• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العلاقة بين مَثل الكلمة الطيبة.. وآية البر

أ. د. محمد أديب الصّالح

العلاقة بين مَثل الكلمة الطيبة.. وآية البر

◄ما هدانا إليه المعلم القرآني في ظل المثل القرآني للكلمة الطيبة كلمة التوحيد، وأنّ حقّها هو حقّ الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده منهج حياة يضمن لهم خير الدنيا والسعادة يوم الدين.

 

ما هدانا إليه هذا المعلم الكريم يقفنا على بعض من وجوه الحكمة من إيراد القرآن الكريم – وهو يبيّن حقيقة البرّ – لأمور تتعلق بالإيمان، وأخرى بأركان الإسلام، مضموناً إليها نماذج من الأخلاق، ومظاهر السلوك، على صعيد الفرد، والجماعة، وما ينبغي أن يكون سمة المجتمع الذي ينشد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي.

 

كالذي نرى في الآية السابعة والسبعين بعد المائة من سورة البقرة من قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177).

 

ومعلوم أنّ البر هو الإيمان، بل هو الكلمة الجامعة لكلِّ صنوف الخير. ولقد كان من سبب نزول هذه الآية الكريمة: أنّ الله تعالى لما أمر المؤمنين أوّلاً بالتوجه في صلاتهم إلى بيت المقدس، ثمّ حوّلهم إلى الكعبة يتوجهون شطرها عند أداء هذه العبادة (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة/ 144)، لما حصل ذلك شقّ الأمر على بعض المسلمين وأثار استغلال اليهود لهذه القضية في محاولة التشكيك وزعزعة القلوب، وذلك ما أشارت إليه آية أخرى من سورة البقرة في قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة/ 142).

 

وكان نزول آية البرّ بياناً لحكمة الله تبارك وتعالى فيما يشرع لعباده، وأنّ المراد طاعة الله عزّ وجلّ، وامتثال أمره، والتوجه حيثما وجّه، واتباع ما شرع، فهؤلاء العباد المكلفون: عباده والكون بجهاته وكلّ ما فيه: كلّه سبحانه وتعالى؛ وذلكم هو البرّ والتقوى والإيمان الكامل، وليست القضية قضية توجهٍ إلى جهة من الجهات مبتورٍ عن أمر الله تعالى.

 

والذي يستوقف الناقد البصير: أنّ الآية تجاوزت ظاهر التوجه إلى جهة من الجهات، لتعطي التعريف الكامل للبرّ بسعته وشموله ميادين حركة الإنسان وبناء المجتمع. وكان هذا التعريف من الوضوح بحيث أُبعد التوجه الذي لا يرتبط بأمر الله عن ان يكون هو البرّ وذكم ما أعلنه قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، ثمّ جاء البيان الواضح الشافي للبرّ وكثير من ميادينه فقال جلّ وعلا: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فالبرُّ برٌّ من استوفى هذه الكلمات في العقيدة والأخلاق والسلوك.

      البناء.. وسبب نزول آية البر:  

تشبيه رسول الله (ص) المؤمن بالنخلة من حيث تعدد وجوه العطاء وكونُه العطاء الخير النافع هذا التشبيه نقلنا في ظلِّ المعلم القرآني الذي مثَّل الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة.. إلى آية البرّ وهي الآية السابعة والسبعون بعد المائة من سورة البقرة. وقد علمنا أنّ هذه الآية الجامعة نزلت بياناً لحكمة الله تعالى في أمر المسلمين بالتحوّل عن التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة والتوجه شطر المسجد الحرام، بعد أن ظل رسول الله والمسلمون يتوجهون إلى بيت المقدس – بأمر الله – بضعة عشر شهراً.

 

والإجمال الذي ألمحنا إليه في معنى الآية خلال كلمات سلفت: لا يغني عن التنبيه على ما يزيدنا صلة بها، ولا سيما إذا نظرنا إليها من خلال الواقع، تصحبنا واحدة من البدهيات عند المنصفين، عمادها أن تبين الطريق في ضوء معالم الكتاب العزيز، هو ما ينبغي أن يكون نقطة البدء، والمنطلق الحقيقي لسلامة البناء الذي تتطلّع إليه الأُمّة على صعيد الفرد والمجتمع.

 

فطائفة من أهل الكتاب – واليهود منهم بخاصة – بحكم وجودهم في المدينة المنورة، وما شاءت نفوسهم من الغل، وأصاب قلوبهم من الحقد على رسول الله (ص) والمسلمين: لما رأوا من انتصارات الدعوة الجديدة، في كلِّ الميادين.. هؤلاء الأناسي شرعوا يقولون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، والمهم أن يتوجه المصلي إلى جهة من الجهات ووجدوها فرصة سانحة للدّس ومحاولة إدخال الريبة على ضعفاء النفوس.

 

والتعرف إلى هذه النقطة التي كانت سبب نزول الآية وحجمها على مسيرة البناء، حين كان رسول الله (ص) ينشئ مجتمع المدينة إنشاءً يستوعب – في ظل دعوة الإسلام – كلّ مقومات المجتمع القوي النظيف.. أقول: التعرف إلى هذه النقطة يزيد من وضوح الرؤية اليوم في علاقة أمتنا باليهود؛ فما يشاهد من استخدامهم الدس والاصطياد في الماء العكر، سلاحاً من أسلحة المعركة في مواجهة الإسلام والمسلمين، وما يلاحظ أنّهم – في الغالب – وراء جراثيم الفكر القاتل من الشرق أو الغرب، ووراء الفتن العمياء هنا وهناك.. ما يلاحظ من ذلك كله – وغيره كثير – هو امتداد طبيعي كما يعطي المعلم القرآني لما كانوا يصنعونه في عصر النبوة يومذاك، ومهمة البناء اليوم، وهي تهدف إلى إرساء القواعد التي تمكن المجتمعات الإسلامية من الوقوف في وجه التحديات بقدرة ثقافية واجتماعية واقتصادية، وتعين على تنمية القدرة الذاتية للأُمّة كيما تحرر النفوس وما اغتصب من الأرض.. هذه المهمة الصعبة لابدّ أن يصحبها وضوح الرؤية الذي ألمحنا إليه بشأن اليهود ومن هم على شاكلتهم، وذلك قليل من كثير مما تعطيه آية البرّ من حيث سبب النزول والملابسات المحيطة بما حدث. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

      المصدر: كتاب القصص القرآني وعطاء الشباب

ارسال التعليق

Top