• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تسبيح نبي الله يونس (ع) في بطن الحوت

أحمد محمد البيضاني

تسبيح نبي الله يونس (ع) في بطن الحوت
دعى يونس (ع) قومه في مدينة نينوى، إلى عبادة الله سبحانه، فكان يصعد مكاناً مرتفعاً في المدينة ويجعله منبراً فيقول: يا أيها الناس إني لكم نذير مبين من الله القادر، النافع الضار، العزيز، الحكيم، إني أنهاكم عن عبادة الأصنام، لأنها أحجار لا تنطق، ولا تنفع، ولا تضر، وأدعوكم إلى عبادة الله الواحد القهار الخالق البارئ المصور، خالقكم ورازقكم لا إله إلا هو الحي القيوم الذي يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير وإليه المصير. وانّه قد أرسلني إليكم نبياً ورسولاً لأخرجكم من ظلمات الشرك إلى نور الحق واليقين والإسلام. فكانوا يجتمعون عليه ويسخرون منه ويضربونه ضرباً مبرحاً حتى يخر مغشياً عليه. ظل يونس يدعو قومه إلى عبادة الله ثلاثاً وثلاثين سنة فلم يؤمن معه غير رجلين. ولما يئس من هداية قومه دعا عليهم وطلب من الله أن يعجّل لهم العذاب ويهلكهم جميعاً كما أهلك الأُمم التي كذبت أنبياءها من قبل، فهبط عليه جبرئيل (ع) وقال له: لماذا تعجل على قومك فتطلب هلاكهم "إنّ الله في لوحه المحفوظ قد كتب لهم الإيمان وأراد لهم التوبة" فقال يونس ما رأيت منهم إلا الإصرار على الكفر والتمسك بعبادة الأصنام. فقال جبرئيل: إنّ الله يأمرك أن تتابع دعوتك أربعين يوماً فإن تابوا وآمنوا غفر لهم وجعل لك ضعف ثوابهم جميعاً وإن لم يؤمنوا أهلكهم. عاد يونس إلى قومه يدعوهم صباح مساء وهم معرضون. ولما فاض بهم الكيل من إلحاحه عليهم وتسفيهه آلهتهم وشوا به إلى الحاكم. فأرسل إليه الحاكم وجمع له الأمراء والناس وقال له: من إلهك يا يونس؟ قال: هو الذي يعطي الناس أرزاقهم، قال الحاكم: أليس هذا الصنم إله الرزق والخيرات؟ قال يونس: ليس هذا بإله ولكنه حجر أصم لا ينطق ولا ينفع ولا يضر، قال الملك: أيستطيع ربك أن يمنع عنك عذابي؟ قال يونس: نعم إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. قال الملك: إذن أطلب من ربك أن يمنع عنك عذابي هذا، ثمّ أمر الجلادين. فأنهالت السياط على جسم يونس فمزقت ثيابه ومزقت جلده ونزف دمه غزيراً وهو صابر لا يئن ولا يتأوه، وما زالوا به حتى أغمي عليه ووقع على الأرض لا يستطيع حراكاً فضحك الناس عليه، وقالوا: غلب ربنا ربه وأصبح يونس عبرة لكل جاحد لآلهتنا. عاد الملك إلى قصره وإنفض الناس من حوله. ولما أفاق يونس من غشيته ذهب على أحد المؤمنين الذين دعاهم للإيمان فبقي عنده حتى سكنت آلامه ثمّ عاد إلى جهاده وتبليغ دعوته. كان قد مضى عليه سبعة وثلاثون يوماً من نزول الوحي عليه، ولم يبق سوى ثلاثة أيام على نزول العقاب. فلما أصبح الصباح خرج إلى الناس وصار يدعوهم إلى الهداية قبل أن يحل غضب الله. فلما رأوه بينهم من جديد فروا منه خائفين فذهب إلى الميدان الكبير أمام قصر الملك ونادى بأعلى صوته: يا قوم: الله الله، العذاب، العذاب، فخرج الملك وأرسل الجنود فقبضوا عليه وجاء الناس من الحقول والدور يتزاحمون على رؤية هذا الرجل المستهين بحياته، وسيق يونس حتى كان أمام الملك، والجنود عن يمين وشمال قد سلوا سيوفهم ينتظرون إشارة الملك، فقال الملك ماذا تريد اليوم، ألم يكفك ما نالك من عذاب الأمس فجئت لتأخذ الكيل مضاعفاً؟ قال يونس: ألا فاعلموا جميعاً انكم تعبدون أصناماً لا حول لها ولا قوة، وانّ الله حق وهو الذي خلقكم ورزقكم وهو القادر على أن يخسف بكم الأرض، ألا فاشهدوا اني بريء مما تعبدون. أني بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن لم تؤمنوا فسيتأتيكم العذاب بعد يومين. فنظر الملك إلى يونس مستهزئاً وقال كيف يكون العذاب يا هذا؟ قال يونس: إن لم تؤمنوا اليوم فإن ألوانكم ستتغير غداً ويأتيكم العذاب بعد إن شاء الله. ضحك الملك، فقال سنمهلك للغد حتى يعرف الناس كذلك فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. ولما أصبح الصباح تغيرت ألوانهم ففزعوا. وقال بعضهم لبعض نزل بكم ما قال يونس. وقال آخرون. انظروا حتى يأتي المساء. فإن كان يونس (ع) في المدينة فأنتم في أمن من العذاب الذي وعدكم، وإن خرج الليلة من المدينة فإنّ العذاب سيحل بكم في الصباح فنسارع بالإيمان بالله قبل نزول العذاب. فلما كانت ليلة الأربعين أيقن يونس (ع) بنزول العقاب بعدما تبين له من بعد الناس عنه، فخرج من المدينة وهو يتوعد أهلها بعذاب الله في الغد فلما كان الغد غشيهم العذاب من فوق رؤوسهم فخرج عليهم غيم أسود فيه دخان شديد، ثمّ نزل على المدينة فاسودت المباني وكاد القوم يختنقون. فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك. وطلبوا يونس (ع) ليتوبوا على يديه فلم يجدوه. ووجدوا داراً قد انقشع الغيم عنها فدخل بعضهم فيها يحتمي من الدخان. ووجدوا فيها رجلين مؤمنين هما صاحبا يونس (ع) كانا يدعوان الله لقومهما بالهداية ورفع العذاب عنهم. فلما رأوا ذلك منهما قالوا: قد آمنا بما آمنتم به وصدقنا بما تصدقون وطلبنا يونس لنؤمن على يديه ويعلمنا الدين، ولكنه خرج من المدينة فاحدق بها العذاب، فاخرجا إلى قومكما لتعلماهم ما يفعلون. خرج الرجلان واجتمع الناس حولهما، وقد تكاثف الدخان ولمع البرق وقصف الرعد واشتد ضيق الناس وفزعهم وزاغت الأبصار، قال أحد الرجلين المؤمنين: يا أيها الناس ادعوا معي بهذا الدعاء: يا حي يا قيوم حين لا حي غيرك، لا إله إلا أنت ولا إله غيرك. تحركت الألسنة ورددت هذه الدعاء. وتسربت أنوار الإيمان إلى صدورهم ونزلت دموع التوبة على خدودهم فانجابت السحب وانكشف السماء واقلع عنهم العذاب وقد صاروا جميعاً إخواناً في دين الله فردوا المظالم إلى أهلها حتى أنّ الواحد منهم كان يقلع الحجر من داره ويعيده إلى صاحبه ثمّ فرقوا المال بالتساوي بينهم وبين الفقراء. فقبل الله توبتهم، وكشف عنهم العذاب وإذا سحاب ممطر يغسل دورهم مما علق بها من السواد ويروي الأرض. ثمّ أشرقت الشمس تعلن السلام للناس فكان أوّل عمل قاموا به هو هدم معابد الوثنية وتكسير الأصنام وبناء المعابد التي يقيمون فيها شعائر الدين فاستقامت حياتهم وحسن إيمانهم. ظل يونس بعيداً عن المدينة ينتظر أخبار العذاب الذي نزل بها. وكلما مرّ عليه إنسان سأله عن حالها، وما حصل لسكانها. فكانت الإجابة على غير ما كان يرجو وينتظر، وكان أهل نينوى يبحثون عنه وقد أوفدوا أحد الرجلين اللذين آمنا به ليدعوه إليهم ويعود إلى المدينة التي خرج منها فيكون زعيمهم ونبيهم يعملون برأيه ويهتدون بهديه. فلما قابله الرجل عزّ على يونس أن يعود إليها وقد ظن أنّ الله خذله فيها مرتين: الأولى حين لم يمنع عنه الملك لما تحداه. والثانية حينما أخذهم بالعذاب فمنعه الله عنهم فكان كذاباً في نظرهم رفض يونس العودة إلى قومه، وكان حانقاً غاضباً عليهم، فقال الرجل: لقد آمنوا جميعاً وأصبحوا على ما كنت ترجو لهم فما سبب غضبك وحنقك؟ قال يونس: كنت أود أن يحقق الله نبؤتي فينزل العذاب بقومي ثمّ يكرمني، برفعه عنهم على يدي. قال الرجل: ولكنك فررت من المدينة قبل أن يحيق بها العقاب، ولو أنك نفذت أمر الله ومكثت بينهم الليلة الأخيرة من الأربعين يوماً لكان كشف العذاب بواسطتك أنت، فقال يونس: أذهب عني فلا أطيق أن أسمع بقومي بعد ذلك الخذلان المرير، ثمّ ابتعد عن الرجل مغاضباً فهجر الديار ومشى في الأرض على غير هدى. وكل همّه أن يبتعد هذه الديار حتى لا يرى وجه إنسان عرفه من قبل. ظل يونس مهاجراً حتى أشرف على ساحل البحر فوجد سفينة مشحونة بالمسافرين وعروض التجارة، وعرض على ربانها أن يحمله فيها، ولما رأى الربان على وجهه الصلاح والتقوى، قال في نفسه لعل الله يكرمني بإكرام هذا الرجل الصالح فيمنع عن سفينتي أخطار البحر بسببه، فأذن له بالركوب سارت السفينة أياماً وليالي، وكلما مرت بجزيرة خرج أهلها يتبادلون معها عروض التجارة وتأخذ السفينة منها حاجاتها من الماء والطعام، ثمّ تقلع إلى غيرها تدفعها ريح هادئة طيبة، ثمّ جاءها ريح عاصف وخيم عليهم سحاب أسود. فهاج البحر وثارت الأمواج، فاضطربت الأحوال وذعر الركاب، فرفعوا رؤوسهم إلى السماء بالدعاء لينجيهم الله من الكارثة، وكان يونس (ع) يدعو معهم، فرأى سحاباً يخرج منه دخان أسود، وخاف خوفاً شديداً لأنّه علم أنّ هذا الدخان هو نذير العذاب كما حصل لأهل نينوى، وتذكر انّه خالف أمر ربه فخرج من المدينة وأراد هلاك قومه، فابتلاه الله بالعذاب الذي أراده لهم. ألهم أنّ وجوده على ظهر هذه السفينة سيكون سبباً في كارثة تحل بالجميع، فأسرع يونس (ع) إلى ربان السفينة، وقال له ان ما ترونه الآن من بوادر العذاب بسبب خطيئتي، فألقوني في البحر يرفع الله عنكم الشر، فقال الربان إنك أصلح رجل فينا وما عهدناك إلا رجلاً صالحاً تقياً مخلصاً لله مسبحاً مستغفراً، فالخطيئة من غيرك، وسوف نستخير الله فنقترع بالسهام على المخطئ بيننا ونضحي به لسلامة الجميع. أجريت القرعة ثلاثة مرات فأصابت يونس (ع) في كل مرة، وفي كل مرة كانوا يحجمون على إلقائه في البحر، ولكن يونس (ع) تأكد أنّ الله قد ابتلاه واختاره، فألقى بنفسه في الماء، وكان الظلام حالكاً والموج صاخباً فلم يستطع ركاب السفينة انقاذه، فأسفوا عليه وترحموا له. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (الصافات/ 141). أقبل الحوت فاغر فاه فابتلع يونس (ع) من بين الأمواج، وعاد إلى مسكنه في قعر البحر، فألهم الله الحوت أن يحافظ عليه، فلا يخدش له لحماً ولا يكسر له عظماً، فبقي حياً في بطن الحوت بإذن الله، ولما انتهى به الحوت إلى أسفل البحر سمع يونس (ع) حساً فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه، وهو في بطن الحوت، إنّ هذا تسبيح دواب البحر، فأسف لما بدر منه من الغضب، وأخذ يسبح الله ويستغفره، حتى سمعت الملائكة تسبيحه، فشفعت له عند الله فنادى في ظلمات بطن الحوت (أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء/ 87). فلما دعا يونس (ع) ربه بدعوته المعروفة، وشفعت له الملائكة، استجاب الله دعائه (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات/ 143-144). قبل الله توبة يونس (ع)، وأمر الحوت أن يسرع به إلى البر، فينبذه على الأرض بالعراء. وأخذ الحوت طريقه إلى الشاطئ، ولفظه على البحر طرياً ضعيفاً، لا يتحمل حرارة القيظ ولا برد الليل، كما ينزل الطفل من بطن أمه أنبت الله بجانبه شجرة من يقطين (شجرة قرع) مدت إليه فروعها، فغطته أوراقها الطرية، وأرسل إليه دابة وحشية كانت ترضعه كل صباح ومساء، حتى صلب عوده، وعادت إليه قوته. فيبست الشجرة، وجفت أوراقها، فحزن يونس (ع) عليها وبكى. فنزل إليه جبريل، وقال له يا يونس: أتبكي على هلاك شجرة، ولا تحزن على مائة ألف من قومك أردت إهلاكهم، وغضبت لرحمة الله بهم؟ فقال يونس: إني كنت من الظالمين.. قال جبريل: قم واذهب إلى قومك فهم لا يزالون ينتظرون عودتك إليهم، فقد عفا الله عنك وعنهم. فعاد إلى قومه، وهو يقول ما أشبهني بقومي، وما أوسع حلِمَ ربي وأقرب صفحه ورحمته. قال الله سبحانه وتعالى بصدد قصة يونس (ع): (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (الصافات/ 139-148)، والآية في إشعارها برفع العذاب عنهم وتمتيعهم تشير إلى قوله تعالى: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس/ 98). وذكر القرآن الكريم وضع يونس (ع) في موضع آخر فقال (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 87-88).   المصدر: مجلة الغدير/ العدد 46 لسنة 2002م

ارسال التعليق

Top