• ١٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٥ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

شخصية النبي محمد (ص) مصدر عزة وفخر

شخصية النبي محمد (ص) مصدر عزة وفخر
◄اتفق المؤرخون على أنّ محمداً (ص) أصبح في مطلع شبابه موضع احترام في مجتمعه، لِمَا كان يمتلكه في شخصيته من وعي، وحكمة، وإخلاص، وبُعد نظر.

وقد اشتهر بسمو الأخلاق، وكرم النفس، والصدق والأمانة حتى عُرف بين قومه بالصادق الأمين، كما اشتهر برجاحة عقله، وصواب رأيه حتى وَجَدَ فيه المكّيون والقرشيون سيّداً من سادات العرب الموهوبين، ومرجعاً إليهم في المهمات وحلِّ المشكلات والخصومات.

فقد ذكر المؤرخون: انّ الناس كانوا يتحاكمون إلى النبيّ (ص) في الجاهلية، لأنّه كان لا يداري ولا يماري.

وكان النبي (ص) يسهم في بعض أحداث مجتمعه، وفي تجارب قريش السياسية والعسكرية والدينية، حيثما رأى في هذه التجارب حقاً وعدلاً، وقد شارك بشكل فاعل ومؤثر في حدثين تاريخيين حصلا قبل البعثة هما: حلف الفضول، وتجديد بناء الكعبة.

 

حلف الفضول:

بعد سلسلة من حوادث الاعتداء على أموال وأعراض بعض الوافدين إلى مكة في موسم الحج للزيارة أو التجارة، دعا الزبير بن عبدالمطلب إلى إقامة تحالف بين قبائل قريش بهدف: مواجهة كلّ من يعتدي على الآخرين، ووضع حدٍ لغطرسة بعض المكّيين الذين كانوا يتعمدون الإساءة ويقومون بالاعتداء على الزائرين.

فاستجاب لدعوته بنو هاشم، وبنو عبدالمطلب، وبنو أسد وغيرهم، وعقدوا اجتماعاً في دار عبدالله بن جدعان تحالفوا فيه على محاربة الظلم والفساد والانتصار للمظلوم والدفاع عن الحقِّ، وكان هذا التحالف أشرف تحالف يعقد في الجاهلية وقد سمي بحلف الفضول، لأنّ قريشاً قالت بعد إبرامه: هذا فضول من الحلف، وقيل: لأنّ ثلاثة ممن اشتركوا فيه كانوا يُعرفون باسم الفضل، وهم: الفضل بن مشاعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة، فسمي بذلك تغليباً لأسماء هؤلاء. تبنّى أبو طالب وغيره من القرشيين الحلف المذكور، وقد حضره النبي (ص) وشارك فيه وكان يتجاوز العشرين من عمره الشريف وأثنى عليه بعد نبوته وامضاه، فقد رُوي أنّه قال (ص): "لقد حضرت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما يسرني به حمر النعم، ولو دعيت إلى مثله لأجبت".

إنّ نظرة تحليلية بسيطة على هذا الحلف تقودنا إلى تسجيل الأمور التالية:

أوّلاً: إنّ ثناء النبي (ص) على هذا الحلف، ومشاركته فيه، وامضاءه له، يدل على أنّ هذا الحلف ينسجم في أهدافه مع أهداف الإسلام، لأنّه قائم على أساس الحقِّ والعدل والخير.

ثانياً: إنّ النبي (ص) يمتدح هذا الحلف ويثني عليه مع أنّ الذين قاموا به كانوا وقتها على الشرك والكفر، ولكنه يهدم مسجد الضرار مع أنّ الذين بنوه كانوا وقتها يتظاهرون بالإسلام ويتعاملون على أساسه بحسب الظاهر.

وهذا يؤكد واقعية الإسلام، وأنّه إنما ينظر إلى مضمون العمل وقيمته وليس إلى شكله وصورته، فالإسلام لا يغتر بالمظاهر، ولا تخدعه الشعارات مهما كانت برّاقة إذا كانت تخفي وراءها الوصولية والخيانة والتامر، فالحقّ حقّ، ومقبول، ولابدّ من الالتزام به والتعامل على أساسه، ولو صدر من مشرك، والباطل باطل، ومرفوض، ولا يجوز الالتزام به ولا التعامل معه مهما كانت شعاراته وعناوينه برّاقة ومغرية.

ثالثاً: إنّ اهتمام النبي (ص) بحلف الفضول إنما يدل على أنّ الإسلام ليس منغلقاً على نفسه، وإنما هو يستجيب لكلِّ عمل إيجابي فيه خير الإنسان، ويشارك فيه على أعلى المستويات، انطلاقاً من الشعور بالمسؤولية، وانسجاماً مع أهدافه لكبرى، ومع المقتضيات الفطرية والعقل السليم.

رابعاً: إنّ موقف النبي (ص) من هذا الحلف ليس إلّا من أجل تحريك المشاعر وإيقاظ الضمائر للتحالف والتكتل في وجه الظلم والعدوان، والتعاون على الخير والإحسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلِّ عصر وزمان، وخاصة إذا انحرف الحاكم واتبع أهواءه واستغل أموال الناس وخيرات البلاد والعباد لمصالحه وأطماعه الذاتية.

 

تجديد بناء الكعبة:

أوّل من بنى الكعبة آدم (ع)، ثمّ انهدم البناء فكان إبراهيم (ع) أوّل من رفع قواعده من جديد وأبان إعلامه وذلك بأمر من الله ليكون مركزاً للتوحيد والعبادة، وذلك بعد أن هاجر إبراهيم بزوجته هاجر وولده إسماعيل إلى أرض مكة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 127).

ومن المعلوم أنّ بناء الكعبة تضَمَّن حجراً أسود قيل: إنّ إبراهيم أخذه من جبل أبي قبيس في مكة ووضعه في مكانه، وقيل: إنّه نزل به جبرائيل من الجنة.

وقد ظلت الكعبة، معبداً للعرب على مرِّ السنين يحجّون إليها ويتعاهدونها بالبناء والترميم كلما دعت الحاجة.

وقيل إنّها تهدمت بعد أن مرت عليها القرون الطويلة، فأعاد العمالقة بناءها ثمّ تهدمت بعد ذلك، فبنتها جرهم وأصبحت في ولايتهم.

ويقول بعض المؤرخين: إنّ جرهم بغت واستحلّت المحارم فأبادها الله، وانتقلت ولاية الكعبة من بعدها إلى خزاعة، ثمّ من بعدهم إلى قريش.

في أثناء ولاية قريش عليها وقبل النبوة بخمس سنوات أو أكثر تم هدمها وتجديد بنائها.

وتذكر روايتين في سبب ذلك:

الأولى: إنها تصدعت من آثار السيول.

الثانية: إنّ امرأة كانت تبخرها فتطايرت شرارة إلى ثوب الكعبة فاحترق، واحترق بابها والأخشاب التي كانت بها.

آثر ذلك اجتمعت قريش وقررت هدمها وتجديد بنائها ورصدوا لذلك نفقة طيبة، ليس فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة مما أخذوه غصباً، أو قطعوا به رحماً، أو انتهكوا فيه حرمة وذمة.

ويقول المؤرخون: إنّ قريشاً وزعت الهدم والبناء على القبائل، فكان لكلِّ قبيلة جهة معينة، وكان الوليد بن المغيرة أوّل من بادر إلى هدمها بعد أن تهيب غيره من فعل ذلك.

وهكذا بدأت كلّ قبيلة تجمع الحجارة وتبني الجهة المعينة لها حسب الخطة. ويقال: إنّ النبيّ (ص) شارك في جمع الحجارة.

ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يرفع الحجر إلى موضعه، وأصبحت كلّ قبيلة تريد هي أن تنال شرف رفعه إلى موضعه، لأنّهم كانوا يرون أنّ من يضع الحجر في مكانه تكون له السيادة والزعامة.

وكاد الأمر يؤدي بهم إلى فتنة كبيرة حيث استعدوا للقتال، وانضم كلّ حليف إلى حليفه، حتى أنّ بعض القبائل تحالفوا على الموت وغمسوا أيديهم في الدم فسموا لعقة الدم.

ولما وصلوا إلى هذا الحد الخطير اقترح عليهم أبو أمية بن المغيرة والد أُم سلمة زوجة النبي (ص) أن يُحكِّموا في هذا النزاع أوّل داخل عليهم، فكان محمّد بن عبدالله أوّل الوافدين، فلما رأوه استبشروا بقدومه وقالوا: لقد جاءكم الصادق الأمين، أو هذا الأمين قد رضينا به حكماً.

فطلب منهم النبيّ (ص) أن يحضروا له ثوباً فأتوا له بثوب كبير، فأخذ الحجر ووضعه فيه بيده، ثمّ التفت إلى شيوخهم وقال: "لتأخذ كلّ قبيلة بطرف من الثوب ثمّ ارفعوه جميعاً" فاستحسنوا ذلك ووجدوا فيه حلاً يحفظ حقوق الجميع، ولا يعطي لأحد امتيازاً على الآخر، ففعلوا ما أمرهم به، فلما أصبح الحجر بمحاذاة الموضع المخصص له، أخذه رسول الله بيده الكريمة ووضعه مكانه.

إنّ التأمل في وقائع هذه الحادثة يجعلنا نخلص إلى النتائج التالية:

الأولى: إنّ اشتراط قريش أن تكون نفقة الكعبة طيبة لا ربا ولا غصب فيها ولا مظلمة لأحد... إن دلّ على شيء فإنما يدل على شعور حقيقي بقبح هذه الأمور وعدم رضا الله والوجدان بها، وقد يفسر ذلك أيضاً باقتضاء الفطرة لذلك، وحكم العقل بقبحه.

الثانية: إنّ ما تقدم يدل على أنّ أهل مكة كانوا يتعاملون بالمنطق القبلي حتى في تعاونهم على بناء البيت وحمل الحجارة له، وهو أقدس مقدساتهم ورمز عزهم ومجدهم وكرامتهم، بل وعليه تقوم حياتهم، وإنّ تحالف لعقة الدم حينما اختلفوا فيمن يرفع الحجر إلى موضعه، يعتبر الذروة في هذا المنطق الجاهلي الذي يأباه الوعي الإنساني وتنبو عنه الفطرة، ويرفضه العقل السليم.

الثالثة: إنّ فرح قريش حينما رأوا النبي أوّل داخل عليهم، ثمّ وصفهم له بأنّه "الصادق الأمين" يكشف عن المكانة الاجتماعية الخاصة التي كان يحتلها النبي (ص) في نفوس الناس في مكة، حتى انّهم كانوا يحكمونه في كثير مما كان يقع الخلاف فيه بينهم، ويضعون كلّ ثقتهم به، وبعقله ووعيه وحكمته.

 

المصدر: كتاب دروس من سيرة الرسول الأكرم (ص)

ارسال التعليق

Top