• ٨ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٣٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مبدأ الجوار في الإسلام على مستوى التشريع

الشيخ محمد مهدي شمس الدين

مبدأ الجوار في الإسلام على مستوى التشريع
◄- أوّلاً: تمهيد يلاحظ في الإسلام على مستوى التشريع، وفي الحضارة الإسلامية على مستوى الحياة الاجتماعية، أن مبدأ الجوار قد كان مورد عناية في الشريعة الإسلامية، باعتباره من مكونات الاجتماع الإسلامي.   - ترشيد الإنسان في مجال العلاقات الخاصة: لكل إنسان علاقات عامة في المجتمع، وكل إنسان يتكون وينشأ في مجتمعه الخاص، وهو لا يختار مجتمعه كما لا يختار أباه وأمّه، ولكن الإنسان الراشد يختار في مجال علاقاته الخاصة. وفي مجال العلاقات الخاصة، فإنّ الإنسان يتعامل في المجتمع مع غيره من الناس في عدة أطر، فيكون في الأسرة زوجاً أو زوجة، وفي المجال الاقتصادي يكون شريكاً في زراعة أو صناعة أو تجارة وما إلى ذلك، وفي الحياة الإنسانية العامة يكون له أصحاب وأصدقاء، وفي السفر يكون له رفقاء. هو يرتبط بغيره ارتباطاً خاصاً بحسب العلاقات التعاقدية وغير التعاقدية التي يقتضيها الاجتماع الإنساني. وقد أرشدت الشريعة الإسلامية الإنسان إلى أن يدقق في اختيار من تربطه بهم علاقات خاصة في مجال تكوين الأسرة والعمل الاقتصادي والصحبة والسكن وغيرها من علاقات الحياة. نجد في السنة النبوية الشريفة والسيرة النبوية والسلف الصالح توجيهات مهمة في اختيار هؤلاء، فلا يقيم الإنسان الراشد ارتباطات مع غيره من دون فحص وتمحيص الصفات والأخلاق والأوضاع التي يتصف بها الشخص المراد الارتباط به في الحياة الزوجية أو الحياة العملية الخاصة، أو في الحياة العامة. وقد أمر الله تعالى في الشريعة وأرشد رسولُ الله (ص) في سنته إلى البحث والتدقيق في اختيار الزوج أو الزوجة، وأوصت الشريعة بأن يبحث الإنسان في صفات وأوضاع الشخص الذي يريد أن يتزوج منه. فمن الكتاب جملة من الآيات، منها: قوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور/ 32). ومن السنة جملة من الروايات: فمن ذلك الحديث المشهور المعتبر عن رسول الله (ص) من طريق أئمة أهل البيت (ع) وعن الصحابة أنّه قال: "إيّاكم وخضراء الدمن" قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: "المرأةُ الحَسْنَاءُ في مَنْبِتِ السُّوء"[1]. ومن ذلك قول الإمام الصادق (ع) لبعض أصحابه في شأن اختيار الزوجة: "أنظر أين تضع نفسك، ومن تشركه في مالك وتطلعه على سرك، فإن كنتَ لابدّ فاعلاً فبِكراً تُنسَبُ إلى الخير وإلى حُسنِ الخلق". وفي شأن اختيار الزوج ورد الحديث المشهور الصحيح، وهو عن الإمام الجواد (ع)، عن رسول الله (ص): "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينَه (وبعض الروايات: دينه وأمانته) فزوِّجوه، ألا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير عريض"[2]. وروي عن الإمام الصادق (ع) في تحديد الكفوء للزواج: "الكفوء أن يكون عفيفاً وعنده يسار"[3]. وهذه النصوص وغيرها وردت في السنة المروية من طريق أئمة أهل البيت (ع) ومن طريق الصحابة (رض). كذلك أمرت الشريعة باختيار الصاحب والرفيق سواء كان في السفر أو في الحضر، وعدم التورط بإنشاء علاقات مع أي كان، بل يجب أن يكون الصاحب والرفيق من أهل التقوى والخلق والأمانة. ومما ورد في هذا الشأن من السنة الشريفة: ما روي عن ابن عباس عن رسول الله (ص)، قال: قيل: يا رسول الله أي الجلساء خير؟ قال: "من تذكركم الله رؤيتُه، ويزيد في علمكم منطقُه، ويرغبكم في الآخرة عملُه"[4]. وعن الإمام الصادق (ع) قال: "كان أمير المؤمنين علي (ع) إذا صعد المنبر قال: ينبغي للمسلم أن يتجنب مؤاخاة ثلاثة: الماجن الفاجر، والأحمق، والكذّاب..."[5]. ومن ذلك ما رواه الخطيب البغدادي عن الإمام علي (ع) وعن رافع بن خديج (رض): "الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، والزاد قبل الرحيل". وقد روي عن السيدة الزهراء (ع) فيما نقل عنها الإمام الحسن (ع)، بعد أن سألها عن قيامها في الليل للدعاء: "الجار ثمّ الدار".   - التحذير من جار السوء: كما أمرت السنَّة بأن يختار الإنسان لنفسه الجار المؤمن والصالح في جملة من الروايات، رواها الحر العاملي في وسائل الشيعة[6]. فمما ورد في النهي عن مجاورة جار السوء روايات رواها الكليني في الكافي، وأوردها الحر العاملي في وسائل الشيعة[7]. الأولى: رواها الشيخ الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: "من القواصم التي تقصم الظهر جارُ السوء: إن رأى حسنةً أخفاها وإن رأى سيئة أفشاها". الثانية: رواها الشيخ الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن علي، عن محمد بن الفضيل، عن إسحاق بن عمار، عن الإمام أبي عبدالله الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): "أعوذ بالله من جار السوء في دار إقامة! تراك عيناه ويرعاك قلبه؛ إن رآك بخير ساءه وإن رآك بشرٍّ سره". وروي نحوه عن طريق الصحابة[8]. ودار الإقامة يعني بها المنطقة الحضرية، ومقابل دار الإقامة حياة البداوة يسهل على الإنسان فيها الانتقال في مسكنه من مكان إلى آخر. الثالثة: رواها الصدوق (في: من لا يحضره الفقيه) بإسناده عن حماد بن عمر وأنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد الصادق، عن آبائه – عليهم السلام –، وفي وصية النبي لعلي (ع) قال: "يا علي! أربعة من قواصم الظهر: إمام يعصي الله ويطاع أمره، وزوجة يحفظها زوجها وهي تخونه، وفقر لا يجد صاحبه مداوياً، وجار سوء في دار مقام". وبهذا المعنى روى البيهقي في (شعب الإيمان) عن أبي هريرة[9]. وبهذا المعنى رواية ابن حبّان من طرق الصحابة: كان النبي (ص) يقول في دعائه: "اللّهمّ إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول"[10].   - الجوار بمعنى الحماية: وقد أعطى الإسلام لمفهوم الجوار في المسكن بُعداً في مجال التشريع الاجتماعي. ولم يعط الإسلام أهمية للجوار بمعنى الحماية (الذي قلنا إنّه يناظر اللجوء السياسي في عصرنا) وهو المعنى الذي كان شائعاً في الاجتماع البدوي الرعوي الجاهلي، لأنّ هذا الجوار يتنافى مع مشروع ومفهوم الدولة، وقد يكون عائقاً أمام العدالة، لأنّ الشريعة الإسلامية قد أنشأت للمجتمع سلطة قضائية، ووضعت للدولة قوانين يرجع إليها الخائفون والمتنازعون، وعلى أساسها يتم الفصل في منازعاتهم، وليس هناك ما يدعو إلى إقامة سلطة حماية خارج السلطة الشرعية كما كان الشأن في الجاهلية. ولم يثبت في الشريعة الإسلامية أثر للجوار بمعنى الالتجاء إلى في موردين: أحدهما: أشرنا إليه آنفاً، وهو الالتجاء إلى الحرم، حيث يترتب على ذلك عدم ملاحقة المستجير الملتجئ. فقد نص الفقهاء في مباحث القصاص والحدود على أنّه: "إذا التجأ إليه مَن أحدث ما يوجب حداً أو تعزيزاً أو قصاصاً ولجأ إلى الحرم، ضُيِّقَ عليه في المطعم والمشرب، بأن لا يُعْطَى إلا ما يسد الرمق وما تعافه النفس حتى يخرج. ثانيهما: الإجارة في الحرب الجهادية. فإنّ الشريعة الإسلامية قد أجازت لآحاد المسلمين أن يجير كافراً محارباً أو أكثر؛ ومن آثار هذا الجوار إعطاء الأمان للكافر. وقد نص الوحي القرآني على ذلك في قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة/ 6). وقد دلت على هذا نصوص السنة المروية عن أئمة أهل البيت (ع) وعن الصحابة (رض) بقولها: "المؤمنون – أو المسلمون – يسعى بذمتهم أدناهم.." في الرواية عن أمير المؤمنين علي (ع). وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (ع) عن رسول الله (ص): ".. يجير عليهم أقصاهم.."[11].   - جوار السكن: الجوار (بمعنى التجاور في السكنى) موضوع من موضوعات التشريع الإسلامي في مجال الاجتماع، على مستوى الالتزام الأخلاقي، وعلى مستوى الالتزام الشرعي الحقوقي. وهنا نلاحظ أن عناية الشارع المقدس بالتشريع للجوار هي من وجوه الإعجاز في الشريعة الإسلامية للاجتماع الحضري والمديني والزراعي، مع أنّ الإسلام نشأ في مجتمع بدوي، حيث أنّ المجتمع العربي كان مجتمعاً بدوياً رعوياً، لم تكن فيه حواضر بالمعنى المألوف في المجتمعات الحضرية المستقرة والحضارات المزدهرة، سواء كانت زراعية أو غير زراعية. ولقد اعتبر الإسلام أنّ الجوار في السكن ينشئ وضعاً معنوياً إنسانياً بين المتجاورين زائداً على علاقةِ التساكن المادية، علاقة التقارب الجسدي. إنّ الجوار في الإسلام ينشئ للجيران على بعضهم بعضاً حقوقاً، بالإضافة إلى كونه وسيلة من وسائل التحضير والتمدين، وتذويب علاقات البداوة والاجتماع البدوي. وقد دلت على أحكام الجوار وحقوق الجار في الشريعة الإسلامية نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.   - ثانياً: النص القرآني النص الأساسي في شأن الجوار وحقوق الجار هو قوله تعالى في سورة النساء: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا) (النساء/ 36). هذه الآية المباركة نص أساسي من نصوص الدرجة الأولى في التشريع الإسلامي، وهي نصوص القرآن الكريم. ونلاحظ أن فيها جملة من الأوامر التي تعلقت بموضوعات يعود بعضها إلى العلاقة مع الله، ومعظمها يعود إلى العلاقة مع الناس ومع المجتمع.   - قاعدة أصولية: دلالة الأمر على الوجوب: إنّ القاعدة الأصولية في باب الأوامر والنواهي: أنّ الأمر يدل على الوجوب، فيكون مضمونه إلزام المخاطبين به، إذا لم ترد قرينة متصلة أو دليل منفصل يدل على الرخصة والإذن في ترك الموضوع المأمور به. فإذا ورد أمر، فإنّ الأمر يقتضي بحكم العقل الإلزام، فنقول إنّ الله أمرنا وعلينا أن نطيع. وقد أرشد الله عزّ وجلّ إلى هذا الإدراك العقلي في عدة آيات، منها قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[12] وعلى هذا فالموارد التي ورد فيها الأمر في هذه الآية يجب الالتزام بها ويجب تنفيذها. - تحليل الآية: وهذه الآية تتضمن أوامر وجوبية جاء بها التكليف كالتالي: 1- ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى هو قوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)، تضمن الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى والنهي عن الشرك به. وهذا أمر ملزم في مجال العقيدة وفي مجال الشريعة ببديهية العقل؛ فإنّ الإيمان والإسلام يقومان على مبدأ عبادة الله وطاعته. وبعد هذا الأمر الأساسي الذي يقوم عليه مبدأ الاعتقاد الإسلامي برمته فإن عبادة الله تقتضي طاعة الله، وتقتضي تصديق الله، وتقتضي النبوة، ويتفرع عنها كل أساسيات الإسلام. 2- ثمّ يأتي الأمر الثاني وهو قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، أي: أحسنوا إلى الوالدين. ولا ريب عند الفقهاء في أنّ الأمر بالإحسان إلى الوالدين هو للوجوب والإلزام، وهو معطوف على الأمر بالعبادة. والإحسان إلى الوالدين من الواجبات الثابتة في الشريعة بدليل صريح القرآن في آيات أخرى وبدليل السنة القطعية. 3- ثمّ جاء الأمر الثالث (وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، والظاهر من العطف أنّ الحكم الثابت للوالدين – من حيث أصله – ثابت لهؤلاء: (ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل). والإحسان إلى هؤلاء يتصور على نحوين: أحدهما الإحسان إلى آحادهم، وثانيهما الإحسان إليهم باعتبارهم فئات اجتماعية. والظاهر أنّ المراد من التعبير القرآني هنا هو الإحسان إلى هذه الفئات الاجتماعية الضعيفة من الناحية الاقتصادية، باعتبارهم مجموعات وليس باعتبارهم أفراداً، حيث إنّ الإحسان إلى آحاد هؤلاء (غير واجب النفقة) مستحب، ولكن الإحسان إلى الفئة المتلبسة بحالة اليتم وحالة المسكنة وحالة القرابة والرحم هو أمر واجب بلا ريب. ويمكن أن يكون الأمر هنا من الأوامر الموجهة إلى الأُمّة، وهو يقضي بأن يقوم المجتمع بوضع الأنظمة وإنشاء المؤسسات التي ترعى شؤون هذه الفئات في عيشها وتعليمها وصحتها. 4- وفي هذا السياق جاء الأمر الرابع (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ). وفسر (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى)، إما بالجار القريب في مقابل الجار الجُنُب أي الجار البعيد – وهو تفسير لم يوافق عليه كثير من المفسِّرين – وإما بالجار القريب في النسب. ويبعد جدّاً عن ظاهر الآية أن يكون المراد بالجار ذي القربى ما يقابل الجار البعيد في المكان، لأنّ هذا المعنى لا يضيف معنى جديداً، بل هو تفصيل ثانوي في المعنى العام كان يغني عنه حذف الوصفين (ذي القربى/ الجنب) والاقتصار على لفظ (الجار)، حيث إنّه يشمل بإطلاقه جميع الجيران البعيد منهم والقريب، والمسلم وغير المسلم. مع أنّ المفهوم من الآية هو تأسيس معنى تشريعي لخصوصية الجوار، وهذا إنما يحصل بأن يراد من (ذي القربى) القريب في النسب، ليفيد أن الجوار يضيف إلى حق القرابة حقاً جديداً هو حق الجوار. وهذا معنى في الترجيح لم نلحظ أحداً تنبه له من المفسرين الذين اطلعنا على آرائهم في الآية المباركة. والحمد لله رب العالمين. فالصحيح – والله تعالى أعلم – أنّ (الجار ذي القربى) هو القريب في النسب، وهو هنا غير الوالدين من ذوي الأرحام، بقرينة تقدم ذكرهما في الآية على وجه الاستقلال، فإذا كان جاراً يجب الإحسان إليه باعتباره جاراً مع وجوب الإحسان إليه باعتباره ذا قُربى، لأنّه باعتباره ذا القربى يجب الإحسان إليه وإن لم يكن جاراً. أمّا الجار الجُنُب فهو الجار من غير ذوي القربى. وعطف الجار ذي القربى والجار الجنب على ما قبله من الآية (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)، ظاهر الدلالة على وجوب الإحسان إلى الجار كما هو الحال في الوالدين وبقية المذكورين في الآية. 5- (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)، هو الرفيق (رفيق السفر أو رفيق الحضر) وصاحب الجَنْب هو الذي يصاحبك ويقف إلى جانبك بالمعنى المادي والمعنوي. 6- (وَابْنِ السَّبِيلِ)، السبيل هو الطريق، وابن السبيل هو المسافر الغريب المنقطع عن مورده الاقتصادي. وكانت ظاهرة (ابن السبيل) تحدث في الزمن القديم حينما كانت المواصلات بطيئة تعتمد على الخيل والإبل والبغال وما إليها، ولا تتيسر للمسافات البعيدة إلا بصعوبة، وكانت القوافل تتحرك بصعوبة بين المناطق، وبين الدول والشعوب، وكانت الطرق غير آمنة، وكان الناس يتعرضون للانقطاع عن ذويهم وعن مصادرهم الاقتصادية. وقد تكفل التشريع الإلهي في الإسلام برعاية هؤلاء ومساعدتهم على اجتياز محنتهم. وقد أُمرت الأُمّة بالإحسان إلى ابن السبيل من خلال إنشاء مؤسسات ترعى هذه الحالات بتمويل من أموال الزكاة وغيرها، كما يجب على آحاد المسلمين أن يسعفوا أبناء السبيل. ويمكن أن تحدث هذه الظاهرة الآن في الحروب الأهلية وحالات الغزو الخارجي، حيث ينزح الناس من أوطانهم دون أن يتمكنوا من حمل شيء من حاجاتهم، ودون أن يكون عندهم ما ينفقونه على أنفسهم. وتتردد على مسامع الناس في جميع أنحاء العالم أخبار مآسي النازحين من مناطق الحروب العدوانية في فلسطين والبوسنه والهرسك والشيشان وكوسوفو، ومناطق الفتن الداخلية كما حدث في لبنان والعراق وغيرهما أو كالذي يحدث في مناطق الحروب الأهلية في أفريقيا، والله المستعان. 7- (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، ملك اليمين كناية عن الأرقاء. وقد تضمنت الآية الأمر بالإحسان إليهم. والظاهر أنّ الأمر للوجوب، ولا وجه في نظرنا لحمله على الاستحباب. والإحسان هنا تارة يراد به الإحسان إلى الرقيق للتخفيف عنه في أعمال الخدمة التي يقوم بها، وأخرى يراد الإحسان بإكرامه واحترامه، وثالثة يراد الإحسان بالتوسعة عليه في معيشته، ورابعة يراد كل ذلك. وهذا ليس ببعيد عن ظاهر الآية، بل هو مقتضى إطلاقها. وهنا وجه آخر للإحسان يشمله الإطلاق، وقد يكون أفضل وجوه الإحسان وأقربها إلى المسانخة[13] والتوافق مع الاتجاه التشريعي العام في الإسلام تجاه الرقيق، وهو الإحسان بالعتق. وفي هذا الشأن نلاحظ أنّ الإسلام جعل العتق فريضة على المسلم في بعض حالات الكفّارة، وهذا غير داخل في الآية، ولكن إنشاء مؤسسة للعتق من أموال الزكاة التي خصص بعضها للإنفاق في عتق الرقاب يدخل في إطلاق الإحسان في الآية الكريمة. ولقد نزلت الآية حين كان الإسلام يتعامل مع نظام الرق العالمي الذي كان سائداً، وقد سن الإسلام في هذه الآية وغيرها إحدى التشريعات الإنسانية الكبرى، حيث جعل الإحسان إلى الرقيق من الواجبات الشرعية. 8- والظاهر من ختم الآية المباركة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا)، أنّه وارد مورد التعليل للحكم الثابت في جميع الموارد التي اشتملت عليه الآية، ومفاد هذا التعليل أن من لا يحسن إلى هؤلاء يتعنْوَن بعنوان (المختال الفخور) ومن كان كذلك لا يحبه الله بنص الآية المباركة، ونفي حب الله عزّ وجلّ لإنسان على فعل أو ترك يكشف عن حرمة ذلك الفعل أو الترك.   - إطلاق الآية للجار المسلم وغيره: ونلاحظ هنا أن مفاد الآية المباركة، وهي نص تشريعي أساسي، هو: "أحسنوا إلى الجار ذي القربى وإلى الجار الجُنُب غير ذي القربى" وهو الجار الغريب في النسب، ولم تقيد هذا الجار بكونه مسلماً. فدلت بإطلاقها على أن تشريع الإحسان للجار ثابت، سواء أكان الجار مسلماً أم كان غير مسلم. وهذا التشريع في نظام الاجتماع الإسلامي وفي تكوين المجتمعات الحضرية في الإسلام سواء أكانت قروية أم مدينية كبرى هو تشريع لم يسبق له مثيل على الإطلاق إلا في العصور الحديثة. وقد أفتى الفقهاء المسلمون في بعض تنظيمات المدن والتجمعات الحضرية بما يتطابق مع هذا الفهم للآية المباركة من دون أن يستندوا إليها، بل إلى تفسير آية (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا) (النساء/ 141).   - حكم الآية: وجوب الإحسان إلى الجار: بعد تحليل الآية وفهم موضوعها العام، نعود إلى موضع البحث في الآية، وهو (الجار)، وإلى الحكم الذي نصت عليه الآية، وهو الأمر بالإحسان إلى الجار. والآية ظاهرة في وجوب الإحسان إلى الجار ذي القربى والجار الجنب، لأنّ الظاهر من العطف هو أن هذه الأوامر هي على حدِّ الأمر بعبادة الله عزّ وجلّ وعلى حدِّ الأمر بالإحسان إلى الوالدين وإلى الأقربين، أي أنها أوامر وجوبية. ورفع اليد عن الوجوب والإلزام لا يكون إلا بدليل. وإذا كان بعض الفقهاء يرى أنّ الإحسان في بعض هذه الموارد مستحب وليس واجباً، استناداً إلى بعض الروايات التي يعتبرها قرينة على الاستحباب، فهذه دعوى غير مسلَّمة. وعلى فرض التنزُّل والتسليم بصحة هذه الدعوى، فذلك في غير الجار، كالصاحب وابن السبيل وملك اليمين. على أننا لا نسلم بذلك على إطلاقه. وقد تقدمت الإشارة إلى أن تشريع الإحسان إلى هؤلاء تارة يلحظ باعتبارهم فئات في المجتمع، وتارة يلحظ باعتبارهم أفراداً. والإحسان إليهم بالاعتبار الأوّل واجب على الأُمّة، وعليها أن تنشئ المؤسسات الراعية لهم. والإحسان بالاعتبار الثاني قد يكون مستحباً وليس واجباً إذا لم تبلغ حاجتهم حد الضرورة، وإلا فلا ريب في وجوب الإحسان إليهم بما يرفع ضرورتهم. والمسألة بحاجة إلى بحث وتدقيق. إذن فالآية المباركة تدل على وجوب الإحسان إلى الجار. والإحسان إلى الجار يستلزم حرمة الإيذاء والإضرار، وهي حرمة ثابتة بالنسبة إلى غير الجار أيضاً، ولكن الحرمة هنا ثابتة بعنوان الجوار أيضاً، فتكون أشد منها بالنسبة إلى غير الجار. كما أن أدلة الجوار تدل على وجوب الإحسان وليس على مجرد عدم الإيذاء والإضرار. هذا بالنسبة إلى الدليل القرآني.   الهوامش:
[1]- رواه الدار قطني في (الأفراد) عن أبي سعيد الخدري. والحديث في وسائل الشيعة: 20/35 وص48 من مقدمات النكاح (باب: 7 و14، ح4 و6). [2]- الوسائل (ج20، باب 28، حديث 1 و2 و3). ورواه الترمذي عن أبي حاتم المزني. [3]- الوسائل (ج20، باب 28، ح4 و5 و7). [4]- الوسائل (ج12، أبواب المعاشرة؛ والباب 11، ح4). [5]- المصدر السابق (باب 15، ح1). [6]- وسائل الشيعة (ج12، كتاب الحج، أبواب العشرة: 85 و86 و87 و88 و89). [7]- كتاب الحج، ج12، باب: 89، ص131. [8]- روي عن أبي هريرة بلفظ: "تعوّذوا بالله..." في الجامع الصغير (ج1290 و2967) وسنن النسائي (ح5076). [9]- ضعيف. انظر الجامع الصغير: (ح2495). [10]- رواه الحاكم في المستدرك 1/532، والسيوطي في الدر المنثور 2/159. [11]- ورواه عن طريق الصحابة الإمام أحمد بن حنبل بلفظ: ".. يجير عليهم أدناهم". (المسند، ج2، ص180، ح6689)، وروي عن علي (ع) بعضه، كما في الجامع الصغير (ح6666) ومنه قوله (ص): ".. ويجير عليهم أقصاهم". انظر سنن أبي داود (ح2390، 2751) والجامع الصغير (ح6712) والوسائل (ج15، ص66، باب: 20 من أبواب جهاد العدو؛ وج 29، ص75، باب 31 من أبواب القصاص في النفس). [12]- سورة الأنفال، الآيات: 1 و20 و46؛ وسورة المجادلة، الآية: 13.

[13]- سِنْخُ كل شيء: أصله. والمسانخة هنا بمعنى الموافقة أو التوافق مع الأصل.

 المصدر: كتاب (في الاجتماع المدني الإسلامي) أحكام الجوار في الشريعة الإسلامية

ارسال التعليق

Top