• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف صارت سيِّدة للنساء؟

د.إقبال الأسدي

كيف صارت سيِّدة للنساء؟

هذا سؤال قد يخطر في أذهان البعض ممّن يبحث عن المزايا والخصوصيات التي على أساسها أعلن رسول الله (ص) عن تعلّق اللقب الفريد "سيِّدة نساء العالمين" بإبنته الوحيدة فاطمة دون سواها، فصارت بذلك صاحبة الوسام النسائي الأوّل، وكانت موضع تكريم خاص من قبل أبيها.

فهل كونها إبنة النبي (ص) هو السبب وراء ذلك كما نشاهد اليوم إن إبنة القائد وزوجته تصير بصورة تلقائية "السيِّدة الأولى" أو "الأميرة"، وتعامل على إستحقاق هذا اللقب لمجرد كونها مرتبطة بصاحب الموقع السياسي، وإن لم تكن تمتلك أيّة مؤهلات ذاتية، وكفاءات، ولياقات تجعلها أهلاً لنيل موقع إنساني وإجتماعي متميز؟ كيف صارت فاطمة سيِّدة النساء وهي لم تعش سوى مدة وجيزة مثل عمر الورد (18 أو 28 سنة)، ولم تتح لها ظروفها التي عاشت فيها مع أبيها وبعده أن تكون ذات نشاطات وأدوار وممارسات ثقافية واجتماعية كثيرة واسعة وممتدة تعج بها المصادر التاريخية والحديثية، ولم تحفظ لها تلك المصادر حتى مصادر الموالين سوى مواقف وكلمات معدودة لا تكاد تكون إزاء مواقف وكلمات إحدى زوجات النبي (عائشة) مثلاً كقطرة في بحر؟ إنّ الإجابة على هذه التساؤلات وما يشاكلها بما يوصل إلى حقيقة السبب الذي نالت به الزهراء ذلك اللقب، واستحقّت التكريم المتميز الذي حفلت به كل مصادر الثقافة الإسلامية لجميع المسلمين بلا إستثناء. إنّ الإجابة الشافية تتحقق من خلال النظر المتأمِّل في الحقائق التالية: 1-   إنّ الذي آمن بالنبوّة ورسالتها وارتباطها الغيبي بالسماء، ملزم أن يأخذ عنها كل شيء مادامت لا تنطق عن الهوى، وإنّ كل ما جاءت به من كتاب أو سنّة هو وحي يوحى، وعلى هذا تكون الإمتيازات التي أعلنتها لفاطمة مستندة إلى تقييم إلهي نابع من معرفة غيبية دقيقة تنظر إلى كل زوايا وجوانب الشخصية التي منحتها تلك الإمتيازات. 2-   إنّ النبي (ص) لم يتفرّد بالمديح والإطراء لفاطمة، بل كان القرآن صاحب الكلمة العليا في هذا المجال. ومَن يلاحظ مثلاً آية التطهير وآية المباهلة وآية المودّة وسورة الدهر، يجد أنّ الإعلان عن عصمة فاطمة، وعن قربها من الله على حد أمره سبحانه نبيّه أن يباهل بها نصارى نجران لأنّها المتميزة عند الله، والإعلان كذلك عن فرض حبّها أجراً على وظيفة التبليغ وعن رضاه تعالى عنها، مع ذكر تفاصيل ما أعدّه لها من النعيم والملك الكبير، كل ذلك كان بيانه والحديث عنه بالوحي القرآني من الله لا بالسنّة وكلام الرسول. 3-   إنّ تجربة الإلتزام والتطبيق الحرفي المضامين الرسالة هما أوضح ما برز من حياة وسيرة السيِّدة الزهراء، وكانت نموذجاً مصغراً لأبيها في أخلاقه وسلوكه، بل حتى في حركاته وسكناته ومنطقه، تقول عائشة: "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثه وسمتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة". وإذا كانت فاطمة بهذا المستوى من التجسيد للمضمون الرسالي وإلى الحد الذي لم تخالطه شائبة عيب أو خطأ أو منقصة، وكانت بمستوى العصمة التي اختصّها الله بها في دائرة أهل البيت، فإنّ الإمتياز المتفرد الذي نالته من الله في كتابه ومن أبيها في سنّته، إنّما كان بلياقة سلوكية عالية. ومادام قانون (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات/13) هو الميزان الفصل للتقييم، فإنّنا نجد فاطمة على أساسه هي الأكرم عند الله من بين النِّساء على أساس السيرة والممارسة والواقع العملي، ولا ربط لهذه السمة بطول العمر، وكثرة الممارسة والكلام، والبريق الإعلامي والتاريخي. 4-   إنّ الدور الذي قامت به فاطمة مع أبيها في بداية رحلة النبوة، حيث كانت تبذل له وهي صغيرة -لاسيما بعد رحيل والدتها في الشعب- منتهى الحب والإحترام والحرص والإهتمام وحتى المتابعة له في تنقلاته في رحاب الدعوة، حيث يواجه ألوان القسوة والعنت والإعراض والعدوان من قريش، وكانت فاطمة تنال نصيبها من هذه الألوان عندما تتصدّى للدفاع عن أبيها، وكان (ص) يجد لديها حضن الأُم الحانية في البيت بعد عودته إليه ليستريح، ويجدد قواه، ويستعيد أنفاسه، والله سبحانه أعلم بالذي كانت تبديه لأبيها من مظاهر الحفاوة والرعاية إلى الحد الذي جعله (ص) يختصر كل الكلام والبيان عن حقيقة تلك المظاهر بعبارة فريدة ومعبِّرة لا مثيل لها، ولم يتفوّه بها أب عن إبنته على طول التاريخ: "فاطمة أُمّ أبيها". ومن كانت للنبوّة أوّل إنطلاقتها وفي أعتى صنوف المواجهة -حيث الوحدة، والغربة، وقلة الناصر، وكثرة العدو- بذلك المستوى من دور الحماية والدفاع والتأييد والرعاية، وهي تحالف الغصة والزفرة والعبرة، لجديرة أن تكون سهيمة في عملية وضع الحجر الأساس للدعوة، وفي مسؤولية صنع الخطى الأولى للمسيرة، حيث تتشكّل حلقات العمود الفقري للإنطلاقة النبوية، ولا يستطيع إلا الله والمنصفون تقدير حجم هذا الدور الثقيل، وما يستحقه من وسام متميز للتقدير والتكريم. 5-   وحيث كانت فاطمة كما توحي عبارة (أُمّ أبيها) -متفردة في رعاية النبوّة في أولى خطواتها على طريق التغيير- كانت صاحبة دور متفرد في محاولة التصحيح للمسيرة عندما رأت أنها حادت بعد عروج أبيها عن المنهج المرسوم، وكان موقفها في الرفض في كل فصوله الحركية والبيانية يرسم للتاريخ الإسلامي منذ البدء منهج الثورة على الإنحراف، والقيام بالواجب الشرعي في الحفاظ على الصواب والأصالة والشرعية، ومحاربة المنكرات، والبدع، ومظاهر التحريف والتزييف، وقد بذلت الزهراء على هذا المسار قصارى جهدها، وهمّها، وانفعالها، حتى قضت شهيدة مما كابدته من مرارة الصدمة، وحرارة الحسرة، وسجلت بقضية موتها وقبرها درساً توعوياً، تعبوياً، هادفاً، ظلّ يعطي عطاءه المنشود في شحذ عزائم الرافضين على طريق المقاومة والصمود.. وإنّ أي منصف لبيب يحسن التحليل والتقييم لا يستطيع أن ينكر الفضل المتميز الذي تستحقّه الإنسانة التي صنعت هذه الحماسة السياسية الباهرة، ودفعت لها ضريبة باهظة، وجعلت منها مدرسة ومنارة للأجيال على مرّ التاريخ. وكان ولدها السبط الإمام الحسين، وإبنتها العقيلة زينب، طليعة مَنْ جسّدوا بالتأسِّي الأمثل روح الإلتزام بتلك الوصية العملية وصية الرفض، والتصدي لتغيير المنكر، وإعادة الأُمور إلى نصابها. 6-   لم يكن عمر فاطمة القصير بعد عروج النبي(ص)، حيث لم تعش بعده إلا ستة أشهر على أبعد الإحتمالات، ولم يكن ظرفها الأليم كذلك، ليسمحان لها بغير ذلك الموقف التصحيحي، ولو أنّها أتيح لها وهي إبنة النبي، وحبيبته، وخاصته، وصاحبة تلك الأوسمة الزاهية من التكريم الإلهي والنبوي، أن تعيش عمرها الطبيعي في الظرف السوي -لما كان لسواها الكلمة الفصل في الوسط النسوي عن كل ما يهم المرأة من ثقافة إسلامية في شتى مناحي الشريعة، ولما كانت ثقة النساء، بل الرجال بها، وعلمهم بشأنها وكمالها، وقربها من النبوّة، وحبّ النبي لها، وتأكيده على دورها- ما كانت كل هذه الموائز لتعدل بهم عنها مصدراً قطعياً في فهم معالم الدين وأحكامه، ومعرفة أسرار الرسالة، وخصائص النبوة (ومَن في البيت أدرى بالذي فيه). 7-   خصوصية المنبت، حيث إنّ فاطمة كما في روايات الفريقين، هي نطفة زرعها اللطف الإلهي في صلب الرسول (ص) من ثمر الجنّة عند عروجه إلى ربّه في حادثة الإسراء والمعراج. ومن هنا قيل إنّ أباها المصطفى كان يشمّها ويثلمها وهو يتذكّر بها تلك الجنّة التي نشأت منها، ويطلق عليها لقب (الحوراء الإنسيّة). وهذه الخصوصية تعطي فاطمة تميزاً واضحاً يجعلها فوق غيرها في كرامة الكمال، والسلامة الروحية، والقرب من الله سبحانه. ولعل خصوصية المنشأ هي التي جعلت النبي (ص) يربط قضية زواجها بإذن الله مباشرة، حيث كان (ص) يكرر أمام مَنْ يتقدّمون لخبطتها أنّه ينتظر في هذه المسألة إرادة السماء وإختيارها، وقد أبدى في مشروع زواجها من الحفاوة والإهتمام ما لم يبده في أي مشروع زواج آخر، كما هو واضح في كتب السيرة والتاريخ. 8-   خصوصية التربية النبوية الخاصة التي تلقّتها من أبيها وهي في أحضانه منذ نعومة الأظافر وحتى ساعة رحيله، وكان (ص) حتى في المشهود من المواقف يتحفها برعاية فريدة، ويبدي من المشاهد العلنية في هذا المجال ما لم يخف على أحد من صحابته. ولهذا الإنكشاف والوضوح، لم يتمكّن أعداؤها من إخفاء هذه الحقيقة وطمسها، وكانت عائشة تقول: "كانت فاطمة إذا دخلت عليه -الرسول- قام إليها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه". وتتحدّث السيرة النبوية عن لسان ابن عمر أنّ النبي (ص) إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة، وإذا قدم من سفر كان أوّل الناس عهداً به فاطمة. وظلّ شهوراً عديدة على نواظر المسلمين لا يدخل مسجد لصلاة الصبح قبل أن يمر على بيت فاطمة يؤذنها بوقت الصلاة ويقرأ على مسامعها آية التطهير. إنّ النبوّة التي صنعت بتوجيه الله أُمّة متميزة لدور الشهادة على الأمم، لابدّ هي قادرة على صنع إمرأة متميزة لدور الشهادة على الأُمّة. وقد تكرر سماع المسلمين له (ص) وهو يتحدّث عن الإقتران الوثيق بين رضا فاطمة ورضاه، وبين غضبها وغضبه، ممّا يعني الوحدة الروحية العجيبة، والإنسجام الشعوري الباهر الذي يُجسِّد إنّه قد وصل بإبنته الزهراء إلى درجة الكمال الذي يجعلها قطعة من نفسه وشعوره وتوجهاته ونزاهته وعصمته بصورة مطلقة وقاطعة، ولعله لهذه العلقة الفريدة كتب الله لها أن لا تفارق الأب الحبيب طويلاً بعد رحيله، فكانت كما بشّرها أوّل أهل بيته لحوقاً به بعد مدة وجيزة من فراقه. المصدر: مجلة الرياحين/ العدد 8

ارسال التعليق

Top