• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حب الله في المجتمع الإسلامي

د. علي السيِّد سليمان

حب الله في المجتمع الإسلامي

تقرر العقيدة الإسلامية بأنّ الله ليس كمثله شيء (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى/ 11) ومن البديهي أن لا يستطيع عقل الإنسان القاصر أن يعرف من ليس كمثله شيء. هذه المعرفة لله تبدو مستحيلة، ويتضح استحالتها في حقّ الكائنات جميعاً. يقول الإمام الجنيد: "لا يعرف الله تعالى إلّا الله تعالى" أي أنّ المعرفة الحقيقية التامة لا تكون إلّا لله تعالى. ويتفق في هذا الرأي الإمام الغزالي، وكذلك تنتهي معرفة العارفين بالله إلى عجزهم عن المعرفة. وإذا كانت المعرفة الحقيقية لله مستحيلة على البشر فإنّه لا يبقى أمامنا إلّا المعرفة النسبية وهي معرفة أسمائه سبحانه وتعالى ومعرفة عجائب صنعه في الكون. لقد خلق الله الخلق ليعبدوه، والعبادة هي قمة المحبّة والمحبّة هي قمة المعرفة. والحبّ في الإسلام هو القانون الحاكم في الوجود، وعطاه الله هو سبب ميلاد الكون والإنسان، وقد خلقنا الله ليتفضّل علينا بحبّه، وليسمح لنا بحبّه. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (المائدة/ 54) وهنا كما هو واضح يتوعد الله مَن يرتد عن دينه وهذا هو أفدح الذنوب، يتوعده بأرقى ما في الوجود من مشاعر الحبّ، لا يهدد بالنار والعذاب، وإنما يهدده بأن يستبدل به قوماً يحبّهم ويحبّونه.. إنّ القيمة الوحيدة التي تقف على النقيض من الشرك بالله وعدم الإيمان به هي قيمة حبّ الله.

إنّ قانون الحبّ الأعلى هو العطاء. (وإذا كان الحبّ عطاء فإنّ الله وحده هو المعطي.. فهو يعطي عباده كلّ شيء، أمّا العبد فإنّه لا يستطيع أن يعطي شيئاً، إذا أنفق الإنسان من ماله في سبيل الله فإنّه لا يعطي الله شيئاً لأنّ المال مال الله، وإذا استشهد في سبيل الله فإنّ الجسد والروح ملك خالص لله، ولا يمكن أن يقال لمن يرد الأمانة إلى الله المالك الأصلي أنّه يعطيه شيئاً) إذن فقانون العطاء لا يسري إلّا على الله فقط، وبالتالي فإنّ الله وحده هو المحبّ، ومن الوهم أن يتصوّر الإنسان غير المؤمن أنّه يحبّ الله، فالحقيقة أنّ الله هو الذي يحبّ الإنسان ويقبل منه الشكر بدلاً من العطاء، ويجعل الشكر سبباً في زيادة العطاء (وإذْ تَأذنَ رَبكمْ لئِن شَكَرتم لأزيدنَّكُم وَلئِن كَفَرتم إنَّ عذَابِي لَشديدٌ) (إبراهيم/ 7). إنّه لمن دواعي الرحمة بالإنسان أن يخفي الله سبحانه وتعالى حكمته عن البشر، لقد أعطاهم من الحكمة قدراً يمكنهم من الخلافة في الأرض، وأعطى الأنبياء قدراً يمكّنهم من الدعوة إليه، أمّا سر حكمته العظمى فقد أبقاه سرّاً لذاته، ومن الأفضل أن نسجد لله بدلاً من السؤال عن ذاته. ورغم هذه الحقيقة فإنّ الإنسان لا يكفّ عن الأسئلة سواء عن حكمة الله أو عن ذات الله. إنّ الأصل في العقيدة الإسلامية هو المعرفة والسؤال حقّ للإنسان، حقّ للإنسان أن يسأل عن كلّ شيء وعن أي شيء وأن يفكّر في كلّ شيء، وليس هناك أي منطقة محرمة إلّا منطقة واحدة وهو التفكير في ذات الله، وذلك لسبب بسيط وهو أنّ ذات الله تعالى تتجاوز طاقة العقل البشري وقدرة الفكر الإنساني، فكيف يدرك العقل القاصر حقيقة الإله الأزلي الكامل. أنّ الدليل في الإسلام على وجود الله هو الله ذاته. يقول الإمام الغزالي بعد تجربة الشك التي خاضها كمنهج لمعرفة الله، شككت في كلّ شيء، ولم أهتدِ إلى شيء وإذ بإيمان قذف الله به في صدري فآمنت واسترحت من الشك. الطريق إذن لمعرفة الله هو الله.. هو الإيمان فالعقل مخلوق لا يدل إلّا على مخلوق مثله. وليس معنى هذا كما يدعي الغربيون أنّ دين الإسلام هو دين إيمان وصبر وتأمّل فقط، فالعقيدة الإسلامية هي المسؤول الأوّل عن قيام المنهج التجريبي في دنيا المادّة، وهي المسؤول الأوّل على إطلاق عنان الفكر وحثّه على النظر والتأمّل والتفكير في الكون. أمّا ذات الله فهي ليست مادّة تخضع لتأمّل العقل وأسئلته. فالعقيدة الإسلامية باحترامها للعقل ومخاطبتها الدائمة للعقل، قد بيّنت للعقل أيضاً حدوده التي يتوقف عندها. ففي دنيا الغيب لا يلجأ المسلم إلى العقل وإنّما عليه أن يؤمن بالغيب وأن يصدق ما أتى به الرسول.

إنّ السؤال عن ذات الله هو سؤال خاطئ منذ البداية لأنّه يفترض خضوع الله لقوانين الحياة الإنسانية، وهي حياة تعرف بالمشاهدة والتجربة وينطبق عليها قانون الأشياء، ويتصوّر أصحاب هذا السؤال أنّ قانون الأشياء يمكن أن ينطبق على الله.. ولو تأمّلنا قليلاً لوجدنا أنّ لكلّ كائن قانونه الخاص الذي لا ينطبق على الكائنات الأخرى، وهذا يعني أنّ القانون البشري لا ينطبق على ذات الله. إذا كان الإنسان يولد وينمو ويتزوج ويلد فإنّ الله سبحانه وتعالى: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/ 3-4) "لم يتخذ صاحبة ولا ولدا" إذن فلا سبيل إلى معرفة الله إلّا الإيمان بالله.

لا تنكر العقيدة الإسلامية أن يستدل الإنسان نفسه وبالكون على وجود الله وإنما تدعو إليه، وهذا يؤكد احترام هذه العقيدة للعقل. وتوجد مستويات للاستدلال على وجود الله، فالنظرة التقليدية تبدأ من الكون والإنسان، أي تستدل من وجود الكون على وجود الله، أمّا النظرة الأعلى والأرقى فهي تجاوز الوجود إلى الموجد وتجاوز الكون إلى الله، أي أنّه تستدل بوجود الله على وجود الكون، وهكذا يفعل بعض المفكرين الإسلاميين، فمنهم مَن يعتقد أنّ الفكرة التقليدية في الاستدلال على وجود الله خطأ، ويعتقد أنّ الكون كان ظلمة أنار بظهور الحقّ فيه، فمَن رأى الكون ولم يشهد الله فيه أو عنده فقد حجبت عنه شموس المعارف، فكيف يتصوّر العقل أن يحجبه شيء وهو أساس كلّ شيء، كيف يحجبه شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء.." إلهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ شتان بين مَن يراه ويستدل به ومَن لا يراه فيستدل عليه". إنّ الكون نسبي له نهاية أمّا الله فهو أزلي مطلق، ونحن ندرك الكون بحواسنا، وقد تخدعنا الحواس، ولذلك فإنّها لا توصلنا إلى الحقيقة. قمة العقيدة الإسلامية إذن تكمن في معرفة الله بالله أي الإيمان (أَفي الله شَكٌ فَاطرِ السَّمواتِ وَالأرضِ) (إبراهيم/ 10) (شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لا إلهَ إِلاَّ هُوَ وَالملائِكةُ وأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالقِسطِ لا إلهَ إِلاَّ هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ) (آل عمران/ 18).

القانون الأساسي في الإسلام هو قانون التوحيد (قُلْ إِن كُنتمْ تُحبونَ اللهَ فَاتَّبعونِي يُحْببكُمُ اللهُ وَيَغفرْ لَكمْ ذُنوبكُمْ وَاللهُ غَفورٌ رَّحيمٌ) (آل عمران/ 31).

وإخلاص التوحيد يعني محبّة الله، يعني محبّة العدل وكراهية الظلم والله هو العدل والعادل. بالتوحيد يحبّ الإنسان في الله ويكره في الله، إنّ التوحيد حقيقة، ولكنّها يجب أن تجد مجال التطبيق في الحياة، فالمعرفة النظرية والعقلية بحقائق الدِّين الإسلامي تفقد الحقائق معناها، ولا تحقق الحكمة الإلهية في خلافة الإنسان لله في الأرض. ليس التوحيد فكرة عقلية مجردة، وإنّما هو قانون يجب أن يظهر أثره في الحياة، وإهدار هذا القانون هو المسؤول عما يصيب المسلمين والمجتمع الإسلامي من مآس في حياتهم، فحين اقتصر التوحيد على القول بغير عمل، وعلى الشهادة بالأفواه بغير سلوك فعلي، صار سهلاً على الناس أن يكرهوا العدل ويحبّون الظلم، وأن يسكتوا على الظالم ولا يناصرون المظلوم صاحب الحقّ، أصبح من السهل عليهم أن يلجئوا إلى التواكل والكسل وعدم السير والسعي في الأرض، وبذلك انكسر أهم قانون من قوانين الحياة والخلافة في الأرض، قانون اختيار الأفضل سواء في أسلوب العمل والإنتاج أو في أسلوب الإدارة أو في شكل الحياة الإنسانية الاجتماعية وكلّ العلاقات الإنسانية.

(وَالَّذينَ آمنُوا أشدُّ حُباً للهِ) (البقرة/ 165) أي أنّ حبّ الله صفة من صفات المؤمنين وغاية من غايات وجودهم، وما جزاء الحبّ إلّا الحبّ "وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّبته فإذا أحبّبته كنت سمعه الذي يسمع به، وكنت نظره الذي يبصر به، وكنت يده التي يبطش بها" أي أنّ طاعة العبد لله وحبّه لله تجعله قريباً عند الله مخلصاً لله، ذاكراً له، يقول الله تعالى: (وَمَا رَميتَ إذْ رَميتَ وَلكنَّ اللهَ رَمَى) (الأنفال/ 17)، العقيدة الإسلامية إذن تقوم على جانبي العقل والحبّ وهو قمة العبادة، والعبادة قمة المعرفة فلا حبّ بلا معرفة، والإنسان الذي لا يعرف لا يستطيع أن يحبّ، إنما يقدر على الحبّ مَن يقدر على التفكير والفهم والملاحظة والرؤية والإحساس والعطاء، وكلّما ازدادت معرفة الإنسان كلّما زادت قدرته على الحبّ. إنّ أهم قوانين الحبّ هو العطاء، والعطاء في الحبّ، يعطي الإنسان إحساساً بالسعادة وكأنّه يأخذ، العطاء يحتاج إلى رقي الإنسان، فلا يستطيع الإنسان أن يخرج من أنانيته إلّا إذا ارتقى علمه ونضجت شخصيته ووجدانه.

ولا توجد عقيدة تربي أبناءها على الحبّ مثل عقيدة الإسلام. قد لا يتحدّث الإسلام كثيراً عن الحبّ، ولا يستخدم هذه الكلمة كثيراً، لأنّه يعرف حقيقة الحبّ ويمارسه في حياته اليومية. وإذا كان الحبّ هو الحل الوحيد لخروج الإنسان من عزلته والخلاص من غربته، أي الخروج من سجن الذات والأنانية إلى الكون الرحيب، فإنّ الحبّ جزء من أصول الإسلام وقواعده، لأنّ الإسلام يصل المسلم بالله أوّلاً وأخيراً. فالمسلم المؤمن لا يكون وحيداً ولا غريباً، لأنّه يعرف أنّ الله معه. والمسلمون يتصلون بالله مباشرة وبلا واسطة فالله معهم في كلّ وقت وفي كلّ مكان، (وَهُوَ مَعكُمْ أيْنَ مَا كُنتمْ) (الحديد/ 4) هذا الاتصال هو أوّل المعرفة النظرية بالعقيدة، فشهادة الإنسان بوحدانية الله سبحانه وتعالى تعني خروجه من سجن العزلة والغربة إلى الاتصال بالكون وبخالق الكون. وإذا شهد الإنسان أنّ له ربّاً، وإذا أيقن أنّه ليس وحده في هذا الكون الفسيح، تحرر من الغربة والخوف، وتحررت طاقته ومواهبه، وبالتالي يصبح الإنسان حراً.

شهادة الإنسان بوحدانية الله، هي بداية الحبّ النظري والمعرفة النظرية، والصلاة هي التطبيق العملي لهذه المعرفة وهذا الحبّ لأنّها التقاء بالله واتصال به، والزكاة عطاء وهي أحد قوانين الحبّ، والصوم امتثال لأوامر الله حبّاً فيه، والحج إحياء لأحد شعائر حبّ الله، تذكاراً لحبّ إبراهيم لله وتقديم ولده الوحيد قرباناً لله دليلاً على حبّه.. وهكذا يجد المتأمّل للعقيدة الإسلامية إنّها عقيدة تقوم أساساً على الحبّ.. أرقى أنواع الحبّ.. حبّ الله... الجهاد في الإسلام حبّ لله، لأنّ الأرض هي أرض الله، والإنسان هو خليفة الله في الأرض وهو المسؤول عن الجهاد في سبيل الله دفاعاً عن الحقّ ورفعاً للظلم والشر.

إنّ الإسلام لا يعرف غلواً في شيء على حساب شيء آخر، فهو يهئ للإنسان توازنا يمكّنه من القدرة على العمل، ولذلك فلابدّ من التعامل بحذر مع ما ذهب إليه المتصوفون بل ولابدّ من توجيه النقد الشديد إلى أولئك المتصوفين الذين لجئوا إلى الزهد وإلى الصوامع وبعدوا عن المجتمع، لأنّهم إذا كانوا قد وجدوا هدوء وراحة النفس ـ وهو أمر مشكوك فيه ـ فإنّهم لم يقدّموا أي شيء لإصلاح المجتمع. يعرف الإسلام حبّ الله ولكنّه لا يعرف الرهبنة "لا رهبانية في الإسلام" يحترم الإسلام العقل ولكنّه لا يجعل له السيادة على الروح، يقرر الإسلام حقائق الوجدان ولكنّه لا يسمح لها بشل نشاط العقل، يعترف الإسلام بحاجات الإنسان الدنيوية ولكنّه يطالبنا بألا ننسى الآخرة وأن نجعل الدنيا طريقاً إليها.

لقد كانت الشخصية الإسلامية في أعلى درجات نضجها وكمالها في عهد النبيّ (ص) وكانت العقيدة الإسلامية في أوج تناسقها مع شخصية المسلم، وبتطوّر المجتمع الإسلامي بدأ التوازن يختل، فقد ظهر المتكلّمون ورأوا أنّ الحياة عقلاً فلسفياً جافاً يتيه إعجاباً بنفسه ـ مثلما يفعل المجتمع الغربي في الوقت الحاضر ـ ورأى المتصوفة أنّ الحياة ما هي إلّا وهج من الحبّ الذي يخلو من العقل، وكلاهما على باطل فلا يمكن أن تغلب العلمانية على العقيدة الإسلامية الصحيحة ولا يمكن أن يكون الإسلام مجرد شطحات روحية وخيالية لدى نفر عزلوا أنفسهم عن المجتمع وعاشوا لأنفسهم فقط. وهنا يحضرنا ما قاله الرسول (ص) لأحد الأشخاص الذي كان يجلس دائماً بالمسجد ولا يعمل فلما سأله النبيّ (ص) عن أمره قال: إنما اتفرغ للعبادة، فسأله الرسول (ص): "ومَن يعولك أو ينفق عليك؟ قال الرجل: أخي يعمل وينفق عليّ! فقال له الرسول (ص): "إنّ أخاك أعبد منك".

إنّ ما يعتقده الغرب عن الإسلام وعن التجربة الروحية فقط والمتمثلة في خبرة الصوفية إن هو إلّا وهم خاطئ، فما غلو الصوفية وشطحاتهم إلّا تعبير فني أو أدبي عن مشاعر أديب أو فنان، ولا يمكن أن يحتسب التعبير الفني بأي شكل من أشكاله أو صوره على الإسلام، لأنّها أساليب تعبير فني تعتمد على الخيال والعاطفة، ولا بأس على مَن يحب ويذوب حبّاً أن يعبّر عن حبّه في أي صورة فنية، ما دام بعيداً عن المساس بأصول العقيدة، مع الاعتراف بأنّ هذا النوع من الإيمان أنّما هو إيمان سلبي ومحسوب على تقدّم المجتمع الذي يعيشون فيه اسماً وهم منفصلون عنه فعلاً، فانعزال المتصوف في صومعته لا يصلح إلّا نفسه ـ أن صح هذا القول ـ ولكنّه لا يصلح المجتمع وما أحوجنا إلى صلاح النفس وإصلاح المجتمع.

وهكذا نجد أنّ حبّ الله في المجتمع الغربي ما هو إلّا خبرة فكرية في العصر الحاضر، أمّا حبّ الله في المجتمعات الشرقية والمجتمع الإسلامي فهي خبرة عقلية ووجدانية تشمل جميع نواحي الحياة، أمّا خبرة المتصوفين والمترهبنين فيه خبرة روحية خالصة، وهذا ما يرفضه الدِّين والعقل.

أنّ حب الله من هذا المنطلق الفكري لا ينفصل عن حبّ الوالدين. فعندما لا يستطيع إنسان ما أن يتحرر من حبّ الأُم والارتباط بها، وعندما لا يستطيع الاعتماد على نفسه، وعندما لا يستطيع الإنسان أن يتحرر من الأب الذي يثيب ويعاقب، أو يتحرر من أية سلطة أخرى، فإنّه لن يستطيع أن يحبّ الله حبّاً ناضجاً، ذلك أنّ إيمانه وعقيدته سيكون على أساس مرحلة سابقة في حياة الإنسان حيث كان إله الإنسان فيما مضى أي في طفولته هو الأُم التي تحميه والأب الذي يعاقبه أو ينعم عليه.

إنّنا في العصر الحاضر نجد أمامنا هذه المراحل جميعاً من طفولة البشرية وحتى نضجها الحالي. أنّ كلمة الله تعني أصل الوجود كما أنّها تعني الأزلية. إنّ كلّ إنسان ـ كما قال فرويد ـ يحمل في عقله الباطن (اللاشعور) نموذجاً لكلّ المراحل التي مرت بها البشرية منذ بداية الخلق.. والسؤال هو: إلى أى مدى سيستطيع فرد ما أن يصل في نموه؟ إنّ ما يمكن قوله هنا هو أنّ حبّ فرد ما لله يرتبط بالدرجة التي وصل إليها هذا الفرد في نموه ونضجه وفي نمو حبّه لوالديه، وحبّه لكلّ البشر. إنّ حبّه لله وحبّه للناس يكون في الغالب حبّاً لا شعورياً، إنّه حبّ مستور، وقد ألفت له الأسباب العقلية من خلال التطوّر الفكري العقلي والبحث الدائم عن مفهوم الحبّ. إنّ حبّ الناس يتم من خلال الفكر والاختيار، أمّا حبّ الأسرة فإنّه حبّ يتم مباشرة من خلال صورة المجتمع ومن خلال تكوين هذا المجتمع. عندما يكون البناء الاجتماعي للمجتمع قائم على أساس وجود السلطة المتحكمة، سلطة التسويق والدعاية التجارية، أو سلطة الإعلام، فإنّ حبّ الله وحبّ الناس لن يكون حبّاً ناضجاً بمفهوم الأديان السماوية.

 

المصدر: كتاب الحبّ بين الفلسفة والعلم

ارسال التعليق

Top