• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حدود الحاجة والاشباع

أسرة البلاغ

حدود الحاجة والاشباع

بديهي أنّ المفاهيم تختلف باختلاف المذاهب الفكرية والمناهج العملية، وتترتب على هذا الاختلاف آثار بالغة الأهمية في مجال تحديد العلاقات والروابط، وتنظيم الحقوق والواجبات في المجتمع.

ومن أهم ما يفرد المذهب الإسلامي في تحديده للمفاهيم عن سائر المذاهب هو (الشمولية، والاستيعاب الكامل للخصوصيات) في مقرراته التشريعية.

ومن هنا كلما أمعنا النظر في التشريع الإسلامي وجدناه نسيجاً متلاحماً ومتناسقاً، من غير أدنى تناقض أو تضاد، حيث أخذ هذا التشريع الفَذّ بنظر الاعتبار الأبعاد الإنسانية بكلِّ نوازعها وحاجاتها، والمكانية بكلِّ اختلافاتها وتبايناتها، الزمانية بكلِّ تطوراتها وتغيّراتها.. في كلِّ قيمه ومبادئه وقواعده، وتجسد ذلك في العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي قررها في منهجه.

ففي مجال (العمل والانتاج) مثلاً، نظّم الإسلام العلاقة النسبية بين طاقة الإنسان (أو الجهد البشري)، والطبيعة باعتبارها المصدر الأولي للثروة، من جهة، وبين الانتاج، وحقّ التملك، من جهة أخرى، حين جعل الناتج للمنتج الحقيقي لا للمستَغِلّ.. ثمّ حرّم الاستغلال بشتى صوره وأساليبه، وشجّع على توظيف القابليات والمواهب، لا بتمليك الانتاج للعامل فحسب، بل بجعل العمل شرفاً وواجباً وجهاداً، مع نماذج وتطبيقات عملية أدّاها عظماء الإسلام، رسول الله وأهل بيته (ص)، فيما مارسوه من جهد جهيد في الزراعة وسائر أنماط الكسب الحلال.

ثمّ، اهتم بمن تَعَطَّل عن العمل، كلية أو بصورة جزئية، فقرر التكافل العائلي والتضامن الاجتماعي للعاجزين.

وجعل للثروة المملوكة بطريق مشروع وظيفة اجتماعية، لخدمة الإنسان والمجتمع معاً، ومن غير أن تكون لخدمة أحدهما على حساب الآخر.

ومنع من انتاج أو تداول أو استهلاك السلع والخدمات التي تشيع (الفحشاء والمنكر) في المجتمع أو في نفس الإنسان، منعاً للأمراض الاجتماعية والصحية والنفسية، وسائر السلبيات التي تنعكس سلبياً كذلك على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية ونحوها.

وبهذا يكون الإسلام العظيم قد حدد "مفهوم العمل والانتاج" بمنحى شامل وتكاملي يحقق المصالح ويدرأ المفاسد في إطار الحفاظ على كرامة الإنسان.

 

الحاجة والاشباع:

تعتبر الحاجة إلى الشيء هي السبب الأعمق في إنتاجه وإيجاده، ولولا الحاجة إليه لكان وجوده عبثاً لا مبرر له، والسعي من أجله تضييعاً للجهد والمال والوقت الإنساني الثمين، وقد حرّم الإسلام العبث.

وقد عبر القرآن الكريم عن هذا التحريم بصيغة الاستنكار الذي وجّهه إلى أولئك الذين يبنون ويشيّدون للعبث وللهو، والإسراف فقال:

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ[1] آيَةً تَعْبَثُونَ) (الشعراء/ 128).

وكما حرّم القرآن بنقده اللاذع هذا العبث، وهو تضييع الجهد والمال والوقت من دون أن يكون هنالك مبرر معقول لهذا الإتلاف، حرّم كذلك الإسراف، وهو الاستعمال الزائد على الاشباع – اشباع الحاجة:

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

ولا يخفى ما لتحريم هذا التصرف الشاذ العبث والإسراف – من أثر إيجابي على توازن الحياة الاقتصادية، وحفظ الثروة البشرية، وهذا التحريم للإسراف، والعبث في المأكل، والملبس والزينة، والسكن، والإنفاق.. إلخ. هو دعوة للتنظيم وضبط موازنة الحياة الاقتصادية، وتحقيق التوازن بين طرفي المعادلة، أي بين الحاجة والاشباع.

وبذا نظر الإسلام إلى الحاجة البشرية كحقيقة يجب الاستجابة لها إلى حد الاشباع، دونما نقص أو إسراف، قال تعالى:

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرّعد/ 8).

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2).

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 27).

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).

وجاء في حديث طويل رواه الإمام الصادق (ع) عن رسول الله (ص) قال فيه:

"إنّ أصنافاً من أمَّتي لا يُستجابُ لهم دُعاؤهُمْ".

وعدّ أصنافاً منهم.. ثمّ قال:

"ورجل رزقه الله مالاً كثيراً فأنفقه ثمّ أقبل يدعو: يا ربَّ أرزقني، فيقول الله عزّ وجلّ: ألم أرزقك رزقاً واسعاً، فهلا اقتصدت فيه كما أمرتك، ولم تسرف، فقد نهيتك عن الإسراف"[2].

وقد أقر الإسلام اشباع الحاجات الإنسانية بمختلف أنواعها سواء منها الخدمات أو الحالات المادية، كالعلاج الطبي، والتعليم، والطعام، والشراب، واللباس، والسكن.. إلخ.

أو الحاجات الفكرية والنفسية كالأدب والفن والزينة ووسائل الترويح... إلخ.

وهكذا يجعل الإسلام الحاجة أساساً للانتاج والإنفاق والاستهلاك ليوازن بين الحاجة والإنتاج والاستهلاك فيتلافى الأخطار الاقتصادية والأخلاقية الكامنة في العبث والإسراف والتبذير، ويربي الفرد والمجتمع على الاعتدال والاستقامة السلوكية والأخلاقية سواء في مجال الاقتصاد المتحقق والاشباع والاستهلاك والملكية أم في مجال العلاقات والروابط النفسية والاجتماعية.. إلخ.

 

الاشباع الشاذ لا يعبر عن حاجة:

عندما نظر الإسلام إلى الإنسان كوحدة حياتية لها حاجاتها ونظام حياتها المناسب لتكوينها اعترف له أيضاً بحاجاته الطبيعية المرتبطة ارتباطاً فعلياً بكيانه، وأباح له طرق الاشباع اللازمة لسد تلك الحاجات. وانطلاقاً من هذا المفهوم اعتبر التشريع الإسلامي كلّ اشباع خارج عن هذه الحاجات الطبيعية للإنسان حالة من حالات الشذوذ النفسي والغريزي التي يجنح لها المنحرفون تحت تأثير ظروف حياتية شاذة، واعتبر هنا الشذوذ تعبيراً منحرفاً واشباعاً خارجاً على نظام الحياة، لا يعبر عن حاجة أساسية ترتبط بتكوين الإنسان ونظام حياته، ولكنه تنفيس ملتوي يُعبّر عن عقدة الشذوذ والانحراف التي يعاني منها هذا الصنف من الناس.

ولم يكن الإسلام ليسمح للشاذين والمنحرفين أن يعملوا على تنمية هذه الاتجاهات الشاذة، لتنمو وتعيش في المجتمع الإنساني، كظاهرة قانونية مشروعة، فهو أن فعل ذلك عمل على هدم نظام الحياة، وانتقل من القانون الطبيعي، والقاعدة الأساسية إلى قبول الشذوذ والانحراف كبديل للوضع الطبيعي، فيحل الشذوذ عندئذ محل القاعدة والفوضى محل النظام.

 ولم يكن الإسلام إلا رسالة الضبط والتنظيم والقانون، لذلك عمد إلى تحريم الإنتاج والتداول والاستهلاك والانتفاع بكلِّ سلعة تشيع شذوذاً أو تستجيب لحالات الانحراف المرضي، كالخمر والزنا واللواط والقمار والرقص والاحتكار والربا... إلخ، فمنع إنتاج الآلات والأدوات والخدمات أو بذل الجهود وإنشاء المؤسسات التي توفر الظروف المشجعة على إيجاد وبقاء هذه الظواهر الشاذة، لأنّ الإنسان بتكوينه الطبيعي السليم لا يحتاج إلى الخمر ولا إلى الرقص، ولا يصح له أن يتحول من العلاقة الزوجية المشروعة إلى الزنا واللواط.

والإنسان في حالته الطبيعة يجب أن يعمل ويكسب لا أن يتخذ القمار والاحتكار وسيلة لاقتناص جهود الآخرين.. ليعيش في خمول وترهل على الكسب الشاذ المدمر لنظام الحياة المعاشي.. إلخ.

وبهذا التقويم الموضوعي للحاجة والإنتاج والاشباع الطبيعي للحاجات عمل الإسلام على تنظيم الحياة الاقتصادية وصيانتها من العبث والإسراف والتبذير، فحفظ الجهد البشري والثروة البشرية ليوظفها في دائرة نشاطهما المقرر لهما حسب منطق النظام الوجودي العام.

ولا يخفى على أحد منا ما للإنتاج والاستهلاك الشاذ، وما للعبث والإسراف من دور في تضييع الثروة البشرية والجهد البشري فيما يضر البشرية، ويعرض كيانها للخطر، فهناك ألوف المليارات تصرف في اللهو والعبث، وفي القمار والرقص والخمر، والممارسات الشاذة، وفي إنتاج وسائل الخراب والدمار.. في حين نشاهد مأساة الفقر والجوع والحرمان والجهد والمرض في جانب آخر، ونشاهد الملايين من البشر يقاسون الحرمان ويموتون جوعاً وملايين أخرى كذلك يموتون من الحروب والأمراض.. كلّ ذلك بسبب الأنظمة الاقتصادية الجاهلية، كالشيوعية والرأسمالية وأمثالهما التي تتحكم بالبشرية اليوم.

فلو أنّ هذه الثروة المضاعة في العبث والإسراف، والاشباع الشاذ وظّفت في خدمة البشرية، ووجهت لاشباع حاجة الإنسانية المعذبة المنكودة لما بقي جائع ولا فقير على سطح هذه الأرض.

والإسلام بمفاهيمه وتقويمه للحاجة والاشباع ووضعه للقوانين والقيم الأخلاقية والروحية اللازمة لهما إنما يعمل مخلصاً لإنقاذ الاقتصاد والسلوك البشري من ورطة الاختلال الشاذ والتعامل المضطرب ليعيد للحياة الاقتصادية والأوضاع النفسية توازنها وقدرتها على خلق مجتمع بشري يعيش في ظلال العدل والسلام.

الهامش:


[1]- الريع: مرتفع الأرض. والخطاب القرآني موجه إلى الذين كانوا يبنون أبنية للهو والعبث والفساد.

[2]- الكليني: المصدر السابق/ ص67/ ط3.

ارسال التعليق

Top