• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النظرية الأخلاقية بثلاث مقاييس

مجموعة كتاب

النظرية الأخلاقية بثلاث مقاييس

لكلِّ نظرية أُسس "مباني" وعناصر ونتائج، وأهم بحث في مجال عناصر النظرية الأخلاقية هو بحث المقاييس أو معايير القيم الأخلاقية وملاكات الأحكام الأخلاقية. ونكتفي بذكر ثلاث مقاييس. والمقاييس التي تذكر هنا عادة هي:

1-  العرف أو بناء العقلاء.

2-  القانون.

3-  الدِّين أو الوحي الإلهي.

4-  المصلحة والمفسدة.

5-  العواطف والعادات.

6-  العقل.

7-  الوسط العادل "نظرية الأوساط".

8-  العدل والظلم.

وتختلف هذه المقاييس في جوهرها:

1-  فبعضها مقياس في تأسيس الحسن والقبح، كما قد يقال في بناء العقلاء أو القانون.

2-  وبعضها مقياس في التعبير والكشف عنهما كما يقال في العقل.

3-  وبعضها عنوان عام للفضائل والرذائل يكون هو الحسن الأوّلي والقبح الأوّلي بالقياس إلى ما تحته من مصاديق كما قد يقال في العدل والظلم.

4-  وبعضها عنوان عام ملازم للفضائل والرذائل كما قد يقال في نظرية الأوساط أو الوسط العادل.

ونستعرض بعض هذه المقاييس وننقدها، ولا يكون نقدها بالبرهان بل بالتجزئة والتحليل وتحديد الاحتمالات ليسهل الالتفات إلى حكم الوجدان لها أو عليها.

 

المقياس الأوّل: العرف أو بناء العقلاء:

كما ما تطابق العقلاء على حسنه كان حسناً وما تطابقوا على قبحه كان قبيحاً.

ولتخريج هذا الملاك نذكر وجوهاً ثلاثة:

أ‌-       حكم العقل بلزوم أتباع العقلاء فيما تطابقوا عليه من حسن أو قبح من دون حاجة إلى إمضاء المتَّبع لهذا البناء العقلائي.

إذاً فالحسن ذاتاً هو اتّباع العقلاء والقبيح هو مخالفتهم. وهذا يعني أنّ للعقلاء علينا ولايةً عقلاً، ولكن لا نجد في عقولنا ووجداننا ما يدل على هذه الولاية.

ب‌-  دعوة انّ العقلاء هم المؤسّسون للحسن والقبح، من دون أن يكون هناك ملاكٌ لتأسيس الحسن والقبح على أساسه. وهذا يعني إنكار الحسن والقبح الواقعيين "الحقيقيين" وإدعاء كونهما جعليين "اعتباريين" وبهذا سوف ننكر الضرورة الخُلُقيّة التي نجدها بوضوح في مثل قبح ضرب الطفل بلا سبب مثلاً أو إهانته واحتقاره. أو قبح مجازاة الإحسان بالإساءة وحسن مجازاة الإحسان بالإحسان.

ت‌-  إنّ بناء العقلاء إذا أمضاه الشخص وجب عليه عقلاً اتّباعه. وهذا المقياس إنما يصحّ إذا كان هذا الإمضاء مصداقاً للوعد والشرط. فبقدر ما يحسن الوفاء بالوعد والشرط يحسن هذا الاتّباع. وحينئذٍ فلا ينبغي أن يجعل هذا مقياساً  كليّاً للفضيلة والرذيلة.

على أنّ الشخص بإمكانه ألّا يُمضي البناءات العقلائية، ويتحرّر من التكاليف الأخلاقيّة.

إذن لا يصحّ جعل العرف أو بناء العقلاء مقياساً عامّاً مستقلاً للفضائل والرذائل، نعم يمكن أن يكون منشأ البناء العقلائي هو ما في الأفعال من مصالح أو مفاسد.

وحينئذٍ فلابدّ من ملاحظة ذلك المقياس وتقويمه.

 

المقياس الثاني: القانون:

القانون إما أن يكون صادراً عن الله سبحانه أو من الناس أنفسهم. والقانون الصادر من الله سبحانه وتعالى إن لم يقصد به سوى لزوم تديّن الناس به أو إن لم يكن بيد قوة تنفيذية تريد تطبيقه، فهو الدين الذي سوف يأتي الكلام عن مدى كونه مقياساً سليماً للقيم الأخلاقية.

وإن كان بيد قوة تنفيذيّة تريد تطبيقه على الناس فهو الذي نبحث عنه هاهنا كقانون، وقيمة هذا المقياس هي قيمة ذلك الدين من حيث كونه مقياساً لتقويم الأخلاق الإنسانية.

وإن كان القانون وضعيّاً صادراً من غير السماء، فقد يكون صادراً من سلطان مستبدٍّ برأيه أو صادراً من حزبٍ مسيطر على الناس، أو نابعاً من عامّة الناس ولو بنحو التصويت عليه من خلال البرلمان الذي انتخب الشعبُ أعضاءه، ويختلف عن بناء العقلاء بكونه متّسماً بنوع من الصرامة والحديّة أو بكونه دستوراً بيد القوة التنفيذية.

ويمكن تخريج هذا الملاك بإرجاعه إلى أحد الوجوه الثلاثة التي مرّت في مقياسية العرف "بناء العقلاء" فيقال:

1-  انّ الأكثرية الذين صوّتوا على القانون لهم حقّ الولاية حتى على من يريد مخالفة القانون.

2-  انّ الحسن والقبح اعتباريّان تابعان لجعل جاعل القانون.

3-  من يساهم في جعل القانون ولو بالتصويت عليه بشكل غير مباشر يكون قد وعد وشرط على نفسه تنفيذه فيكون تطبيقه له وفاءاً بالوعد ومخالفته للقانون نكثاً وتخلّفاً عمّا اشترطه على نفسه.

ونناقش هذه الوجوه الثلاثة بنفس ما ناقشنا به وجوه مقياسية العرف "وبناء العقلاء".

وهنا وجه رابع يمكن ذكره:

4-  إنّ تصويت الناس على قانونٍ يُراعى فيه بقدر الإمكان مصالح ذلك المجتمع أيضاً فيكتسب القانون مقياسيةً حينئذٍ من مقياسية المصلحة والمفسدة للحسن والقبح.

 

المقياس الثالث: الدين أو الوحي الإلهي:

يتوقف كون الدين مقياساً للفضائل والرذائل الأخلاقية. على أن يكون ديناً حقّاً، أي يكون صادراً ممن تحقّ له العبادة وينبغي التديّن بدينه، وهو الله الذي لا إله إلا هو.

ويكون الدين مقياساً بأحد المعاني التالية:

1-  أن يكون مقياساً في تأسيس الحسن والقبح، فهو يَعتبر بعض الأفعال حسنة وبعضها قبيحة.

2-  أن يكون مقياساً في الكشف عنهما، فالوجوب والحرمة يكشفان عن الحسن والقبح الذاتيين الموجودين في متعلّق الحكم أو عن المصلحة والمفسدة.

3-  أن يكون المقياس الديني ملازماً للفضائل والرذائل أو الحسن والقبح الذاتيين.

4-  أن يكون المقياس الديني عنواناً عاماً هو الحسن أو القبح عقلاً، فيطبَّق على مصاديقه وبه يُميَّز الحسن عن القبح، من قبيل أن يكون إطاعة الله سحانهُ أمراً حسناً عقلاً ومعصيته أمراً قبيحاً عقلاً. فكلّ ما أمر به المولى الحقيقي تجب طاعته ويكون حسناً باعتباره مصداقاً للطاعة. وكلّ ما نهى عنه يكون قبيحاً فعله باعتباره مصداقاً للمعصية. فالدين هنا يحقّق موضوع الحسن والقبح حينما يجعل الوجوب والحرمة.

أما مقياسيّة الدين بالمعنى الأوّل فلازمها ألّا نلتزم بالضرورة الخلقيّة للأفعال والصفات الإنسانية لو انحصر المقياس في الدين بهذا المعنى. فإنّ ما يقبل الجعل والتأسيس والاعتبار من الشارع هو عنوان الحسن والقبح، لا واقع الحسن والقبح. فإنّ واقع الحسن والقبح لا يقبل الجعل والاعتبار.

وأما مقياسية الدين بالمعنى الثاني والثالث، فالدين لا يوجِد الحسن والقبح للأشياء بل يكشف عنها أو يعطي لنا عنواناً ملازماً لهما، فمن خلال ذلك نعرف أنّ ما أمر به أو نهى عنه يتضمن نكتةً وملاكاً للحسن أو القبح.

بخلاف المعنى الرابع، فإنّ الأمر والنهي من الشارع يحقّق موضوع الحسن والقبح للمكلّف، ثمّ إنّ نكتةَ حسنِ طاعة المولى عقلاً، وقبحِ معصيته عقلاً يمكن تخريجها بأحد وجوه ثلاثة:

الأوّل: ما اشتهر من وجوب شكر المنعم، فالله سبحانه هو الذي أنعم علينا بنعمة البصر وسائر شؤون الوجود.

الثاني: إنّ الله سبحانه باعتباره الخالق لنا ولما سِواناً، هو المالك الحقيقي لنا ولما سِوانا، فهو الذي له الحقّ في التصرّف في مخلوقاته المملوكة له ذاتياً كيف يشاء وأنّى يشاء دون غيره، فهو الحقيق بالطاعة دون غيره.

الثالث: انّ الخالق للشيء هو أعرف به ممّن سواه، فالله الخالق للإنسان أعرف بما يُصلح هذا الإنسان وما يُفسده، وحينئذٍ يكون حكمه بالوجوب أو الحرمة كاشفاً عمّا يكون صالحاً للإنسان أو غير صالح، أو عن المصلحة والمفسدة.


المصدر: مجلة رسالة الثقلين/ العدد الأوّل لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top