• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أثر الصلاة في النفس والمجتمع

أثر الصلاة في النفس والمجتمع

إنّ أهم الأمور التي تحققها الصلاة هي مسألة (الإيمان بالغيب) إيماناً متعدياً إلى كلِّ المشاعر (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) (البقرة/ 3).

والإيمان بالغيب نافذة الارتباط بالعالم المقدّس، وطريق الخلاص من أسر الحواس، والارتباط بتلك القوّة الكبرى الخالقة للعالم بكلِّ ما في ذلك الارتباط من عطاء.

وأوّل حلقة بل أهم حلقة في ذلك مسألة الإيمان بالله العظيم، ونفي كلّ قوّة مؤثِّرة سواه، وربط الكون وظواهره به تعالى فيردد المصلي في مقدّمة الصلاة وفي أثنائها الشهادة الإسلامية الكبرى (أشهد أن لا إله إلّا الله): شهادة تستدعي عبودية مطلقة له تعالى، واستعانة مطلقة خاصّة به (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الحمد/ 5)، وتنزيهاً له من كلّ شريك (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الأخلاص/ 1) (سبحان ربي العظيم وبحمده) شهادة تركز في النفس حاجتها الدائمة إلى هداية السماء في كلّ شؤون حياتها: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الحمد/ 6-7)، شهادة بخالق الكون العظيم الذي خلق الكون بمقتضى رحمته (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الحمد/ 1) الأمر الذي يحصر الحمد والشكر به تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الحمد/ 2-3).

كلّ هذا نجده في سورة مفروضة في كلّ صلاة فـ«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» وهي السورة التي عبّر عنها بأنّها خلاصة الكتاب وفاتحته والتعبير المجمل عن روحه، وقد حوت من المعاني الجليلة الشيء الكثير الكثير.

وقد جاء عن الإمام الرضا (ع) وقد سُئل عن سرّ وجوب سورة الحمد في كلّ صلاة أنّه قال: «لأنّه ليس شيء من القرآن والكلام جمع منه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد»[1].

ولذا فـ«كلّ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج»[2] أي منقوصة.

كما إنّنا نجد التنزيه الكامل لله تعالى في عبارة تتكرر في الصلاة وهي (سبحان الله) أو (سبحان ربي العظيم وبحمده) أو (سبحان ربي الأعلى وبحمده).

فقد روى هشام بن الحكم أنّه سأل الصادق (ع) عن (سبحان الله) فقال: أنفة الله[3]. وقد سُئل أمير المؤمنين عن معنى سبحان الله فقال: «كلمة رضيها الله تعالى لنفسه فأوصى بها»[4]. وبعد تنزيه الله تعالى وتركيز عبوديته؛ تركز الصلاة في المسلم الشهادة للنبيّ العظيم بأنّه رسول الله الصادق، وأنّه عبده الأمين. مركزة على نفي أي مطلق أمام الله في نفس الوقت الذي تقدّس فيه تلك الشخصية العظيمة وتذكر بحقوقها... وبعد الشهادة للنبيّ بالرسالة تأتي الصلاة على محمّد وآله لتشد المسلمين إلى هؤلاء القادة دائماً (عقائدياً وعاطفياً)، ولتذكّرهم بأنّ الصراط المستقيم يكمن في ذلك. وهكذا نجد أنّ النصوص الواردة في الصلاة يقرأها المصلي فتوحي له بإيحاءات رائعة:

* توحي له بلزوم تجسيد مضمونها في واقعه.

* توحي له بأنّه لا يلهج إلّا بكلام الله، ولا ينظر إلى الكون إلّا بمنظار القرآن الكريم، كما قال أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة: «كتاب الله تنطقون به وتسمعون به وتبصرون به».

* توحي له بأن يجب أن يستمدَّ دائماً من الله، وأنّ عليه دائماً أن ينضبط بأوامر الله، وأن يصوغ حياته وفق رضاه وصراطه المستقيم، الذي يتميز عن صراط المغضوب عليهم وصراط الضالين. لأنّه صراط يرضاه الله، ولأنّه صراط الوعي والإيمان الحيّ.

* توحي بالارتباط الكامل والعهد الوثيق الذي يعطيه المؤمنون بعضهم لبعض على أن يدفعوا مسيرة الإيمان إلى الأمام، وذلك يبدو أيضاً عندما ينطق المصلي بعبارة (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، نعم كلّ عباد الله على امتدادهم العرضي والطولي لأنّهم يشتركون معه في هدفه الكبير.

هذه بعض الموحيات والمعطيات التي توحي بها الألفاظ الصلاتية فتركّزها ـ بتكرار الصلاة ـ في النفوس، وتجسّد عقيدة الإنسان وعهده بالالتزام بها والقيام بمقتضياتها.

ولكن هذه الألفاظ تكتسب لها سنداً حسياً مؤثّراً بشكل بارز وهو الأعمال الصلاتية، لتؤكّد بذلك وحدة الروح والجسد، المعنى والظاهر، التفكير والحس، فيرفع المصلي يديه للصلاة ـ واقفاً بخشوع في مفتتح الصلاة ـ ثم هو يكرر هذا عند كلّ نقلة من حالة إلى أُخرى ليؤكّد الوعي من جهة، ولأنّه ضرب من التبتل من جهة أُخرى.

روي عن الإمام الرضا (ع) قوله: «إنما تُرفع اليدان لأنّ رفع اليدين ضرب من الابتهال والتبتل والتضرع، ولأنّ في رفع اليدين إحضار النية وإقبال القلب».[5]

ويركع الإنسان ويسجد على الأرض مسبّحاً لله ليمنح اللفظ إطاراً مؤثّراً، ويعطي النفس إيحاءً فعّالاً بضعتها أمام الله وعلوها في نفس الوقت على كلّ المطلقات الوهمية. يقول الإمام (ع): «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه وهو ساجد».

ثم يجلس متشهداً جلسة الاحترام والتبجيل وينهض قائلاً: (بحول الله وقوته أقوم وأقعد).

والملاحظ في حالات الصلاة أنّها تستوعب مختلف حالات الفرد النشط، وهي تعبّر بذلك عن لزوم إسراء مداليل الصلاة إلى كلّ حالات الإنسان بحيث لا يقوم ولا يقعد ولا يركع ولا يسجد إلّا وهو واعٍ لأنّه يقوم بذلك بحول منه تعالى وقوّة. وهذا يجره إلى لزوم الشكر والحمد المتواصل الذي تتكرر مواضعه في الصلاة ليتقرر في نفسه كحقيقة، وفي عمله كروح. كما إنّ في رفع اليدين إلى الدعاء في القنوت تعبيراً جميلاً عن الاحتياج الشديد إليه تعالى، وتركيزاً لمفهوم (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60).

وبعد ملاحظة الأقوال والأفعال يأتي دور ملاحظة الشروط المعتبرة في الصلاة لتضيف إلى معطيات الأقوال والأفعال معطيات أُخرى تؤكّدها وتفصّل مقتضياتها. وأوّل ما يبدو فيها مسألة (اشتراط الطهارة) فإنّ شرط قصد القربة في الوضوء أو الغُسل أو التيمم، ثم اشتراط الصلاة بالطهارة، ثمّ كون الصلاة عملية تطهير من الشرك يحقّق انسجاماً رائعاً بين الحس والمعنى من جهة، ويؤكّد للإنسان عملية تطهير النفس عند الوقوف المتكرر المتواصل أمام الله العظيم. وهكذا ينغرس في أعماقه أنّ الذنوب دنس ورجس، وتربّى نفسه على أن تنظر إليها على أنّها انحراف عن الطبيعة والقاعدة الإنسانية؛ فيجد أكبر الصعوبة النفسية لو أراد أن ينحرف. ولعلّه من هنا وُصفت الصلاة بأنّها (تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45).

أمّا التوقيت: المعتبر في كلّ صلاة فهو يؤدي دوره المرسوم له. فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (الإسراء/ 78)، وجاء فيه (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة/ 238)، والملاحظ في الآية الاولى أنّ ربطها التوقيت بالظواهر الزمانية الكبرى في حياة الإنسان؛ وهي (دلوك الشمس ـ أي زوالها ـ وغسق الليل -، والفجر) والتركيز عليها يوحي بأنّ للتوقيت معطى التذكير بنِعَم الله في هذه الظواهر ـ أوّلاً ـ وما أعظم تلك النِّعَم الكامنة في الشمس والليل والفجر، ثمّ مُعطى الالتزام ببرنامج خاص في الحياة يوافق الالتزام ببرنامج الصلاة الخاص. هذا بالإضافة إلى الغرض الأصيل من الصلاة وهو تركيز الإيمان بالله خالق الكون عن طريق الوقوف بخشوع أمامة عند مواجهة حالة تبدل كوني هائل.

ويأتي بعد هذا دور الحديث عن التوجة للقبلة وهو مجال مفصل نكتفي منه بالإشارة إلى أنّ المسلمين أُمروا في وقت واحد ـ عرفياً وإن لم يكن واحداً علمياً ـ لأن يتوجهوا في شتّى أماكنهم إلى مكان واحد بالضبط. وذلك المكان يمثّل مركز وحدة الأرض كلّها، ومركز الاتصال بعالم الغيب، ومنطلق مسار الأنبياء الذي هو أفضل مسار للبشرية؛ ثم ليقوموا بأعمال واحدة، ولينطقوا بلفظة واحدة كلاماً واحداً.

إنّ هذا ليصوّر للإنسان المسلم ـ وخصوصاً إذا كان في صلاة جماعة ـ أنّ الأرض كلّها تتوجّه إلى البيت العتيق. فإذا لم يتوجّه قطاع معين فذلك لأنّه منحرف وعليه هو كمسلم أن يعمل على إرجاعه إلى الوضع الطبيعي وهو الاتجاه إلى الكعبة الشريفة. كما إنّ تلك الوحدة تركّز في حس الإنسان كلّ تلك المعاني التي يعبّر عنها البيت، وتشدّه حسياً إليه كما شدّته عقائدياً وعاطفياً إليه من قبل.

وأخيراً فإنّ هذا التوجّه الواحد يمنح الشخصية الإسلامية صفة تميّزها عن الشخصيات الدينية الأخرى. هذا وتتشابك معطيات الصلاة مع معطيات الحج أثناء القيام بتلك العبادة الجمة الفوائد.

وهكذا نستطيع أن نلحظ بوضوح الحِكَمَ المتوخاة من اشتراط الصلاة في المكان المُباح، واللباس المُباح، وكذلك من اشتراط عدم لبس الرجل للذهب والحرير باعتبارها لا ينسجمان والجدية التي هي إحدى مقومات الرجولة وغير ذلك كثير.

 

الهوامش

[1]- الوسائل، ج 2، ص 733.

[2]- نفس المصدر.

[3]- الكافي، ج1، ص118.  

[4]- تاج العروس، مادّة سبح.

[5] - الوسائل، ج4، ص727.

تعليقات

  • عبيدة

    بارك الله فيك، وزادك علماً.

ارسال التعليق

Top