• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علم الاقتصاد والحضارة

إبراهيم محمود عبدالباقي

علم الاقتصاد والحضارة

يرى العديد من المفكرين العرب أهمية الجانب الاقتصادي لنمو الحضارة، دون اعتباره المقوم الوحيد لفهم حركة الحضارة. لذا، فالعالم الإسلامي (والعالم العربي في قلبه بالطبع) لا يمكنه السير نحو نهضة حضارية، إلا بتضافر مقوماته المتكاملة في "إنشاء اقتصاد واضح المعالم". ومن الضرورة إيلاء العناية لعنصر "التراب"، والمقصود به: المادة الخام، على اعتبار أنّه أحد عناصر تكوين الحضارة. وهذا "التراب" يستمد قيمته من قيمة الأُمّة التي يوجد بها، فحينما تكون في وضع مرتفع حضارياً يكون التراب غالي القيمة، والعكس بالعكس. فهناك اعتقاد باستحالة إنجاز أيّة تنمية دون "الاقتصاد"، والذي هو قيم ومفهوم مجتمع ورؤية، قبل كل شيء. وهنا تظهر المطالبة بتحقيق "الاندماج الاقتصادي العربي"، كضرورة لدخول العرب إلى عصر التكنولوجيات الجديدة مبدعين ومنتجين، لا مستهلكين فقط؛ فالإنتاج أحد عناصر الوحدة. وفي أقل القليل لابدّ من التعاون الاقتصادي الجهودي العربي شرطاً أساسياً للتنمية، بل مفتاحاً لا غنى عنه من أجل البقاء. فالاقتصاد لاعب أساسي في تطوير المجتمعات الإنسانية؛ "والتحولات الاقتصادية" هي أحد العوامل الأكثر تأثيراً في نهضة أي مجتمع. ولن يحترم العالم حضارة العرب وثقافتهم وتقاليدهم، إلا بعد أن يقوموا بتحقيق قوتهم الاقتصادية. لذلك، أصبحت المطالبة باستحضار "مشروع رؤيا اقتصادية جديدة" في العالم العربي أمراً ملحاً؛ لأن استحضار هذا المشروع الاقتصادي الجديد هو أحد دعائم المعركة الحضارية التي يخوضها الشعب العربي لأجل فرض ذاته بجانب الذوات الأخرى، ولأنّه قد ثبت أنّ المشروع الاقتصادي الغربي الذي تبنّاه العرب لا يتناسب مع مستلزمات تنميتهم.
كذلك تبرز المطالبة بإقامة "مشروعات عربية اقتصادية مشتركة"، للإسهام في تحقيق التنمية العربية الشاملة، إذ أن أي دولة عربية، لا تستطيع بمفردها أن تحقق تكاملها الإنتاجي الداخلي، وأصبح هناك اعتقاد سائد مفاده أنّ الاندماج الاقتصادي (أو الوحدة الاقتصادية) بين البلدان العربية هو أحد الأمور المساعدة على خروجها من تبعيتها وتخلفها، وأزماتها الاقتصادية والتنموية. لكن توجد عوائق عدة تقف في وجه "الاقتصاد العربي" وتعمل على إبقائه في طور التخلف، مثل: تخلف الهياكل الإنتاجية لكلّ الأقطار العربية، واختلاف تنمية الإنتاج العربي على المستوى القطاعي، وتبعية الاقتصاديات العربية للخارج، مع تباين الاقتصاديات القطرية العربية من حيث هياكلها الإنتاجية ومراحل ومستوى نموها، ومن حيث الموارد والثروات الطبيعية والبشرية والمالية، بالإضافة لعدم توفر الإرادة السياسية.
هناك من يعتبر أنّ رأس المال المادي (الذي هو أحد جوانب الاقتصاد)، من العوامل التي تضمن كل تنمية. كما يتحدث البعض عن أهمية "الدخل القومي" بالقول: إنّ "الإرتفاع السريع للدخل القومي والثروات الوطنية، وكذا التوزيع العادل لهم، بين كل أعضاء المجتمع، هو أساس كلّ تقدم اجتماعي، ويجب أن يكون في مقدمة كل اهتمامات الدول والحكومات". وقد برزت المطالبة بجعل مصادر تمويل التنمية محلية لا خارجية، كي لا يتحكم الخارج في المسيرة التنموية؛ ومن يستطيع المساهمة في تنمية المجتمع (على العموم) والتنمية الاقتصادية (على الخصوص): الدولة؛ والبنوك الإسلامية؛ والمؤسسات الاجتماعية مثل: النقابات المهنية، والاتحادات الطلابية، والأحزاب السياسية، ولجان حقوق الإنسان، والجمعيات الخيرية. وهناك إشارة مهمة إلى ضرورة تكثيف العمل في العالم العربي عند تخطيط منظومته التنموية أكثر من الاهتمام بتكثيف الإنتاجية؛ لأنّ تكثيف الإنتاجية يستدعي رأس مال ضخم لشراء المصانع وغيرها، وهذا ما لا يملكه العرب عموماً. لذا، لا يبقى من خيار لهم سوى تكثيف العمل. كما يوجد اعتقاد سديد بوجوب تحقيق السيولة (عدم حبس المال) لضمان النمو والتنمية، إذ الإسلام نفسه دعا لذلك. وهنا يرد التحذير من سوء استخدام الموارد الموجودة في العالم العربي، والذي يُعتبر أحد الأسباب لعدم مجاراة العصر، ولعدم إسهام العالم العربي في بناء الحضارة المعاصرة.
لكن يوجد تحذير شديد من لدن المفكرين العرب من "التبعية الاقتصادية" (العربية) للخارج، إذ هي إحدى مؤشرات التخلف؛ والحدّ منها يتطلب زيادة القدرة الإنتاجية في الدولة أو مجموعة الدول موضوع التنمية، من خلال التركيز على القطاعات الاقتصادية الرائدة لتحقيق معدلات مرتفعة من النمو، بالإضافة لتهيئة الظروف والمناخ الاجتماعي الذي يدعم معدلات النمو تلك. وظاهرة التبعية الاقتصادية العربية هي بُعد رئيسي في ظاهرة التبعية الثقافية تعاني منها أغلب الدول العربية؛ فالاقتصاد العربي الحالي، وبكل أسف، هو في وضعية المدين والتابع للخارج، مما يجعله مضطراً دائماً لطلب الإعانة والمساعدة من النظام العالمي الجديد، ويزداد ارتباط الاقتصاديات العربية بالخارج توثقاً وتفاقماً يوماً بعد يوم، مما يُعتبر أحد سمات ما يُسمى بـ"تقدم التخلف". لذا، فالتنمية العربية بحاجة لتحرير الاقتصاديات العربية من التبعية للدول الصناعية المتقدمة، كما أنّ ضعف العامل الاقتصادي في العالم العربي له دور في استمرار تخلف الأمة العربية. والتحذير شديد كذلك من تطبيق برامج الفكر الاقتصادي المتغربّ في العالم العربي، إذ كان هذا التطبيق أحد أسباب ما عليه العرب اليوم من ضعف وفرقة وعجز وتبعية وتخلف. من هنا، يبرز التحذير أيضاً من "الرأسمالية العالمية".
لكن، هناك، في المقابل، من يدافع عن "الليبرالية" ويدعو إليها، عن اعتبار أنّها ستحقق التقدم في المجتمعات العربية، ويعتبر أنّ عدم نجاحها في العالم العربي، إنما يعود لوجود جذور تاريخية تمنع تحققها في الوجدان العربي المعاصر، وأنّه لا سبيل لنجاح أية دعوة لليبرالية إلا باستئصال جذور تسلط الحكام واستسلام الشعوب، عن طريق إعادة بناء المخزون الثقافي الذي ما يزال حياً في الثقافة الوطنية على أسس جديدة، تجعل الإنسان هو الفاعل في التاريخ، بالإضافة إلى اعتماد الحرية. ويُرجع البعض سبب فشل الليبرالية في العالم العربي لعدة عوامل داخلية (لم يحدّدها)، ولعامل خارجي واحد يتمثل في الاستعمار الإمبريالي. والملاحظ على هذه الآراء تأثرها بمذاهب غربية لا تصلح بالفعل للعالم العربي؛ لأنّها غريبة عنه، وستبقى تسقط فيه. وهناك مطالبة بتوفير الظروف المناسبة لحرية الأنشطة الاقتصادية، وجعل ذلك في أهداف خطط التنمية؛ فـ"التحرير الاقتصادي" هو أحد أهم شروط تحقيق التنمية المستقلة.
يبدو أنّ الكلام عن أهمية "الزراعة" ليس بعيداً عن ميدان الاقتصاد، نظراً لارتباط الزراعة بالصناعة؛ إذ من اللازم الاهتمام بالتنمية الزراعية عن طريق إحداث ثورة زراعية تمدّ الصناعة بمصادر التراكم اللازمة، كما تُوفّر الغذاء الكافي للعمال الصناعيين. فالزراعة هي أولى أهم الثروات في طريق تقدم الإنسان؛ لذا، لابدّ من القيام بالإصلاح الزراعي، كأحد العوامل لمساعدة على إخراج كل أمة نامية (ومنها الأمة العربية) من مرحلة التخلف إلى التقدم المنشود، إضافة إلى الاهتمام بالصناعة والتصنيع. وقد كان إهمال هذه المسائل من أسباب تأخر المجتمعات النامية. وأضحى الاعتقاد السائد أنّ التجارة وعمارة الأرض بالزراعة هي أساس الحضارة. كما برز التحذير من تفاقم "المشكلة الغذائية"، التي سينتج عنها المزيد من "التبعية الاقتصادية". ويتجلى الحديث، في هذا المقام، عن أهمية "الماء" الذي هو عصب الزراعة والصناعة، وبالتالي عصب الاقتصاد؛ إذ الحضارات إنما نشأت وازدهرت في المجتمعات التي كانت فيها البحار والأنهار، كالحضارة المصرية على سبيل المثال. وأصبحت الدعوة ملحة إلى تحقيق التقدم الصناعي والتكنولوجي، كأحد متطلبات النهضة والتقدم. وأضحت النظرة المعاصرة للأولويات العربية هي: الكفاح من أجل تنمية حقيقية مستقلة عن توجهات المؤسسات المالية العالمية، والنهوض بالزراعة، وتطوير الصناعة والتكنولوجيا الملائمة والقادرة على المساهمة في تلبية الحاجيات الذاتية العربية.
يرى بعض المفكرين ضرورة تضافر كل من "القطاع العام" و"القطاع الخاص" لتحقيق التنمية المستقلة، دون أن يعني ذلك إلغاء دور "القطاع العام" الذي يعتبر ضرورياً لاستمرار التقدم الاجتماعي. في حين يتحدث البعض عن أهمية "النفط" كمورد اقتصادي عربي، ويدعون إلى الاهتمام بـ"المعرفة النفطية" أو "علم النفط"، على اعتبار أن ذلك هو عنوان التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم الحديث. فالنفط هو الثروة الأساس والقاعدة الإنتاجية للإنماء المادي والحضاري المأمول في الوطن العربي. ويمكن أن يكون النفط رافعة لتغيير الوضع العربي، وخلق نهضته، إذ هو أحد العوامل الحاسمة في العصر الحالي، كما أنّه مُحدّد إستراتيجي حضاري لعشرات العقود القادمة، إن لم تكن لقرون. وقد يصح القول إنّه "لا أمل للعرب في تنمية حديثة تواجه مطالب التزايد السكاني الهائل، إلا في استخدام موارد النفط قبل نضوبه، خلال القرنين المقبلين في تطوير تقنيات لصناعات متخصصة تلبي حاجاتهم على الأقل". بل هناك من يذهب إلى حدّ اعتبار أنّ "البترول" يمكن أن يؤهل العرب لقيادة الحضارة العالمية من جديد، بشرط حسن استغلاله، نظراً لتوفّر المنطقة العربية على أكثر من 60% من احتياطي بترول العالم، وبذا يمكن للعرب الجمع بين القوتين، المادية والمعنوية، في بناء حضارة الأمة. كما أنّ النفط هو شريان حياة الدول الغربية، ومتنفس حضارتها، بل وشريان حياة حضارة القرن العشرين والواحد والعشرين.
الخلاصة: يعطي المفكرون العرب أهمية كبيرة في بناء الحضارة إلى "الجانب الاقتصادي". لذا يدعون لتحقيق "التكامل والاندماج الاقتصادي العربي" عن طريق البداية بالمشروعات الاقتصادية المشتركة أو الجهوية العربية، كخطوة أولى على طريق الوحدة والنهض الحضارية العربية. وهم يحذرون من "التبعية الاقتصادية" و"الاقتصاد المتغرب أو الرأسمالية"، على اعتبار أنّ ذلك لن يؤدي إلا للمزيد من التبعية والتخلف العربي. مع التطرق لأهمية "الصناعة" والزراعة" و"النفط" للنمو الاقتصادي، وبالتالي النمو الحضاري.

المصدر: كتاب الخطاب العربي المعاصر.. عوامل البناء الحضاري في الكتابات العربية

ارسال التعليق

Top