• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الاقتصاد الإسلامي في مرتكزاته الأساسية

محمّد أبو المجد

الاقتصاد الإسلامي في مرتكزاته الأساسية

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/ 20)

الغاية التي عقد هذا البحث من أجلها إنّما تنصب على إعطاء صورة للخطوط العريضة التي تتجلى من خلالها معالم الجانب الاقتصادي من المنهج الإسلامي فحسب، أمّا الصيغة التفصيلية لهذه المسألة فقد تكفلت في إبرازها الموسوعات الإسلامية الضخمة التي تصدر لإنجازها علماء الشريعة قديماً وحديثاً.

ولأجل أن نبرز الصورة التي نبتغيها من خلال هذا البحث يلزمنا أن يكون إبراز المعالم الآتية محوراً لبحثنا هذا:

1- الصيغة النظرية للتملك.

2- الثروة في إطارها العملي.

3- مبدأ الضمان الاجتماعي.

1- الصيغة النظرية للتملك:

من خلال التلقينات والبنود التشريعية التي تنصب على إبراز الجانب الاقتصادي من المذهب الإسلامي تتجلى فكرة اعتبار الثروة برمتها ملكاً محضاً لخالق الوجود ذاته (وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (المائدة/ 17) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان/ 20). إلّا أنّ المالك الحقيقي سبحانه قد منح النوع الإنساني حقّ الاستخلاف في هذه الثروة ليستنبطها وينتفع بها (وَأَنْفِقُوا مِمَّا َجعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7) (وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ) (النور/ 33) واعتبار الثروة ملكاً محضاً لله سبحانه -والإنسان إنّما يمارس دوره باعتباره مستخلفاً فيها - إنّما هي مسألة ذات أبعاد إيجابية في الواقع الحياتي لهذا الإنسان إذ إنّه وفقاً لهذا المرتكز يجب أن يكون تصرّفه في الثروة التي يؤتاها مطابقاً تماماً لما تمليه عليه إرادة المالك الحقيقي ذاته سواء في طرق الانتفاع بالثروة أم في وجوه التصرّف بها وهذا التصميم المذهبي لواقع التملك في حياة الإنسان إنّما يجسّد أوفر ضمانة قانونية لإقامة لون من العدالة الاجتماعية تستظل بها كلّ نفس في الجتمع الإنساني برُمته دون أن تستأثر بها جماعة أخرى بل أنّ كلّ امريء في رحاب هذه العدالة يأخذ نصيبه من الثروة غير منقوص ما دام أصحاب الثراء في المجتمع الإسلامي موظفين ووكلاء لدى المالك الحقيقي للثروة ملزمين بالعمل فيها وفقاً لما يقرره المالك ذاته.

2- الثروة في إطارها العملي:

ألا إنّ الرسالة الإسلامية وإن منحت الإنسان النوع حقّ استخلاف هذه الثروة في هذا الوجود المترامي الفسيح إلّا أنّها من زاوية أخرى حسبت للإنسان الفرد كذلك حسابه الخاص. فلهذا الكائن نوازعه وميوله الفطرية ومطالبه الحياتية التي لا تستقيم حياته ولا يستمر وجوده إلّا بتلبية مطالبها والعمل على إشباعها وفي طليعة هذه الجوعات المركوزة في كيان هذا الإنسان ميله لامتلاك جزء من ثروة هذا الوجود ممتلكاً خاصاً وقد وعت الرسالة الإسلامية أبعاد هذا المنطق لدى الإنسان (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 8) (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 20) وجسّدته على الصعيد الحياتي واقعاً ملموساً يمنح الإنسان الفرد حقّ التملك الخاص (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (النساء/ 32) إلّا إنّ هذا الحقّ له أُطره وأبعاده التي تنيره عن التملك الخاص في إطار المذهب الرأسمالي، فلئن كان الاختصاص في التملك في ظل الرأسمالية ذا أبعاد مطلقة وغير محدودة فللمرء أن يمتلك ما يشاء دون التزامات أدبية أو قانونية تؤطر له تملكه وأسلوب تملكه، فإنّ الاختصاص في التملك في ظل المنهج الإسلامي خاضع لأُطر شتّى أخلاقية وقانونية تمنحه أبعاداً معينة لا يتجاوزها وتحدُّ من نموه نمواً سرطانياً وهذا التحديد لإبعاد التملك الخاص يتحقق بطريقتين:

1- الطريقة الوقائية: وفيها يسد المنهج الإسلامي في الاقتصاد كلّ منابع الثراء التي لا يتوفّر فيها العنصر الإخلاقي كالربا والاحتكار والغش والميسر والرشوة والسرقة والتلاعب بالموازين والمكاييل وغير ذلك من المكاسب المحظورة على المسلم ارتيادها.

2- الطريقة العلاجية: إلّا إنّ هذه الطريقة الوقائية التي سلكها الإسلام لمنع النمو الفاحش للملكية الخاصّة ليس في مقدروها أن تسدّ كلّ ثغرات هذا النمو السرطاني في الثروة لأنّ الطُّرق الطبيعية التي حثّ الإسلام مريديه على كسب الثروة والانتفاع بها عن طريقها كالإتجار والزراعة وغيرها ذات فاعلية كبيرة في إنماء الثروة لدى فئة كبيرة من الناس وهكذا جاء دور منهجة العلاج الحاسم لهذا الثراء المشروع للتخفيف من غلوائه وللحيلولة دون تكديسه لدى البعض وقد تمثّلت منهجة العلاج لهذه المسألة بالضرائب المالية التي فرضها المذهب الإسلامي في الاقتصاد كالزكاة والخراج والميراث والضرائب التصاعدية ونحوها، وبهذا الإسلوب يضع الإسلام الحنيف القواعد القانونية الأصيلة لتأطير الملكية الخاصّة وتوجيهها توجيهاً منسجماً مع مطالب الإنسان ذاته بقدر انسجامه مع مصالح الجماعة برمتها، إلّا أنّ الاختصاص في التملك في المنهج الإسلامي ليس هو المحور الأساسي والركيزة الوحيدة التي ينتظم على ضوئها النشاط الاقتصادي في المجتمع الإسلامي وإنّما ثمة محاور أخرى تتفاعل جميعاً لتنظيم الحياة الاقتصادية في الواقع الإسلامي.

1- الملكية العامّة:

وهذا التملك يمثل حقّ الأُمّة بامتدادها التاريخي في جزء من الثروة محدد في المنهج الإسلامي في الاقتصاد وحين يمارس الفرد دوراً معيناً من أدوارها الانتفاع كالعمل أو الحيازة فإنّ انتفاعه بقسط من هذه الثروة لا يتخذ طابع الاختصاص في التملك وإنّما باعتباره حقّاً خاصاً مقابلاً لما بذله من جهد من أجل الانتفاع ومن مظاهر هذا التملك العام:

* الأراضي التي دخلت دار الإسلام بعمل عسكري مارسته الأُمّة وكانت الأرض عامرة بشرياً عند فتحها والتي يطبق عليها بالاصطلاح الإسلامي «الأرض الخراجية».

* المعادن التي لا تحتاج إلى جهد كبير في الانتفاع بها كالملح والنفط ونحوها.

2- ملكية الدولة:

وهذا التملك يمثل حقّ الدولة الإسلامية بصفتها المعنوية في امتلاك جزء من الثروة، باعتبار الدولة في نظر الإسلام المظهر الأعلى الذي يمثّل الإسلام على الصعيد الفكري والتشريعي والدولي وباعتبارها كذلك قائمة برعاية شؤون الأُمّة. وهذا الحقّ - حقّ التملك - قد منح لجهاز الدولة بغية قيامها بأعلى مستويات الرعاية لشؤون المجتمع الإسلامي لتحقيق الوضع الأفضل لأجيال الأُمّة على الصعيد  الفكري والعملي، وهذا اللون من التملك لا يسوغ أن يجري عليه عامل الاختصاص في التملك إنّما يباح للأفراد فقط الانتفاع به كأحياء جزء من الأرض الموات مثلاً، ومن أبرز مظاهر ملكية الدولة في الثروة:

* الأرض التي دخلت دار الإسلام وكانت مواتاً حال الفتح.

* الأرض التي دخلت دار الإسلام وكانت عامرة طبيعياً حال الفتح كالغابات مثلاً.

وهكذا يتخذ المذهب الإسلامي في الاقتصاد ثلاثة محاور تعمل متفاعلة لتسيير دفة الحياة الاقتصادية في مجتمعه ولكن هذا التفاعل والازدواج في عملها لا يفقد إحدى هذه العمليات طبعها وتصميمها الأصيل وإنّما يبقى كلّ لون من ألوان التملك المذكور ملتزماً بشروطه ومبررات وجوده وفاعليته الإيجابية في حياة الفرد والجماعة بقدر ما يؤدي دوره في الحياة الاقتصادية على صعيد الازدواج مع سائر ألوان التملك الأخرى. وهذا يمثل العلامة الفارقة التي تميّز المذهب الإسلامي في الاقتصاد عن سواه من المذاهب الاقتصادية في الأرض، فأحد هذه المذاهب مثلاً يرتكز في توجيه النشاطات الاقتصادية على أساس الاختصاص المطلق في التملك، بينما يستند الآخر على الملكية العامّة في تسيير شؤون الحياة الاقتصادية في دنيا الإنسان ولكن وجهة النظر الإسلامية هذه قد تجلّت جدارتها وصوابها أخيراً بشكل عملي ملموس بعد الاستثناءات التي لجأت إليها المذاهب الاقتصادية التي تحتل مراكز التطبيق في واقع الحياة، فالمذهب الرأسمالي مثلاً قد أقرّ أخيراً لون من ألوان التأميم لبعض الشركات والمصالح الكبيرة في البلدان التي تتخذه منطقاً ومرتكزاً لنشاطاتها الاقتصادية والمذهب الاشتراكي هو الآخر قد اضطر إلى السماح للأفراد بالاختصاص بالتملك كما عليه الآن في بلد الاشتراكية الأُم روسيا السوفيتية. وهكذا تأتي وجهة النظر الإسلامية لتبرهن على سلامة بنائها الفكري وصحّة مرتكزها المذهبي الأصيل دون سائر مذاهب الأرض الاقتصادية.

3- مبدأ الضمان الاجتماعي:

الضمان الاجتماعي في الإسلام مظهر مشرق من مظهر العدالة الاجتماعية الإسلامية وهو رافد من روافد المنهج الاقتصادي في الإسلام، وعلى ضوئه يتجسّد دور الفرد والمجتمع والدولة في إطار الاقتصاد الإسلامي واقعاً حيّاً. كما يتجلّى واقع التلاحم الروحي والعاطفي الأصيل بين كافة قوى الأُمّة في الدولة الإسلامية مترجماً أروع معطيات التعاون والانسجام بين أبناء النوع الإنساني، وأُطروحة الضمان الاجتماعي هذه التي يقدّمها الإسلام في الواقع الحياتي تتخذ طابعين يسيران جنباً إلى جنب ومن ثم يلتقيان في مصب واحد ليمنحا الإنسان أجلى صورة للعدالة الاجتماعية تكفكف - في ظلالها - دموع المحرومين وتمنح للطبقات المسحوقة كرامتهم وحقوقهم وتروي ظمأهم وترفعهم إلى المستوى الإنساني الذي يليق بهم وهما:

1- أسلوب التكافل الاجتماعي: ما أن ينساب الإسلام الحنيف في كيان أُمّة من الأُمّم إلّا ويغرس في ربوعها بذور الأخوة المطلقة بين كافة قطاعاتها فالناس في ظلال الإسلام يعيشون في إطار أخوّة لا نظير لها في تاريخ الأُمّم والشعوب فلا طبقة أرستقراطية تتحكم بمصير الأُمّة ولا طبقة كهنوتية تلعب بمقدرات الشعب ولا أصحاب جاه وسلطان يتسنمون مركز الثقل في المجتمع المسلم دون سواهم، إنّما يتفاعل النالس في إطار المنهج الإسلامي على نأي تام عن هذه العقبات فهم أخوة بلا تحفظ ولا حواجز «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». «مَن أصبح ولم يهتم لأمور المسلمين فليس منهم» «الناس سواسية كأسنان المشط» ومفاهيم الإسلام الاجتماعية التي يشيعها في مجتمعه كلّها تعمل على ترسيخ مفهوم الأخوّة بأجلى صورة، هذا المفهوم الذي يترجم أثرى المعطيات التي تنعكس على الصعيد الحياتي لهذا الإنسان وفي طليعة هذه المعطيات - تلك - إشاعة مبدأ التكامل العام بين أفراد المجتمع الإسلامي، هذا المبدأ الذي يقضي بكفالة أفراد المجتمع بعضهم للبعض الآخر كفالة اقتصادية لسدّ عوزهم المالي والاستجابة لمطالبهم وضرورات حياتهم وهذه الوظيفة تشمل قطاعاً واسعاً من المجتمع فلوالدين والزوجة والأولاد والجيران هم العناصر الأساسية التي تنعم بهذا اللون من الكفالة المالية، فالوالد يكفل أولاده والأولاد يكفلون أباءهم وأُمّهاتهم والزوج يكفل زوجته والجار يكفل جاره كما إنّ من حقّ سائر المعوزين سوى هؤلاء كذلك أن يتفيؤوا ظلال هذا المبدأ - التكامل العام - ولكن على أساس الاستجابة لمطالبهم الضرورية فحسب دون الثانوية، إلّا إنّ هذه المهمّة التي أوكلت إلى المجتمع الإسلامي بمَ تتخذ الصيغة التطوعية قط وإنّما هي ذات بعد إلزامي لا يسوغ الشرع التغاضي عنها أو التخلّف أو النكول عن أدائها، فهي كالضرائب المفروضة سواءً بسواء مصداقاً لقول القائد محمّد (ص): «أيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله» «ما آمن بي مَن بات شبعان وجاره جائع» «ما آمن بي مَن أمسى شبعاناً وأخوه المسلم طاوٍ» إلّا أنّها تمتاز بكونها تنبع من أعماق الإنسان المسلم ذاته، فالمسلم يندفع لأداء هذه المهمّة ذاتياً دونما إكراه خارجي يفرض عليه هذا اللون من الاندفاع ولهذا كان تحمّل الإنسان المسلم لمسؤوليته هذه يزداد حجماً بإطراد كلّما اتّسعت مساحة إيمانه وانشداده بالله واليوم الآخر، ومن هنا فإنّ للناحية الروحية آثرها البالغ  في تجسيد هذا المفهوم الاقتصادي على الصعيد الحياتي للإنسان المسلم، فلولا إحساس الإنسان بالمسؤولية أمام بارئه وراعيه سبحانه وتعالى وما ينجم عن النكول عن هذه المسؤولية من تخط لمناهج الرسالة وأبعادها، لولا هذا الشعور العميق لما قدم المسلم على تحمّل هذا العبء طواعية دونما إكراه يفرض عليه من خارج كيانة الروحي والنفسي، وتأصيلاً لهذه الحقيقة راح الإسلام يعمل كلّ ما من شأنه على إشاعة مبادئ الاتصال الروحي بالله سبحانه وتعالى استشعار مخافته والعمل على تحقيق رضوانه على ضوء العبادات كالصلاة والدعاء والصيام والأعمال المندوبة ونحو ذلك، وهكذا فإنّ التكافل الاجتماعي لا يتحقق إلّا بالاستناد إلى التربية الروحية والانشداد إلى الله سبحانه ومن ثم بإشاعة مفهوم الأخوّة الإسلامية الحقّة فإنّ هاتين الركيزتين تعتبران بحقّ التربة الخصبة التي ينبت فوق ثراها مفهوم التكامل الاجتماعي في إطار المجتمع الإسلامي ومن هنا جاء تصريح الإمام القائد (ع) محدداً أبعاد هذه الأطروحة الرائعة ومترجماً لها «أيّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه مزرقة عيناه مغلولة يداه إلى عنقه فيقال هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثمّ يؤمر به إلى النار» إلّا أنّ خاطرة جديرة بالذكر لا يجوز الاستغناء عن ذكرها هنا وهي أنّ أُطروحة التكافل العام تعتبر من العلامات الفارقة التي تميّز الإسلام على الصعيد الاقتصادي دون سواه من مذاهب الأرض فلئن كان المذهب الماركسي يعلن أعماله لشأن الضعفاء تطبيقاً لشعار مَن لا يعمل لا يأكل، ولئن كانت بظاهرات الفقراء والمحرومين تعج بها شوارع واشنطن مطالبين بتحسين أحوالهم ورفع كابوس الحرمان عنهم في بلد الديمقراطية والحرّية الأُم - كما يقولون - كلّ ذلك لتفشي روح الأنانية والاستئثار كمظهر من مظاهر شيوع فلسفة التركيز على الفرد بما تحمل هذه الفلسفة من روح الجفاف والأثرة، فإنّ الرسالة الإسلامية من جانبها قد أشاعت في نفوس مريديها بواعث الوداد والتعاون والتكافل وكلّ مبادئ التلاحم الروحي والنفسي في دنيا الإنسان، وفي مجتمعنا المعاصر - مع بُعده عن الروح الإسلامية الأصيلة - نماذج رائعة من صور التكافل الاجتماعي التي يعمل الإسلام على تجسيدها في الأسرة والمجتمع كالتكافل في إطار الأسرة وإعانة المعوزين ونمو ذلك.

2- مبدأ كفالة الدولة: لكن الرسالة الإسلامية لم تدع مسألة الضمان الاجتماعي تسبح في فلك أخلاقي وعظي كما يظن وإنّما أناطت بالدولة الإسلامية مسؤولية كفالة كافة المتمتعين بحقّ المواطنة الإسلامية وبحقّ التابعية للدولة الإسلامية كفالة اقتصادية وبصورة دستورية لا يسوغ الإسلام لدولته النكول عنها فهي من أُولى الالتزامات القانونية التي يجب على الكيان السياسي في نظر الإسلام أن يلتزم به ويعمل على تجسيده في واقع الإنسان المسلم وأنّ التلكؤ أو التخلّف عن النهوض بهذا الالتزام الطبيعي  يعتبر ظاهرة انحراف في الجهاز الحاكم عن المسؤولية المُلقاة على عاتقهِ توجب على المجتمع المسلم أن يسلك الأساليب المرسومة لتقديم سلوك القائمين بشؤون الحكم أو استبدالهم إن لزم الأمر، وهذا اللون من الكفالة الرسمية إنّما يتخذ مظاهر شتّى. فالقادرون على العمل تعمل الدولة على إيجاد فرص العمل الذي يتماشى ورغباتهم جسدياً كان أم فكرياً وذلك عن طريق المصانع والشركات والوظائف والمعاهد الدراسية والدورات التدريبية على شؤون العمل ونمو ذلك، وأصحاب الحرف والمهن المختلفة ممن لا توفّر لهم مهنتهم المستوى المعاشي اللائق يجدر بالدولة الإسلامية أن تمدهم بالمال الذي يسد عوزهم الاقتصادي وفي السُّنة الشريفة تحديد لهذه المسألة:

«إنّ الوالي يأخذ المال فيوجّهه الوجه الذي وجّهه الله له على ثمانية أسهم للفقراء والمساكين...». يقسّمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق ولا تقية، فإن فضّل من ذلك شيء ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يموّلهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا وأمّا المُرضى والشيوخ وأصحاب العاهات فلزاماً من العيش سواءً عن طريق مرتبات مالية أو عن طريق دُور تُعدّ لهذا الفرض وفي الأطروحة الدستورية التي قدمها الإمام القائد عليّ (ع) إلى عامله على مصر للعمل بمقتضاها ترجمة صادقة لهذا المبدأ «ثم الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمن» «وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة لهم» وهذه المهام الكبرى التي تضطلع الدولة الإسلامية بمسؤولية النهوض بأعبائها تعتبر التزامات قانونية تفرضها الرسالة الإسلامية ذاتها والدولة إنّما تمارس هذه المهام من خلال البنود التشريعية التي تلزمها بالنهوض بها، والأصل التشريعي لهذه العملية التي تمارسها الدولة إنّما يأتي من اعتبار الإنسان النوع القائم بحقّ الاستخلاف بثروة هذا الوجود وهذا الحقّ لا يختص بفئة من عباد الله دون أخرى (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (البقرة/ 29) وإنّما هو حقّ عام لجميع الناس والدولة في المنطق الإسلامي تعمل على تيسير مهمّة الانتفاع بالثروة لكلّ المتمتعين تحقّ الموطنة الإسلامية من مسلمين وغيرهم قادرين على العمل أم فاقدين لعنصر القدرة عليه سواء بسواء - كما اتّضح من النصوص الآنفة الذكر - لكن مسألة جدير بنا التأكيد عليها هنا وهي أنّ عدالة التوزيع في إطار الدولة الإسلامية غير مقسورة على جماعة دون أخرى فهي ليست من حقّ المسلم دون سواه وليس وقفاً على الأبيض دون الأسود مثلاً وإنّما هي عدالة تتخطى الحدود القومية واللغوية والدينية والإقليمية «الناس سواسية كأسنان المشط» (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13) «لا فضل لعربي على أعجمي إلّابالتقوى» «إلّا مَن ظلم معاهداً أو كلّفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة». وهذا ما يعكس لنا بمنتهى الواقعية أنّ العدالة في توزيع الثروة تمتزج امتزاجاً عضوياً مع المساواة المطلقة بين جميع قطاعات الأُمّة التي تتمتع بحقّ التابعية للدولة الإسلامية.

 

المصدر: كتاب الإسلام ورسالته الخالدة

ارسال التعليق

Top