• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تفسير القرآن الكريم وفق نظرية الإعتبار

الشيخ غالب الكعبي

تفسير القرآن الكريم وفق نظرية الإعتبار
◄ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر/ 87). تمهيد: نظرية الإعتبار نظرية قرآنية تبين فيها المعاني القرآنية على وفق النشأة الإنسانية وتكاملها في ظل النظام الفطري الذي أودعه الله تعالى فيها، وهذا لا يبطل السلوك إليها من طريق النظام الإحساسي التخيّلي "الفكري". ثمّ إن مساوقة الذين للفطرة هو الركن الذي نطق به الكتاب، والذي يعد أحد أركان هذه النظرية، حيث قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30). والركن الآخر: قائم على خروج الإنسان بعمله بإعتبار قيام العلم فيه عن هذا العالم من غير أن يفارقه، ثمّ إنّ الكامل لا يفارقه مطلقاً، والناقص يفارقه بالموت الذي هو "التوفي" وهو عبارة عن أخذ الشيء بكله، قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) (الزمر/ 42)، وقد أشير إلى هذا الركن في قوله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/ 22). ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى إلا قوله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)، لكان فيه كفاية، إذ الغفلة لا تكون إلا عن معلوم حاضر وكشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود، فلو لم يكن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجوداً حاضراً من قبل لما كان يصح أن يقال للإنسان: أنّ هذه أمور كانت مغفولة لك، مستورة عنك، فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء، مزالة منها الغفلة. ولعمري أنك لو سئلت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز، لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات والأوصاف التي نزل بها القرآن الكريم. وبهذين الركنين تتم منظومة الإعتبار في تفسير القرآن الكريم، وقد نقحنا كلا الركنين في كتبنا الحِكمية التي تفك لغز الإعتبار بجميع تفاصيله، وأما الوجود الجملي فهو محفوظ على حد واحد عند سائر الناس، ولا يختلف في هذا النظام إثنان أصلا، فإفهم. بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله المتجلي لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجته، واهب الأسرار من خلف حجاب العقول والأفكار، الذي وسع كل شيء برحمته، ودبر كل شيء بحكمته، خلق الإنسان على صورته، وأسجد له ملائكته. والصلاة والسلام على سيد الأنام المبعوث رحمةً للعالمين النبي الأعظم محمد المصطفى (ص) وعلى آله الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. المقدمة: من أهم ما يجب التفطن إليه إذا أراد الإنسان أن يصلح نشأته هو الوصول إلى معاني الآيات القرآنية، ليرتب عليها لاحقاً ظهور آثارها في دائرة ذاته التي هي الأغراض والمقاصد، ونفس هذا الوصول هو المعبِّر عنه بالتفسير، فالتفسير لغة مأخوذ من الفَسر وهو كشف المغطى، هذا الكشف له طريقان: الأوّل: الكشف عن طريق ما أجمله الفكر من ألفاظ في دائرة الخزانة (الخيال)، حتى قيل: بأنّ التفسير هو كشف المراد عن اللفظ المُشكل، وهو المتبادر عند سماع مفردة "التفسير" عند أكثر الناس. الثاني: الإنتشاء الذي تُقوَّم بها الفطرة الإنسانية من معاني، وهذا الإنتشاء موجب لرفع التقابل بين اللفظ والمعنى كما نقحناه في أبحاثنا الأصولية بحيث يكون المقصود من المعنى ما يقع في طريق التكامل الفطري عند النشأة الإنسانية، وهو ما يعبَّر عنه بـ"الوجود الجُمَلي" في مقابل الوجود الإجمالي، وعليه: لا يدور الوجود الجُمَلي وعليه: لا يدور الوجود الجُمَلي حول الإبهام كما كان في الطريق الأوّل، بل يدور مدار الإنتشاء وهو المعبَّر عنه إصطلاحاً بـ"التجلي"، وسيتضح لك معنى هذا الإصطلاح القرآني أكثر في أبحاث لاحقه عند ذكر الأصول العامة، كما في قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف/ 143). ولأجل هذا الطريق قيل: إنّ التفسير هو المبالغة في إظهار المعنى المعقول عن طريق ظهور أثره في ظل النشأة الإنسانية، وفي ظل هذا الظهور نصل إلى المساوقة بين الدين والفطرة التي أشير إليها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30). والمراد من مفردة الحنيف هو الاعتدال، وهي الوسطية التي هي بمعنى الخروج عند حدي الإفراط والتفريط، والمعني: إنّ الفطرة لا تدفع الدين كما إنّ الدين ليس له مكان ينزل ويستقر فيه إلا الفطرة، ولبعده عن الإنسان بسبب إنشغاله بالأوهام وصف بـ"ذلك" الذي هو إسم إشارة للبعيد، لقلة الواصلين إليه من أفراد النوع الإنساني، ولذا إرتفع هذا المضمون علمه عن أذهان أكثر الناس، ولا يدرون ماذا يعني مساوقة الدين للفطرة؛ لإنصراف الأذهان إلى الطريق الأوّل الذي لاشغل القرآن به؛ لنسبيته، كما هو ظاهر. وأنت إن دققت النظر في كلا الطريقين تجد ظهور الأوّل وخفاء الثاني، وهذه واحدة من الخدع التي خدع بها الإنسان في نشأته العنصرية، ومعنى الخدعة التي خدع بها الإنسان: هو وقوع الأوّل في طريق الثاني من غير أن يكذبه أو يقع في مقابله وهو لا يشعر، وحقيقته: أنّ الأوّل يخالف الثاني من غير أن يبطله، فالرجوع إلى الطريق الأوّل لا يكون رجوعاً إليه مستقلاً عن الآخر، بل رجوع بما يوقعه في طريق الثاني، فالوقوف على الظاهر حق، ولكن الجمود عليه باطل، فيكون الغرض من الوقوف على الظاهر: هو تجاوزه والعبور إلى غيره، هذا الذي عبَّر عنه القرآن بـ"التدبّر" وهو الذي أوصى به الله تعالى في كتابه خلقه، ولم يوصيهم بشيء غيره، قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24)، فربط الله تعالى إمتناع التدبّر بقذارة القلب، وهي مسألة عجيبة لها إرتباط بالتطهير وسوء السريرة، قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (الواقعة/ 77-82)، والإدهان بالقرآن التهاون به، وأصله التليين بالدهن، أستعير للتهاون، والأستفهام للتوبيخ، حيث إنّه تعالى يوبخهم على عدهم "أمر القرآن" هينا لا يعتنى به. وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنفال/ 20-23). ولذا يجب على الإنسان العاقل الحكيم أن يفقه معناها، وإلا خسر نفسه وفسدت نشأته؛ لأن إمتناع التدبّر موجب لنسيان الله تعالى، ونسيان الله تعالى موجب لنسيان النفس نشأتها، ونسيان النفس لنشأتها موجب لرفض المعارف الإلهية، قال الله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 19). ثمّ يجب أن تعلم إنّ التدبّر غير التأمل، فالتأمل هو الرجوع إلى ما إختزنته النفس من مفاهيم عن طريق التعلق بالحس، وأما التدبّر فهو الرجوع إلى النشأة الإنسانية، ومعرفة كيفية ظهورها في ظل نشأتها العنصرية، وما هي الأمور التي أوقعتها في الخدعة التي بنيت عليها سعادتها في الدارين، فإنّ لهذه النشأة الإنسانية خصائص ظهرت فيها عند ظهورها، لأنّك بهذه المعرفة لو سئلت نفسك أن تهديك إلى ما يقوَّمها في نشأتها العنصرية لم تجبك إلا بنفس هذه البيانات والأوصاف التي نزل بها القرآن الكريم. ولذا سيأتي في بيان المنهج الذي نعتمد عليه: إنّ التجرد عن الفكر أصل فيه، ولكن جعله في طريق النظام الفطري أصل آخر، فإن سلوك الطريق الفطري لا يعني إلغاء الفكر، بل سلوك هذا الطريق للوصل إلى إصلاح النشأة الإنسانية، يعني: هاهنا نظامان من غير أن يبطل أحدهما الآخر، وهو الذي أسميناه بالكذب المعرفي، وقد عرفت إنّه غير الكذب المنطقي، ففي الكذب المنطقي يعني المخالفة للواقع، وأما هذا السنخ من الكذب يعني المخالفة فقط، ولكن بشرط أن تقع في طريق الواقع، فإفهم. وبناءً على ما تقدم يكون المراد من التفسير: هو بيان معاني الآيات القرآنية، والكشف عن مقاصدها وأغراضها، والمراد من القيد الأوّل هو العمل بالظواهر والتقيّد بالخصوصيات المحيطة باللفظ من دون الإنحراف والتعدي عن ما تظهر فيه، والمراد من القيد الثاني هو ظهور أثرها في النشأة الإنسانية خارجاً، بحيث يكون المقدم سبباً لظهور المتأخر، في عين كون المتأخر سابقاً عليه، ونعني بالمتقدم الألفاظ وخصوصيتها، ونعني من المتأخر الأثر الذي ينشأ منها في مقام العمل. لينتج: إن ما هو الموضوع للآثار هو الحد للمعنى، وما صدق عليه من الأمور الحقيقية كان هو المصداق الحقيقي للحد، فإفهمه. وهذا المعنى الذي قلناه مع ظهوره فقد غاب عنه الكثير، والسر في غيابه عن الأذهان لا لإمتناعه بل لإبتذاله وإعراض الإنسان عنه؛ وهو الذي كان وراء صياغه الآيات القرآنية، وإعطائه المعاني المساوقة لما تحتاج إليها الفطرة الإنسانية في سيرها التكاملي الأسمائي العملي بالوضع التعيّني لا التعييني، ونحن سوف نشير إلى كل مفردة مفردة من هذا المنهج المعرفي الذي أسميناه به "الإعتبار" تحت عنوان "أصل"، في ضمن بيان معاني الآيات القرآنية، "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل".   المصدر: مجلة الكوثر/ العدد 27 لسنة 2012م

تعليقات

  • محمد الكعبي

    هذا من أوضح مصاديق التفسير بالرأي

ارسال التعليق

Top