• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

النفاق.. سمة العلاقات الاجتماعية في عصر الهشاشة

كامل الهاشمي

النفاق.. سمة العلاقات الاجتماعية في عصر الهشاشة

قال الإمام علي (ع): "قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال، فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة، وإنما أنتم إخوان على دين الله ما فرق بينكم إلا خبث السرائر، وسوء الضمائر، فلا توازرون ولا تناصحون، ولا تباذلون ولا توادون، ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه، ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم وقلّة صبركم عما زوي منها عنكم كأنها دار مقامكم، وكأن متاعها باق عليكم، وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله، قد تصافيتم على رفض الآجل وحب العاجل، وصار دين أحدكم لعقة على لسانه، صنيع من قد فرغ من عمله وأحرز رضا سيده".
حينما تتأصل الهشاشة في الاجتماع البشري فإنها تسري أوّل ما تسري في العلاقات الثنائية بين أفراد المجتمع الواحد من دون استثناء لأيّة علاقة، فحتى أقدس العلاقات الاجتماعية والبشرية التي نشأت كعلاقات طبيعية غير نفعية – كعلاقتي الوالدية والزوجية – يمكن أن تغدو هشة إلى الحدّ الذي تفقد فيه كل سمات الرحمة والتعاطف، وهذه الحالة من الهشاشة في العلاقات البشرية لا تنمو إلا في ظل افتقاد الثقة بين طرفي العلاقة، وهو ما ألمح إليه الأمير (ع) بقوله: "وما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله".
وفقدان الثقة وعدم تبادلها في العلاقة بين أيّ طرفين لا مناص من أن يفرز حالات من النفاق تهيمن على مسار تلك العلاقات، وهي الحالات التي رصد الإمام الصادق (ع) جملة منها في حديثه عن أوضاع الزمن الأخير، والذي رواه الكليني في الكافي، ج 8، ص 36-42، فقال (ع): "ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة... ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لعرض الدنيا ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقي وتسند إليه الأمور... ورأيت المصلي إنما يصلي ليراه الناس، ورأيت الفقيه يتفقه لغير الدين، يطلب الدنيا والرئاسة... ورأيت الأذان بالأجر والصلاة بالأجر، ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف الله، مجتمعون فيها للغيبة وأكل لحوم أهل الحق... ورأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوى ولا يعمل القائل بما يأمر).
إنّها جملة من الظواهر التي تتحدث في النهاية عن هشاشة تعلو كلّ العلاقات الاجتماعية حتى ما ارتبط منها بالدين وانبثق منه، وإذا ما غابت قيم الصدق والإخلاص والصفاء وحلّت محلّها نزغات النفاق والشقاق فلا محيص أن تتدهور انجازات وكذا حضارات المجتمعات، لأنّ "الثقة" – كما يقول أتالي في معجمه –: ".. ركيزة كلّ حضارة ومقياس انحطاطها. فلا وجود لكنيسة من دون ثقة المؤمنين، ولا إمبراطورية من دون ثقة رعاياها، ولا مؤسسة من دون ثقة الذين يؤلفونها، ولا سوق اقتصادية من دون ثقة الذين يتعاملون فيها، ولا عائلة من دون ثقة الزوجين".
وإذا ما كانت الثقة ستغيب وستنعدم من الاجتماع البشري الديني في آخر الزمان، فلا عجب أن تضحى عملة أكثر ندرة في الاجتماع البشري المدني، وهو ما يعود "أتالي" ليقرره بكلّ وضوح في ما يرسمه من سمات للمجتمع في الوقت الحاضر قائلاً: (لكن سيصعب الحفاظ أكثر فأكثر على الثقة بين الرأسماليين والعمال والمستهلكين والمواطنين والزوجين، لأنّ الهشاشة المتنامية في العلاقات الإنسانية وانعكاس الخيارات على السوق كما على الديمقراطية في دائرة العمل الخاص سيجعلان من غير الضروري احترام العقد لمدة طويلة، وبالتالي جعل الثقة المتبادلة بين المتعاقدين أقل وجوباً. وستنتقص ثقافة السوق من قيمة آداب الثقة التي سيحلّ محلّها القانون وجهاز العدالة تدريجياً).


المصدر: كتاب هشاشات القرن 21

ارسال التعليق

Top