• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حاجتنا إلى التفسير القرآني

السيد محمد علي السيد عبدالرؤوف

حاجتنا إلى التفسير القرآني

  إنّ القرآن هو كتاب الله وكلماته التي أنزلها من خلال الوحي، لهداية الإنسان والأخذ بيده في الطريق الأقوم.. السليم من أيّ عوج.. الذي ينتهي به لسعادة الدنيا والآخرة.. (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9).

حفظ القرآن من التحريف: ونظراً لأهمية القرآن فقد تعهّد الله بحفظه من الضياع والتحريف: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9). وهذه الحقيقة تخالف ما ذهب إليه قلّة من المسلمين – سُنّةً وشيعةً – من القول بتحريف القرآن، زيادة أو نقصاناً، استناداً إلى روايات منسوبة إلى رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) وبعض الصحابة.. تتحدث عن أنّ ما بين أيدينا من القرآن ناقص ومُحرّف وأنّه يُعادل ثلث ما نزل به الوحي، وأنّه قد حُذفت منه بعض آيات الأحكام وغيرها!   - حول رأي الشيعة الإمامية: فقد ورد في بعض الروايات عن أهل البيت (ع) الحديث عن مصحف فاطمة (ع)، كما في الكافي ج1-239: "عن أبي بصير عن الإمام الصادق (ع) قال: ... وإنّ عندنا لمصحف فاطمة (ع).. وما يُدريهم ما مصحف فاطمة (ع)؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة (ع)؟ قال (ع): مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات..." مما يوحي للوهلة الأولى بأنّه قرآن جديد يختلف عمّا بأيدينا من القرآن. ولكن المصحف المذكور لا يُمثّل سوى أحاديث برواية فاطمة (ع)، كما يُستفاد من روايات أخرى في نفس الباب.. وهو – أي هذا المصحف – محمول على أنّه بيان وتفسير للقرآن الكريم. والجدير بالذكر أن كتاب الأحاديث هذا لا وجود له اليوم. وبالعودة إلى آراء الكثرة الساحقة من علماء الشيعة الإمامية، نلاحظ أنّها تتبنى القول بسلامة القرآن من التحريف. كرأي رئيس المحدّثين الشيخ الصدوق، وشيخ الطائفة الطوسي من خلال مقدمة تفسير التبيان.. وهو ينقل ذلك عن شيخه الشريف المرتضى، وكما عن الطبرسي في مقدمة مجمع البيان، وكما عن الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه كشف الغطاء.. حيث يذكر إجماع الشيعة على ذلك، وكما عن الشيخ البلاغي في مقدمة تفسيره آلاء الرحمن.. وغيرهم الكثير من أعلام الطائفة ومحدّثيها.. والإمام الخوئي يعطينا صورة عن ذلك في تفسير البيان/ ص138: (إنّ المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف.. نعم ذهب جماعة من المحدّثين من الشيعة وجمع من علماء أهل السُّنّة إلى وقوع التحريف).   - حول رأي أهل السنة: وعندما نعود إلى المسلمين من أهل السنة.. نجد أن أكثرهم يقرّ بسلامة الكتاب من التحريف كما تذكر كتب محدثيهم وعلمائهم.. على الرغم من وجود العديد من الأخبار القائلة بنقص القرآن.. كما يروي الطبراني في الاتقان ج1 ص121 بسند موثق عن عمر بن الخطاب مرفوعاً (القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف) بينما الموجود منه لدينا أقل من ثلث هذا القدر. وكما يروي في ج2 ص40 عن نافع أن ابن عمر قال (ليقولن أحد إليّ أخذت القرآن كله وما يدريه ما كلّه..؟ قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل أخذت منه ما ظهر). وكما يروي في نفس الموقع عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: (كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي مائتي آية.. فلما كتب عثمان المصاحف لم نقفُ منها إلا ما هو الآن). ويروي عمرة عن عائشة كما في صحيح مسلم ج4 ص167 أنها قالت: (كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن.. ثمّ نُسخن بخمس معلومات.. فتوفّي رسول الله (ص) وهنّ فيما يُقرأ من القرآن). ولعل المتتبع للموضوع يلاحظ في كتب الفريقين من المسلمين الكثير الكثير من أمثال هذه الأحاديث التي رفضها المسلمون أو رفضوا الأخذ بظواهرها.. انطلاقاً من قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر/ 9)، وقوله: (.. وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت/ 41-42)، فالتحريف من الباطل.. والمفروض أنّ الآية تقرر أنّه لا يأتيه الباطل.   - القرآن عربي الصياغة – يفهمه العربي بلا وساطة: وقد أنزل هذا الكتاب السماوي في الجزيرة العربية على النبي العربي مما يفرض نزوله بلغة العرب.. بأسلوبها وتعبيراتها البيانية.. بحقيقتها ومجازاتها ومختلف طرائقها.. وهذا ما تحدده الكثير من الآيات الواردة في هذا المضمار.. مثلاً: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت/ 3)، (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف/ 3). ومن الطبيعي حين أنزل الكتاب عربياً أن يكون في طاقة كل من يملك القدرة على فهم واستيعاب مفردات وتراكيب اللغة وأساليبها التعبيرية.. أن يفهم المعاني التي يطرحها القرآن في أي جانب من الجوانب الفكرية والعملية.. فالقرآن لم ينزل بلغة لا نفهمها ولا نستوعب معانيها.. ولم يكن كتاب رموز وألغاز.. يحتاج الإنسان في فهم كلماته وتحليلها.. إلى مقدمات وشروح طويلة وشاقة كما قد يصوِّر الكثيرون، بل هو كتاب أنزل للإنسان العادي بهدف إقامة الحجة عليه، وطرح الضرورات الفكرية الإيمانية، وما عليه أن ينطلق منه، في الحياة. وانطلاقاً من هذا الواقع نرى أن من يستمع إلى القرآن، يستوعب معانيه وأفكاره بدون توقف في أكثر الحالات، فيؤمن أو يجحد، من خلال هذا الفهم والاستيعاب، وإلا لاحتج واستوضح المراد.. مما لم يُعهَد إلا في بعض الجوانب من إيضاح لبعض المجملات والخصوصيات وما يتعلق بالتفصيلات. ومن هنا كان القرآن حجةً قائمة على كل من يُلقى عليه.. ولأوّل مرّة لا مجال لرفضها منطقياً وموضوعياً.. لدى من يفهم اللغة ومعانيها ورموزها.. علماً أنّ الأُمة بشكل عام كانت تملك سلامة الفهم وقدرة الاستيعاب لكل ما يصدر من مفردات وتراكيب وحقيقة ومجاز وغير ذلك. إنما بعد أن ابتعد العربي عن سلامة التعبير وأصول اللغة.. بسبب اختلاطه الواسع بأصحاب اللغات الأخرى.. وبعد أن كان فهم بعض المعاني يحتاج إلى إلمام بعض العلوم من عربية وفلسفية وعلمية.. وتاريخية وقواعد أخلاقية وما إلى ذلك، كان لابدّ لفهم القرآن من اللجوء إلى علم التفسير لايضاح بعض مقاصده وأسراره متشابهاته.. على النحو المتلقَّى عن رسول الله (ص) وأهل بيته الأطهار (ع) وعلماء الأُمّة الذين درسوا القرآن وأخذوه من الراسخين في العلم. وهنا لابدّ من الوقوف أمام الآية 7 من سورة آل عمران، التي تحدثنا عن القرآن وآياته التي هي على نوعين: المحكم والمتشابه.. حيث تقول: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ) (آل عمران/ 7). فمن خلال الملامح التي تطرحها الآية، لآيات القرآن.. نستوحي الحاجة والضرورة لتفسيره.. وإيضاح معانيه.. تمييزاً للآيات المحكمة [التي تمثل وضوح الصورة والمقصد والهدف بمجرد النظر إليها أو سماعها.. دون أي دليل أو قرينة للدلالة على الفكرة التي تتضمنها.. كما في قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 1-2)، وكما في الكثير من الآيات الواضحة المعنى.. وهي الآيات التي سميت بأم الكتاب – أي أصله – لابتنائها أساساً على وضوح التعبير.. دون حاجة إلى تأمل واستدلال].. عن الآيات المتشابهة.. التي لابدّ لفهم معانيها ومداليلها من إسهام القرينة والدليل والشاهد في بيان المقصد.. انطلاقاً من احتمالها لعدة معانٍ.. يمكن لذوي القصد السيء.. والانحراف الفكري.. استغلال بعض احتمالات لتشويه المفاهيم.. والفكرة التي يريد القرآن طرحها.. وذلك كما في قوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح/ 10)، التي يمكن حملها على اعطاء صورة التجسيم لله سبحانه.. وأنّ له يداً ورجلاً وعيناً وجوارح كالإنسان.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!. وهذا ما استوجب نزوع البعض – من خلال انحرافه الفكري أو سوء قصده – إلى الإيمان بالتجسيم.. كما هو المطروح لدى بعض أهل الظاهر من المسلمين.. مع وجوب حملها على اليد المعنوية التي تمثل القوة الإلهية. من هنا كان من الضروري أن نلجأ في دراسة القرآن إلى التفسر لوضع المسلم بالخصوص والإنسان بشكل عام.. أمام المفاهيم الصحيحة التي يهدف القرآن لطرحها من خلال آياته.. كيلا يضيع القارئ والسامع.. في المتاهات الفكرية والعقائدية والتشريعية التي يلقيها أهل الزيغ والفتنة.. ولعل الدافع الرئيس لتناولنا لهذا الموضوع هو الإسهام في إيجاد الوعي الرسالي، لدى القراء، في جوانبه الفكرية والروحية من خلال الانفتاح على كتاب الله عزّ وجلّ. فالمطلوب أساساً، هو عملية تيسير عرض المعاني القرآنية للمسلمين وغيرهم.. بطرح مفهوم قرآني من خلال سورة أو آيات.. ضمن كل عدد، بحيث يمكن للقارئ الإلمام بالثقافة القرآنية.. التي تمثل المصدر الرئيس للفكر الرسالي الإسلامي، على صعيد العقيدة والتشريع..   - ضرورة الإرتباط بالقرآن: والقرآن باعتباره المصدر المعصوم الثابت من مصادر الفكر الإسلامي، يمثّل المقياس في العديد من الحالات التي يتطرق فيها الشك إلى الرواية والحديث.. لا سيما حينما تتعارض الروايات في دلالاتها.. ممّا يفرض القطع بزيف إحداها.. فقد ورد عن رسول الله (ص): (إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه.. وما عارضه فاضربوا به عرض الحائط...) كما ثبت في الحديث برواية أهل البيت (ع) "ما خالف كتاب الله فهو زخرف". ومن هنا كان تركيز الإسلام الكبير على الاهتمام بالقرآن قراءةً وحفظاً وتدبراً ودراسة.. وفهماً ليكون الفكر قرآنياً.. والخُلُق قرآنياً.. والسياسة والاقتصاد، والتحرك في كلّ المجالات كذلك. وهذا ما نلاحظ التأكيد عليه في العديد من الآيات، مثل: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (المزمل/ 20)، (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف/ 204)، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24). ونلاحظ ذلك أيضاً في الأحاديث المأثورة، مثل: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها" أو "عليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنة على عدد آيات القرآن.. فإذا كان يوم القيامة يُقال لقارئ القرآن: إقرأ وارقَ.. فكلما قرأ آية رقى درجة".   - كيف نتعامل مع القرآن؟ فالقرآن إذن، هو الذي يحدد للإنسان طريقة التحرك والسير في حياته.. وهذا ما طبّقه المسلمون الأوائل.. فقد ورد عن أبي عبدالرحمن السَلَمي: "حدّثنا من كان يقرئنا عن الصحابة أنّهم كانوا يأخذون عن رسول الله (ص) عشر آيات.. فلا يأخذون في العشر الأخرى، حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل". لذلك فإنّ علينا أن نتفاعل مع القرآن على هذا الأساس فلا نجعله مجرّد كتاب للزينة والبركة، فنزيّن به وبآياته المواقع والصالونات، ولا نكتفي بقراءته في مجالس الفواتح وذكريات الموتى بحيث يغدو صوت القرآن – دليلاً على تحقق حالة موت.. فنستمع إليه أو نقرأه في مثل هذه الحالات للأسف دون أن يُثير فينا روح التأمّل والتفكير. على ضوء ذلك كله نتفهم الحاجة الماسّة إلى الدراسات القرآنية والتفسير من أجل بناء حياتنا على النسق القرآني.. فهذه الدراسات هي التي تُمهد السبيل أمام المسلمين لفهم القرآن وحمل معانيه واستيعاب طروحاته العقائدية الفكرية والعملية فيكونون قرآنيين في كل حياتهم وقضاياهم.   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العدد الأول لسنة 1988م

ارسال التعليق

Top