• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

خلقنا الله للرحمة

أحمد زكي تفّاحة

خلقنا الله للرحمة

◄قال تعالى:

(قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام/ 12).

(قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ).

العرب في جاهليتهم قبل الإسلام كانوا يعرفون ويقررون بأنّ لله الخالقية، وأنّ له ما في السماوات والأرض، ولكن لا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية، بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما خلق، وعدم التصرف إلا بإذنه وحده وشرعه، فكانوا لا يقرون له بالحاكمية فيما خلق، وأعطوا لخلقه هذا الحقّ في الحاكمية، وبهذا اعتبروا مشركين، وسميت حياتهم بالجاهلية، فكيف بمن يخرجون الحاكمية عن اختصاص الله الخالق فهو الكفر والظلم والفسق – كما قرر الله سبحانه في كتابه – وأياً  كانت دعواهم في الإسلام، وأياً كانت لهم هذه الصفة التي تعطيها شهادة الميلاد.

(كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

الكتابة هي الإثبات، والقضاء الحتم، والرحمة هي إفاضة النعمة على مستحقها وإيصال الشيء إلى سعادته التي تليق به، والرحمة هي من صفات الله تعالى الفعلية، لا الثبوتية ولا السلبية، فصح أن تنسب إلى كتابته تعالى، والمعنى أوجب على نفسه الرحمة تفضلاً منه ورحمة بلا منازع، لأنّه إن عفا فبفضله، وإن عاقب فبعدله، كتب على نفسه الرحمة بإرادته ومشيئته لا يوجبها عليه موجب، ولا يقتضيها مقتض إلا بإرادته المطلقة، وربوبيته الكريمة، وهي الرحمة قاعدة قضائه في خلقه ومعاملته لهم في الدنيا والآخرة.

فرحمة الله في عباده هي الأصل، حتى في ابتلائه ليكون أيهم أحسن عملاً، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال/ 42)، وقد تكرر ورود كتب الرحمة في السورة ذاتها آية 54، (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، فالذي يسترعي هذا الانتباه بأن يجعل رحمته مكتوبة عليه، كتبها هو على نفسه، وجعلها منه عهداً لعباده بمحض إرادته، ومطلق مشيئته ليشملهم بفضله العميم، ورحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء.

وتمثل هذه الحقيقة في اتصاف الألوهية بالرحمة وصدورها منها للعباد تصوراً إسلامياً يشد الإنسان إلى الله الرحمن الرحيم العطوف الودود الرؤوف الكريم، ورحمة الله تفيض على عباده جميعاً وتسعهم جميعاً وبهم يقوم وجودهم وحياتهم.

 

وتتجلّى رحمة الله:

1-  تتجلّى في وجود البشر وخلقهم ونشأتهم من حيث لا يعلمون، وإعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم بكلِّ ما فيه من خصائص يفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.

2-  وتتجلّى رحمة الله في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان من هذه السماوات والأرض، وهذا الرزق الواسع الشامل الذي ينعم الإنسان به في حياته.

3-  وتتجلّى رحمة الله في تعليم الإنسان الاستعداد للمعرفة والعلم وتمكينه من التوفيق بين استعداداته وإيحاءات هذا الكون ومعطياته وهو الذي علّمه إياه، وهو من رزق الله الواسع الشامل.

4-  وتتجلّى رحمة الله في رعايته لهذا الخلق بعد استخلافه في هذه الأرض، فإرسال الرسل وإنزال الكتب إليه بالهدى، ورحمة الله وحدها، هي التي تمهله، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.

5-  وتتجلى رحمة الله في تجاوز الله سبحانه عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثمّ تاب، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثمّ أناب.

6-  وتتجلى رحمة الله عن مجازاة السيئة بمثلها وبمجازاته على الحسنة بعشر أمثالها، والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء، ومحو السيئة بالحسنة، وكله من فضل الله، فلا يبلغ أحد الجنة بعمله إلا بفضل وأن يتغمده برحمته ويشمله بفضله.

ولنكتف بمتابعة فيما تتجلّى فيه رحمة الله تعالى بهذا القدر، وإعلان القصور هو أجدر وأولى، وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئاً.

وعند مسلم: لما خلق الله الخلق، كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إنّ رحمتي سبقت غضبي...

وعن أبي هريرة قال: قبل رسول الله (ص) الحسن بن عليّ (ع) وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً فنظر إليه رسول الله (ص) ثمّ قال: "من لا يرحم لا يُرحم".

وروى أن رسول الله (ص) قال: "الراحمون يرحمهم الله".

وروى عنه (ص): "ارحموا من في الأرض يرحمكم مَن في السماء".

وعنه (ص): أنّه قال: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس".

وعنه (ص): "لا تُنزع الرحمة إلا من شقي".

 

مسائل وأجوبتها:

س1- الكثير من الناس يقولون: لماذا لم يخلق الله الناس أمة واحدة ليريحهم من الإختلاف وويلات الطائفية والمذهبية والعرقية؟

ج- قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ * وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود/ 117-119).

س2- لماذا خلق الله الناس؟ كثير من الناس يتساءل: لماذا خلقنا الله؟

ج- الآية 12 من الأنعام: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)، والآية 54 من الأنعام: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام/ 54).

س3- لماذا لم يبسط الله الرزق لعباده؟

ج- قال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (الشورى/ 27).

س4- لماذا بسط الله الرزق لبعض العباد وقدر – ضيق – على بعض العباد؟

ج- قال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ/ 39).

وقوله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف/ 32-35).

س5- لماذا سبحانه جعل الإنسان خليفته على الأرض ورفع بعضهم فوق بعض درجات؟

ج- شاء الله سبحانه أن يكون الإنسان خليفته على الأرض ليعمرها بالإيمان والطاعة والعبادة لله وإقامة العدل ونشر الفضيلة فيها فخلفه عليها ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليستعين بعضهم ببعض، ولو كانوا كلهم درجة واحدة لما حصل التعاون بينهم ولوقفت عجلة الحياة والتقدم والتطور، فابتلاهم بما ابتلاهم من أموال وأولاد وجاه وعلم وسلطان، - اختباراً لهم – ليتسابقوا فيما بينهم على فعل الخيرات على ملعب هذه الكرة الأرضية ولتكون الحياة دار تنافس – تسابق – بين العباد على طاعة وفعل الخيرات، قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك/ 1-2).

وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 165).

ومن المقطوع به أنّ الله سبحانه لا يريد لعباده أن يتباغضوا ويتناحروا كيف وهو القائل: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال/ 46).

والله سبحانه لا يريد استعمال الجبر والإكراه في الدِّين (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256)، الإكراه يتنافى مع منطق العقل، لأنّ القوة لا تصنع الإيمان والاعتقاد، فإنّ الإيمان الحقّ يصادق طريق الإقناع والأدلة والبراهين، ولقد عرض القرآن الكريم هذه الأدلة وحث على هذه الأساليب.

والله سبحانه لا يريد أن يخلق الإيمان في قلب الإنسان، فإنّه يخرج الإنسان عن إنسانيته ويجعل أفعاله تماماً  كالثمرة على الشجرة لا إرادة لها ولا كسب ولا تفكر ولا تدبر لخلق الكون وخالقه وما في هذا الكون، ولا استحقاق لمدح أو ذم، ولا لثواب أو عقاب على شيء.

والله سبحانه لم يشأ أن يكره الناس على الإيمان لأنّه لو يشاء لسلب عنهم صفة الإنسانية وكانوا أشبه بالحيوانات والحشرات لا يتحملون أي تبعية، ولا يحاسبون على شيء، ولكن شاء الله سبحانه أن يميز الإنسانية عن كلِّ مخلوق، ولذا أمده الله بالقدرة والإدراك والوجدان والهداية إلى النجدين، ثمّ ترك له حرية الاختيار، فجاءت أن يختلف الناس في عقائدهم وآرائهم.

وسيستمر هذا الاختلاف إلى الأبد، لأنّه نتيجة حتمية لجعل الإنسان مخيّراً غير مسيّر (إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (هود/ 119)، المراد بالمرحومين الذين يتوخون الحقيقة بإخلاص وتحرر، وإن تناحروا واختلفوا في الرأي ووجهة النظر، لأنّ اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية، لأنّ الحقَّ سيبقى والباطل سيذهب.

 

المصدر: كتاب دروس من القرآن

ارسال التعليق

Top