• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

وقفة تأمل لمحاسبة النفس

مصطفى مرتضى القزويني

وقفة تأمل لمحاسبة النفس
◄كلّ إنسان في الحياة يحمل معه ميزاناً حسّاساً في غاية الدقة، يفوق في دقته ميزان الصاغة وبائعي المجوهرات الثمينة والنادرة في العالم. هذا الميزان الحسّاس يطلق عليه القرآن الكريم اسم (النفس اللَّوامة). ولعظمة هذه النفس ومكانتها عند الباري جلّ وعلا فإنّ القرآن يقسم بها، في مطلع سورة القيامة حيث يقول: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ) (القيامة/ 1-3). لم يخلق الباري سبحانه وتعالى هذه النفس عبثاً.. بل خلقها لغاية عظمى وهدف كبير.. خلقها لكي يقيس الإنسان الأمور في الحياة بميزان دقيق وعقلاني بعيد عن العاطفة والتهور والتعصب، فإذا أخطأ الطريق وحاد عن الصواب، دق جرس الانذار ولامته هذه النفس وأعادته إلى جادة الصواب. وعندما ننظر إلى الحياة وإلى من حولنا، نجد التطرف الشديد والبون الشاسع بين نمطين من الرجال... فمثلا: أحدهم يجنح إلى التقيد الشديد والزهد في الحياة والتقوقع داخل البيت ومحاربة المجتمع والابتعاد عن كل ما يمت إلى الترفيه بصلة، وينسب ذلك كلّه للدين وهو لا يدري انّه يعطي صورة سيئة عن الدين الإسلامي. بينما نرى الثاني لا يبالي بالحلال والحرام ولا يأبه بالأموال والأرواح ويجعل الوصول إلى سلم الجاه والمال والشهرة وسائل للتضحية بالدين والقيم والخلق، وينسب ذلك كله أيضاً للدين ولا يحدث نفسه يوماً بأنّه على خطأ، بل يعتبر نفسه دائماً على مسلك الحق. لأنّ مصلحته دائماً تقتضي أن يسلك هذا المسلك. في حين انّنا نرى انّ الإسلام يعلمنا منهجاً لتقييم الآخرين ووضعهم في المكان المناسب لهم. ففي الحديث الشريف: "أحبب لأخيك ما تحبه لنفسك واكره له ما تكرهه لها". أي دائماً اجعل نفسك في مكان الطرف الذي تنتقده والإنسان الذي تخطأه والرجل الذي تكيل له الاتهامات وتعتبره ظالماً أو غاصباً أو دكتاتوراً، فإذا تمكنت من كبح جماح نفسك ولم تصبح مثله وتسلك الطريق الذي سلكه، فأنت إذا عظيم جدّاً تستحق الثناء والتقدير. في 90% من الحالات يعمل الإنسان حسب ما تمليه عليه مصلحته... لا حسب ما يمليه عليه الدين والالتزام الخلقي في المجتمع. وفي كثير من الأحيان يعرف الإنسان الحقيقة بوضوح ويعترف بها مع نفسه، لكنه يعمل خلافها... لأنّ مصلحته تقتضي ذلك. فتراه مثلاً، يسلك المسلك الفلاني وهو يعتقد خلافه ويعمل مع الجماعة الفلانية وينتمي إليها، ولو كان بيده معول لهدمها... وتراه يؤيد الشخص الفلاني ويتملق له ويصحح أعماله ولو كان بيده سكين لذبحه.. وهكذا... نادراً ما تجد ذلك الشخص الذي يعمل حسب مرضاة الله تعالى فيحب لله ويبغض لله ويعمل لله ويترك لله وينفق لله ويمسك لله... ونادر جدّاً ذلك الذي لا يراوغ ولا يهادن ولا ينافق ولا يتملق ولا يخاف ولا يأخذ بنظر الاعتبار مصلحته الشخصية. بل يراعي مصالح الدين والأُمّة والناس في قراراته وكلماته وأفعاله. وقليل جدّاً ذلك الذي يؤدي عملاً يرضي الله تعالى وقد يسخط الملايين من البشر... وطبيعي انّ الذي يرضي الله تعالى يرضي الأغلبية المؤمنة من الناس، لأنّ أوامر الله تعالى ونواهيه وارشاداته ليست شاذة وغريبة ومنكرة على المؤمنين، بل محبوبة إليهم فإذا أقدم الإنسان على عمل يرضي به فمن الطبيعي انّه يرضي القلة المؤمنة من الجماهير أيضاً. ومن هذا المنطلق يعتبر الإسلام العمل المخلص هو قمة الإيمان بالله تعالى. بل يعتبر انّ الدين والإسلام هو العمل الصالح وعندما سُئل الإمام عليّ بن طالب – عليهما السلام – عن معنى الإسلام تلخص إجابته في سطر واحد فيقول! "لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي: الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو الاقرار والاقرار هو الأداء والأداء هو العمل الصالح". إذا يلخص الإمام علي (ع) كلّ تعاليم الإسلام في كلمة واحدة (العمل الصالح) وهذا ما أكّدت عليه جميع رسالات السماء من لدن أبينا آدم حتى إلى آخر إمام من آل بيت محمد (ص). وفي هذا السياق يقسم الباري جلّ وعلا في كتابه انّ الإنسان لا يجني من حياته شيء ما لم يؤمن أوّلاً ويلتزم بالعمل الصالح ثانياً فيقول تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر). ولأنّ العمل الخالص لله تعالى هو قمة الإيمان ولا قمة بعدها... فإنّ المخلص في أعماله ينال درجة عظيمة ووساماً خالداً لا يناله أحد في الدنيا وهو: "من أخلص لله أربعين صباحاً، تفجرت ينابيع الحكمة في قلبه وجرت على لسانه". والحكمة هي أعلى درجات العلم والمعرفة وهو الخير الكثير كما جاء في القرآن الكريم: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة/ 269). فالخير الكثير من منطق القرآن ليس في الأموال الطائلة والكنوز والأحجار الكريمة والجاه والسمعة بل في الحكمة التي تأخذ بيد الإنسان وتهديه طريقه وتوصله إلى بوابة النجاح في الحياة. وأعود إلى حديثي الأوّل لأقول: على الإنسان أن يزن أعماله دائماً بميزان حسّاس ودقيق ليرى كيف يسير وإلى أين يتجه؟ وأنهي حديثي بحديث من رسول الله (ص) يقول فيه: "انّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وانّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". فإياك قارئي العزيز أن تغتر بمظاهر الحياة من حولك، وفكِّر طويلاً في حديث رسول الله (ص). وتحية مني إليك.   المصدر: مجلة الإيمان/ العددان 17 و18 لسنة 1414هـ

ارسال التعليق

Top