• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المستهلك ووسائل حمايته في الإسلام

المستهلك ووسائل حمايته في الإسلام

المستهلك هو مَن يستعمل المنتجات لإشباع حاجات إنسانية، سواء أكان الشيء موضوع الاستهلاك مما يُفنى باستعمال واحد، كالمأكول، والمشروب، والدواء، أو كان مما لا يُفنى إلّا باستعمالات متعددة، متتابعة، عن طريق الاندثار الجزي، كالملبس، ووسيلة النقل والمشاهد والصور، في الواقع أو في وسائل الإعلام وغيرها.

وحماية المستهلك تعني استعمال المجتمع المسلم لوسائل شرعية تحفظ مصلحة المستهلك، الآنية والمستقبلية، في المواد، وفي المشاهد والصور، وفي أدوات المعرفة والتوجيه والإيحاء، وفي هذا السياق حرصت الحضارة الإسلامية على توفير الحماية اللازمة للمستهلك في كلّ هذه المجالات.

في إطار هذا التصوّر الواسع للمستهلك، ولحمايته، يمكن معالجة حماية المستهلك من خلال فروع ثلاثة.

الفرع الأول- حماية مستهلك السلع والخدمات:

تتم حماية المستهلك للسلع والخدمات على مستويين: مستوى الإنتاج، ومستوى التسويق:

أ ـ فعلى مستوى الإنتاج، يحمى المستهلك بتوفير الجودة في المنتج، وذلك لجنس الاختيار في المواد الخام، وباتقان التركيب والعمل الإنتاجي المتصل به، فالرسول (ص) يقول: "إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

ويساعد على تحقيق الجودة توخي الإيمان في العامل، والخلق الإسلامي الرفيع، الذي يرفع العمل إلى مستوى العبادة لله تعالى، فيرتبط العامل بالله عزّوجلّ، قبل أن يرتبط بالمشغل، يضاف إلى ذلك الاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي، حتى يتم تدعيم الجودة بالاختصار في الزمن اللازم للإنتاج، الأمر الذي يترتب عليه إنخفاض عدد الساعات اللازمة للإنتاج، والتي هي إحدى مقومات السعر أو الثمن، وقد حثّ الرسول (ص) على أن ينفع المنتج الناس عن طريق تخفيض الكلفة، ومن ثم تخفيض السعر: "خير الناس أنفعهم للناس".

من جهة أخرى، تتم حماية المستهلك على مستوى الإنتاج بتجنب التمويل الربوي الذي يرفع دائماً من كلفة السلعة المنتجة، لأنّ سعر الربا أو الفوائد البنكية يتحملها في النهاية المستهلك، فيتعرض للظلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة/ 278-279).

وبالمقابل، توجد عدة بدائل عن التمويل الربوي، وجدت المشاركة بتقديم رأس المال من عدة أشخاص طبيعيين أو معنويين، ووجدت المضاربة عند طريق التقاء رأس المال بالعمل في الإنتاج. ووجدت المرابحة ووجد غيرها مما يفي بالحاجة، ويساهم في استقرار الأسعار، ومنع التضخم، لأنّ زيادة النقد عندئذ ترتبط بزيادة الإنتاج حتماً، فلا يكون مجال للتضخم.

ب ـ أما على مستوى التسويق فحماية المستهلك للسلع والخدمات تتم من خلال طبيعة السوق الإسلامية، ومن خلال عدة ضوابط شرعية:

أوّلاً- طبيعة السوق الإسلامية:

السوق هي مكان التقاء العارضين والطالبين، وليست بالضرورة مكاناً قاراً، كما هي الحال بالنسبة لسوق المواد الغذائية والثياب، وقطع الغيار، وقد تكون سوقاً متنقلة، أو خاضعة للصدفة، كسوق الكراء حيث يلتقي المكري والمكتري على قارعة الطريق، أو في منزل المكري مثلاً.

وطبيعة السوق الإسلامية أنّها سوق حرة، ليس فيها احتكار، لا في السلع، ولا في المعلومات عن الأسعار، لأنّ الاحتكار جريمة اقتصادية، حيث يقول الرسول (ص): "لا يحتكر إلّا خاطئ".

من دخل في شيء من أسعار المسلمين، ليغلبه لعيهم، كان حقّاً على الله أن يقذفه في معظم من النار يوم القيامة.

وبذلك تتوفر المنافسة التي تتحدد بها الأسعار من خلال آليات الطلب والعرض، ومن خلال تلاقي شروط أطراف التداول دون تدخل مسبق للسلطة في تحديد الأسعار. فقد أباح (ص) لأطراف التداول أن يشترطوا ما شاؤوا: المسلمون على شروطهم، إلّا شرطاً حرّم حلالاً، أو أحل حراماً.

إنّ حرّية السوق في الإسلام هي حرّية منظمة بقواعد الشريعة التي تمثل شرط الله تعالى. فلا يدخل هذه السوق سلع محرمة، كالخمر، ولحم الخنزير، والتماثيل، والقروض الربوية، فالرسول (ص) يقول: "إنّ الله ورسوله حرّما بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام".

وكذلك للتداول آداب ملزمة، يجب على أطراف التداول مراعاتها بدقة، فالرسول (ص) يقول: "لا يسم المسلم على سوم أخيه" و "لا يبع الرجل على بيع أخيه".

فسوم الشخص على سوم أخيه منافسة غير مشروعة، فلا يدخل الثاني في المنافسة قبل أن ينصرف المساوم الأوّل، وكذلك بيع الشخص على بيع الآخر، بأن يقول: أبيعك أحسن مما اشتريت بنفس الثمن، أو بأقل منه.

إنّ شروط الله تعالى في التداول لها الأولوية: لأنّها الإطار لشروط البشر، فالتبعية من شروط البشر لشروط الله تعالى هي معنى العبادة التي خلق الإنسان من أجلها:

ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليس في كتاب الله، مَن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق.

لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به.

ثم هذه السوق تخضع لرقابة السلطة، لأنّ الدولة في الإسلام هي دولة العقيدة، عليها أن تراقب التزام الناس لمقتضيات العقيدة في الحياة اليومية على المستوى الاقتصادي وغيره:

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين/ 1-6).

بهذه الحرّية المنظمة مسبقاً، والمراقبة لاحقاً، تفسير النصوص الواردة في منع تحديد الأسعار، وفي جوازه، فقد طلب إلى الرسول (ص) أن يسعر السلع والخدمات في سوق المدينة، فأبى، وقال: "إنّ الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربّي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال".

وقبل ذلك ربط القرآن حل التجارة بالتراضي في إطار قواعد الشريعة:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) (النساء/ 29).

ثانياً ـ الضوابط الشرعية:

وضع الإسلام عدة ضوابط تحمي الثقة، والتوازن بين أطراف التداول:

1 ـ منع الغرر:

قال أبو هريرة: "نهى النبيّ (ص) عن بيع الغرر".

والغرر: أن يكون موضوع التداول غير مقدور على تسليمه إلى المتملك سواء أكان هذا الموضوع موجوداً أم معدوماً، يقول ابن قيم الجوزية في بيان معنى الغرر الشرعي: "ليس في كتابه الله، ولا في سُنة رسول الله (ص) ولا في كلام أحد من الصحابة والتابعين، أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بيع الأشياء التي هي معدومة. كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع له العدم، ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجوداً، أو معدوماً".

ومن أمثلة الغرر بيع السمك، وهو في ماء البحر، لم يصطد بعد، ومنها كذلك ما يسمى ضربة الغائص، حيث يبيع مستخرج الجواهر واللآلئ ما يمكن أن يستخرجه منها في إحدى الغوصات إلى مواقعها بقاع البحار، فقد يستخرج القليل، وقد يستخرج الكثير، وقد لا يستخرج شيئاً، وقد ورد عن الرسول (ص) أنّه نهى عن ضربة الغائص.

ومن الغرر، الذي يُحمى منه المستهلك ما يعرف ببيع السنين، حيث يبيع الإنسان غلات حقله لعدى سنوات قادمة، فقد تكون غلة، وقد لا تكون، فيضيع المستهلك أو المتملك، قال جابر بن عبدالله: "نهى النبيّ (ص) عن بيع السنين".

ومن الغرر أيضاً: أن تباع الثمار على أشجارها ولم يبد صلاحها بعد، فعن أنس بن مالك ، أن رسول الله (ص) نهى عن بيع الثمار حتى تزهي. فقيل له: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر، قال: أرأيت أن منع الله الثمرة، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟

ومن هذا النوع أيضاً: أن يبيع الشخص ما لم يشترط بعد، وقد طلب منه، فقد يتسنى له الشراء، وقد لا يتسنى، قال حكيم بن حزام يا رسول الله! يأتيني الرجل، فيسألني البيع، ليس عندي ما أبيعه له، ثم أبتاعه من السوق؟

قال (ص): "لا تبع ما ليس عندك".

وقال (ص): "مَن ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يقبضه".

لكن الإسلام رخص في بيع المثلي المتوافر في الأسواق، قبل قبضه، بل وقبل وجوده، وذلك في عقد السلم، حيث يدفع الثمن مسبقاً، على أساس أن تسلم السلعة بعد سنتين أو ثلاث، قال عبدالله بن عباس ، قدم النبيّ (ص) المدينة، وهم يسلفون بالثمن السنتين والثلاث، فقال: "مَن أسلف في شيء ففي كيل معلوم، إلى أجل معلوم".

2 ـ تقديم العارض للبيانات الكافية:

حول موضوع التداول، تبيّن نوعه، وصفاته المميزة، وكميته، وتخرجه من الجهالة، بحيث يتم التراضي عليه عن بينة تامة، وفي هذا الإطار نهى النبيّ (ص)، عن بيع الصبرة من التمر، لا يعلم مكيلتها، بالكيل المسمى من التمر، كما نهى عن الملامسة والمنابذة، قال مالك: "والملامسة: أن يلمس الرجل الثوب، لا ينشره، ولا يتبيّن ما فيه، أو يبتاعه ليلاً، ولا يعلم ما فيه".

والمنابذة: "أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر إليه ثوبه، على غير تأمّل منهما، ويقول كلّ منهما للآخر: هذا بهذا".

ومن الواضح أنّ البيانات يجب أن تكون صادقة، لا كتمان فيها للعيوب، ولا كذب ولا دعاية مظلة، مشفوعة بالتأكيدات والأيمان الكاذبة، يقول الرسول (ص): "المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، فيه عيب، إلّا بينة".

يقول الله عزّوجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران/ 77).

3 ـ البعد عن وسائل فقدان الثقة بين أطراف التداول:

يُحمى المستهلك بوجوب الابتعاد عن وسائل فقدان الثقة، وفي هذا السياق حرّم الإسلام الغش في موضوع التداول، حتى يكون هذا الموضوع على حقيقته، فعن أبي هريرة ، إنّ رسول الله (ص) مرّ برجل يبيع طعاماً، فسأله: "كيف تبيع؟ فأخبره، فأوحي إليه: أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال رسول الله (ص): ليس منا مَن غش".

والتدليس نوع من الغش، وقد كان منه لدى العرب في تداول الأنعام أن يشد الواحد ضرع البقرة، أو الشاة أو الناقة عدة أيام قبل الذهاب بها إلى السوق، لتظهر في أعين طالبيها منتفخة الضرع، غزيرة اللبن، فيقبل في شرائها بثمن مرتفع، وعندما يحتلبها، يجدها عادية، وقد نهى رسول الله (ص)، عن هذا الفعل الذي يسمى التصرية. قال: "لا تصروا الإبل والغنم، فمَن ابتاعها بعد، فإنّه بخير النظرين، بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها، وصاعاً من تمر".

والفرق بين الغش والتدليس: أنّ الغش يكون سابقاً على عرض السلعة للتداول، كخلط اللبن بالماء قبل الدخول به إلى السوق، أو لاحقاً في مرحلة الوفاء، كمَن يتعاقد على بيع تمر جيِّد، فإذا به عند الوفاء يقدم تمراً رديئاً، أو خليطاً من جيِّد ورديء، بينما التدليس هو خديعة مصاحبة للتداول.

ومن الغش التغيير في المقاييس من الموازين والمكاييل، عن المقاسات الشرعية المعروفة، أو النقص فيها عند البيع، والزيادة عند الشراء، مما يعدّ بالتطفيف المعاقب: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) (الإسراء/ 35).

وفي نفس السياق، حرّم الإسلام التلاعب بالأسعار عن طريق النجش، وهو أن يزيد الشخص في ثمن السلعة، وهو لا يريد شراءها، إنما يريد فقط أن يدفع الآخرين لشرائها، أو لقبول الثمن المرتفع المطلوب فيها، وقد يكون ذلك بتواطئ بين البائع والناجش، وقد قال الرسول (ص): "لا تناجشوا".

4 ـ منع الوساطة غير المنتجة:

وجد الرسول (ص): إن المنتجين بالبادية العربية يأتون بمحصولهم إلى المدن، ليبيعوا بضائعهم، مقابل جزء من الثمن متفق عليه، فنهى (ص)، عن ذلك وأمر المنتجين أن يبيعوا محصولهم مباشرة، لأنّ ما يؤدي للوسيط يثقل كاهل المستهلك، قال (ص): "لا بيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".

وكما نهى الرسول (ص) عن الوساطة بمعنى الوكالة بأجر على البيع، نهى عن الوساطة بمعنى الحيلولة دون التعامل المباشر بين المنتج والمستهلك، بحيث يشتري الوسيط لنفسه، ثم يبيع ما اشترى للمستهلك، دون أن يقوم هذا الوسيط بأي جهد إنتاجي مثل تقريب السلعة من المستهلك. وهذا ما كان معروفاً لدى العرب بتلقي الجلب أو الموردين، لأنّ الوسيط في هذه الحالة قد يهدف إلى استغلال عدم معرفة المورد بالأسعار، فيبيع المورد سلعته بالجملة إلى الوسيط، وهذا يبيع بربح أعلى كثيراً، أو يحتكر، فيصطنع قلة العرض، وينتظر ارتفاع الأسعار، وفي كلّ حال يغلي على المستهلكين أسعارهم، يقول الرسول (ص): "لا تلقوا الجلب، فمَن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيِّده السوق فهو بالخيار".

5 ـ منع بيوع الاضطرار:

قال الإمام علّي (ع): "سيأتي على الناس زمان عضوض، يعضّ الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك، قال تعالى: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة/ 237)".

ويبايع المضطرون، وقد نهى النبيّ (ص) عن بيع المضطر.

وبيع المضطر: أن يكون شخص ما مضطراً إلى سلعة أساسية غير متوفرة في السوق إلّا عند عارض واحد، ويحس العارض بحالة الضرورة التي يعانيها الطالب للسلعة، فيفرض عليه ثمناً أعلى من السعر المعقول، استغلالاً للمستهلك دون وجه حقّ، ودون إحساس بالأخوة الإسلامية والإنسانية.

6 ـ إعطاء المستهلك حقّ الخيار قبل إبرام العقد وبعده:

فقبل إبرام العقد، هناك خيار مجلس العقد، وهو عبارة عن فرصة للتأمل في مكاسب التعاقد على موضوع معين، تبدأ هذه الفرصة من الجلوس للمساومة والتعرّف على شروط التعاقد عند الحاجة، وتنتهي بالتفرق عن الموضوع بالحديث عن موضوع آخر، مثلاً، لدى الحنفية والمالكية، وتنتهي بالتفرق البدني عن مكان التعاقد لدى الشافعية والحنابلة، فقبل التفرق عن الموضوع، أو عن المكان، يكون لكلّ من البائع والمستهلك حقّ الخيار في جعل العقد نهائياً، أو إلغائه، حتى ولو بدا عليهما، أنّهما وصلا إلى اتفاق نهائي، وذلك ضماناً للتوازن في التداول، وحيلولة دون استغلال المستهلك، يقول الرسول (ص): "البيعان كلّ واحد منهما بالخيار على صاحبه، حتى يتفرقا".

وأما بعد إبرام العقد، فيحقّ للمستهلك أن يمارس عدة خيارات، منها: خيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية، وخيار الغبن.

فخيار الشرط: هو أن يشترط المستهلك أو المتملك أن تكون له مدة كافية يكشف فيها بنفسه، أو بواسطة خبير، عن حالة موضوع التعاقد، حتى يتبيّن جيِّداً مكاسبه، أو مضاره: وقد شكا تاجر ضرير هو حيان بن منقذ ، إلى رسول الله (ص) أنّه يخدع في بعض ما يشتري من السلع، فقال له الرسول (ص): "اشترط عدم الخداع في البيع، وإذا خدعت كان لك الخيار في إمضاء العقد وفسخه".

إذا بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار في كلّ سلعة ابتعتها ثلاث ليالٍ، فإن رضيت فأمسك. وإن شئت فاردد.

وخيار العيب هو حقّ فسخ العقد إذا وجد المشتري بما اشتراه عيباً، فمن اشترى بقرة مورس عليها شد الضرع حتى ظهرت وكأنّها غزيرة اللبن، ثم كشفت التجربة أنّها بقرة عادية، على غير ما تصوّرها حين التعاقد، هذا المشتري له أن يفسخ العقد إذا أراد، بشرط ألا يكون البيع بيع براءة، حيث يتبرأ البائع من تبعة جميع العيوب، ويقبل بذلك المشتري.

وخيار الرؤية هو كما ترى القاعدة الحنفية، أنّ (مَن اشترى شيئاً لم يره، فهو بالخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء تركه)، هذا الخيار يشمل العقارات والمنقولات، ولكنّه خاص بالمشتري أو المستهلك.

أما خيار الغبن فهو حقّ إمضاء العقد وفسخه، يحقّ لمن استغل جهله بالأسعار، ففرض عليه ثمن أعلى من ثمن السوق، مما يعتبر عُرفاً، غبناً فاحشاً، لا يتساهل بشأنه، ويرى المالكية: (أنّ الغبن الذي يخول حقّ الخيار للمستهلك ينبغي أن يصل إلى حدود 30% أعلى من سعر السوق).

7 ـ استحباب قبول طلب الاستقالة من العقد:

إذا لم يكن شرط بالخيار، ولا عيب يوجبه، ولا انعدام رؤية الموضوع ولا غبن، وتبيّن لأحد الطرفين ـ وهو المستهلك في الغالب ـ أنّه وقع عليه ضرر من التعاقد، فله أن يطلب من صاحبه أن يقيله من العقد، حتى يعودا إلى الحالة التي كانت قبل دخولهما إلى السوق، والإسلام يرغب المعنى بالطلب في هذه الحالة أن يقبل استقالة صاحبه من العقد، حتى يعودا معاً إلى حالة التوازن السابقة على العقد، يقول الرسول (ص): "مَن أقال مسلماً، أقال الله عثرته يوم القيامة".

الفرع الثاني- حماية مستهلك المشاهد والصور:

المشهد منظر حيّ، أو طبيعي، يشاهده الإنسان، فيؤثر فيه إيجاباً بالارتياح، أو سلباً بالاشمئزاز، يشاهد الواحد منظر البحر الأزرق الهادئ، ويرى الجبال المكسوة بالثلوج، ويرى الأزهار المتفتحة المتعددة الألوان والزكية الرائحة، فتشيع بين جنباته مشاعر الارتياع والمسرة، ويشاهد مناظر غير لائقة في كلّ مكان.

إنّ المشاهد هنا مستهلك للمشهد أو المنظر الطيّب أو الخبيث، وهو، وإن لم يكن مستهلكاً بالمعنى الاقتصادي الصرف، فهو مستهلك بالمعنى الأخلاقي، لكنّه استهلاك له تأثيره الإيجابي أو السلبي على النشاط الاقتصادي، وعلى الإنفاق الذي يتّجه نحو الإسراف والتبذير في الجانب السلبي، وهذا بدوره يؤثر على الإدخار الوطني العام، وبالتالي على زيادة الطاقة التشغيلية.

إنّ إفساح المجال أمام الرذيلة لفئة من المجتمع يجعل الرذيلة تنتشر، وتهدد الجميع، والمجتمع في تصور الإسلام سفينة واحدة، في بحر الحياة، فإذا خرب البعض السفينة، بخرق في أحد جوانبها، دون اعتراض من بقية الركاب غرق الجميع، من خربوا، ومن لم يخربوا:

مثل القائم على حدود الله، والمدهن فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، استقوا من الماء، مروا على من فوقهم، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون، فتؤذونا، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ حتى فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم، نجوا، ونجوا جميعاً.

ومن ذلك فلا مجال لللا مبالاة في الإسلام بواقع استفحال الرذيلة، لأنّها تجعل الساكت مساهماً بسكوته في انتشار الرذيلة، ومن ثم يعاقب الساكت كما يعاقب الفاعل، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة/ 105).

إنّ حماية المستهلك من الآثار المدمرة للمشاهد الخبيثة تقتضي أن توسع مهمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى مستويات متعددة: مستوى المؤمنين عامّة، ومستوى العلماء والدُّعاة.

أما الصور فهي نسخ عن المشاهد الحيّة أو الطبيعية، جامدة، وقد تكون نابضة بالحركة، كما هي الحال في صور التلفاز، والأفلام، ومن ذلك فهي تفعل فعل المشاهد أو قريباً منه، وتعطي نفس الآثار تقريباً، وبالتالي تجب حماية المشاهد من آثارها المدمرة.

إنّ الصور تخالف المشاهد، فالصور مواد اقتصادية وسلع، فالذي يشتري صورة خبيثة، أو فلماً مركباً من مجموعة من الصور الخيبثة، ينفق ماله في الحرام، من جهة، ويفسد أخلاقه وأخلاق مَن يحيط به من جهة ثانية، وقد قال الله عزّوجلّ، في الإنفاق الحرام:

(وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 26-27).

الفرع الثالث- حماية مستهلك الأفكار:

من البديهي أنّ الحقائق العلمية واحدة، لا تختلف حسب المذاهب، أو حسب اللغات والألوان، فالعلم محايد، أو على الأقل، هكذا ينبغي أن يكون، بينما الثقافة باعتبارها ترجمة لتصوّر مجتمع معين، عن الخالق والمخلوق، وعن الكون والإنسان، وعن الحياة مصدرها ومصيرها، وعن القيم الإنسانية وأصولها، وعما ينبثق عن ذلك من النظم والقوانين الحاكمة لحركة الحياة وتطوّرها، هذه الثقافة تختلف محتوياتها باختلاف معتقدات الأُمم والشعوب وعاداتها، وأعرافها، ونوعية علاقاتها مع الآخرين عبر التاريخ من التكامل أو العداء، من الحوار أو الصِّدام كما يقال.

يعتبر الإسلام أن تعدد الأعراق واللغات والثقافات نعمة من نعم الخالق، جلّ وعلا، تثري الطاقات الإنسانية، وتزيد من الخيرات على مختلف المستويات، إذا تم التعارّف البناء بين الأُمم والشعوب على أساس التعاون والتكامل:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13).

ويعتبر الإسلام كذلك أنّ التعدّد آية من آيات الله، الدالة على وحدانية الله تعالى، وعلى قدرته، وعلى حكمته في تدبير أمر الناس والحياة:

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22).

وبناءً على ذلك دعا الإسلام إلى كلمة سواء تجمع ـ في المرحلة الأولى ـ كلّ المتمسكين بالكُتُب السماوية السابقة رغم التحريف الذي داخل كتبهم، لأنّ الكلمة السواء ستحمي من آثار ذلك التحريف، فهذه الكلمة تعني: توحيد العبادة لله تعالى وحده، بمعنى الإطاعة في الأمر والنهي، دون أي شريك، وتوحيد الربوبية، بمعنى أنّ الربّ واحد هو الله، ولا حقّ لأي مخلوق أن يرب الآخرين، على أن مَن لا يريد الدخول في هذه الكلمة السواء، يبقى له خياره، وعلى الآخرين القبول بهذا الخيار، والشهادة له به، ولتتابع الحياة بعد ذلك مسيرتها في تعيش، وحوار مستمر، فالبشرية أُسرة واحدة من حواء وآدم (ع):

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64).

ولكن الآخر رفض الكلمة السواء التي دعا إليها الإسلام، واتّخذ ـ في المرحلة الأولى قبل سيطرة العلمانية ـ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله تعالى، يأخذون منهم التصوّر العقدي، والنظام الأخلاقي والتشريعي ويغطون ربوبيتهم للناس، بربوبية عيسى لهم، مع أنّ عيسى (ع)، يجعل الربوبية لله تعالى وحده.

(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ) (التوبة/ 31).

من جهة ثانية، رفض هذا الآخر الشهادة للمسلمين بخيارهم، وقرر بالوسائل السلمية أحياناً، وبالعنيفة أخرى وبهما معاً في أحايين ثالثة، أن يحاول صدّ المسلمين عن مشروعهم، حتى لا يضايقوا ربوبيته الأحبار والرهبان:

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء/ 89).

(وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة/ 217).

ومنذ ذلك الحين، وجد نموذجان للتصوّر العقدي، والثقافي العام، وبالتالي الحضاري، يتبادلان الصراع البارد أو الساخن بين الشمال والجنوب.

إنّه صراع ثقافي ـ حضاري عنيف في كثير من الأحيان، اكتشف الآخر من خلاله أنّ القوّة وحدها لا تكفي في الصراع، بل لابدّ من الغزو الثقافي، عن طريق دراسة أصول الثقافة الإسلامية وتفكيك مكامن القوّة فيها، فكان تأسيس الاستشراق، الذي استهدف الحصانة الثقافية في البناء الثقافي ـ الحضاري الإسلامي، فكانت مرحلة جديدة في الصراع، مرحلة تعاون فيها التنصير، والاستشراق، والسلاح، ونهب الثروات، والتغريب اللغوي، والعلمانية التي حصرت الدين في زاوية ضيقة، لتمنح خصائص الربوبية لغير الله تعالى، ولتفتح المجال لتحكم القوّة وحدها في شؤون العالم، ولتفرض نموذجاً ثقافياً وحضارياً وحيداً، يهمش بكلّ الوسائل ما سواه.

هنا طرحت مشكلة حماية المستهلك للثقافة وأدواتها، بما فيها الكتاب، ومواد وبرامج الإعلام والتعليم وغيرهما، وأحس الغيورون بعالم الإسلام بفداحة الخطر في التسميم الثقافي، فهذا يقتل أمماً بكاملها، بينما التسميم الغذائي، مثلاً، قد يقتل فرداً أو أفراداً معدودين: وتبادروا إلى مواجهة ذلك بالردود على الكتابات التي تسيء إلى خصائص الثقافة الإسلامية، ثم إلى المطالبة بمنعها من التداول، حصراً لآثارها ـ ما أمكن ـ في نطاق ضيق، وهكذا ردّ علماء الأزهر على علي عبدالرزاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الذي قرر، تبعاً للاستشراق الإنجليزي، إنّ الإسلام لا دخل له في قضايا الحكم، فهو دين كالدين المسيحي، يقسم مساحة الحياة نصفاً لله تعالى، ونصفاً لقيصر، وليس نظاماً شاملاً لكلّ قطاعات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان صدور الكتاب ـ كتاب علي عبدالرزاق ـ مزامناً لإلغاء الخلافة الإسلامية بتركيا، ولمحاولة المسلمين ببعث الخلافة من جديد.

وبالمثل ردّ على طه حسين وتلامذته من أحمد خلف الله وغيره في الهجوم على القصص القرآني، واعتبار قصّة يوسف بالذات قصّة خيالية من نسج الخيال، لا واقع لها، وتحمل الأزهر مسؤوليته في حماية المستهلك من الأفكار السامة المناقضة لهويته وعقيدته.

وهكذا، أيضاً ردّ على منكري السُّنة النبويّة، وعلى متهمي المكثرين من روايتها كأبي هريرة، بالوضع والاختلاق، وعلى متهمي القانون الجنائي الإسلامي بالقسوة، ومتهمي شرط الولي في عقد النكاح بتكريس دونية المرأة، ومتهمي حجاب المرأة المسلمة بمنع الحرّية الشخصية، ومتهمي منع الربا في الاقتصاد بالوقوف في وجه الحرّية الاقتصادية.. وما إلى ذلك.

لكن هذه الحماية للمستهلك الثقافي أتت وتأتي متأخرة، بعد الإصابة بأعراض العلمانية، والتغريب، والتلمذة المخلصة للاستشراق، وخير منها الوقاية، التي تحوّل، مسبقاً، دون الإصابة بذلك. وكما يقال: (الوقاية خير من العلاج)، إنّ ذلك لا يكون في عصر العولمة الثقافية، وهو عصر اتهام الإسلام بالإرهاب، إلّا باتّخاذ العالم الإسلامي لإستراتيجية ثقافية تحترم هوية المستهلك أو القارئ، وتحصنها وتنميها، وتفتح المجال للحوار الثقافي ـ الحضاري المنضبط بضوابط الهوية الإسلامية، لتسمح باقتناء الصالح من التراث الإنساني في الفكر، والعلم، والتقنية، وترفض ما يسيء إلى المسلم، أو إلى الإنسان بصفة عامّة، كفكرة إباحة الشذوذ، وتوريث الشاذين، والاستنساخ البشري، وما أشبه ذلك.

وصدق الله العظيم إذ يقول:

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرعد/ 17).

ارسال التعليق

Top