص). ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره، وبخل أهل الميسرة أن يفعلوا ذلك فقال المنافقون: ما صنع عليّ بن أبي طالب الذي صنع من الصدقة إلا انّه أراد أن يروج لابن عمه. ثمّ نسخت هذه الآية: أي حكم هذه الآية بقوله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المجادلة/ 13). وجاء في جامع الترمذي وتفسير الثعلبي... عن عليّ (ع) انّه قال: "بي خفف الله عن هذه الأُمّة، لأنّ الله امتحن الصحابة بهذه الآية فتقاعسوا عن مناجاة الرسول (ص) وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدق بصدقة، وكان معي دينار فتصدقت به فكنت أنا سبب التوبة من الله على المسلمين حين عملت بالآية ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب لامتناع الكل من العمل بها. (تفسير البرهان 5، 325-326). وكذلك يصب في هذا النوع من النجوى قوله تعالى: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) (مريم/ 52)، أي رفعنا منزلته واعلينا محله حتى صار محله منا في الكرامة والمنزلة محل من قربة مولاه في مجلس كرامته، فهو تقريب كرامة واصطفاء لا تقريب مسافة وادناء. ·       خامساً: النجوى المستحبة أو نجوى الخير: لما كان لابدّ أن يتخص اثنان بحديث أو مجموعة بأمر، وتلك طبيعة الحياة الاجتماعية، ومن طبيعة اهتمام الإنسان بأمره من ناحية، وبأمور المسلمين وأمور مجتمعه من ناحية أخرى، فوجه القرآن هذا التسار والتشاور، وجه الأحاديث الاجتماعية والاجتماعات الخاصة والمؤتمرات العامة، أن تكون باتجاه البر والتقوى والمعروف والصدقات والاصلاح، فقال تعالى: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المجادلة/ 9). وقال عزّ وجلّ: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ...) (النساء/ 114). وجاء في الحديث "أفضل النجوى ما كان على الدين والتقوى واسفر عن اتباع الهدى ومخالفة الهوى". اُنظر إلى تعبير الحديث البليغ، فإنّه أشار إلى الخلوص في الحديث والتشاور وبشكل سري لاتخاذ قرار وخطة في الدين والتقوى حتى إذا توصل المجتمعون إلى قرار سليم كشفوا هذا القرار بالفعل والعمل وعبر عنه بقوله: "اسفر"، وسارعوا إلى تنفيذ القرار البار باتجاه الهدى ومخالفة الهوى. وجاء في الحديث "لا يتناج اثنان دون الثالث". وقال: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج رجلان دون الآخر فإنّ ذلك يحزنه ويؤذيه". وهذا أمر يخص الإصلاح الاجتماعي ومنع أي نوع من بذور الفرقة والتباعد بين أفراد المجتمع الإنساني. وفقنا الله تعالى لأن تكون مناجاتنا ومؤتمراتنا للمعروف والإصلاح وطاعة الرسول واتباع الهدى.   "النجوى أسلوب من أساليب المشورة لتطرح سرك على من اختصصته لتراجعه معه، وتتبين ما فيه، أي في سرك من أمر حسن أو سيِّء وتتوجّه الوجهة الحسنة في اتِّخاذ القرار والعزيمة"   المصدر: مجلة الغدير/ العدد 32 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top