• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عولمة الثقافة

د. محمَّد الحفناوي

عولمة الثقافة

لعل أكبر التحديات التي تواجه العولمة، عولمة الثقافة، فالعولمة تمثل تهديداً للذاتية الثقافية للأُمم والشعوب[1].

حيث تنبأ هنتجتون بأنّ الصراع في العالم سيكون صراعاً بين الحضارات بدلاً من كونه صراعاً بين الأيديولوجيات أو القوميات وأنّ الصدام المتوقع من وجهة نظره سيكون بين الغرب والحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية على وجه الخصوص[2].

ومن ثمّ فإنّ عولمة الثقافة تصبح شكلاً من أشكال فرض السيطرة والأضواء من جانب الدول الكبرى والتي كانت وستظل موجودة رغم اختلاف الآليات المستخدمة وتعدد الصور والأشكال.

وتمثل تجليات العولمة الثقافية في السلبيات والمخاطر والهيمنة والتجاوزات التي تمارسها الدول الكبرى على دول العالم الثالث ويحدث ذلك من خلال المبادئ والأهداف الحقيقية وغير المعلنة لأنظمة العولمة.

ويرى كثيرون أنّ عولمة الثقافة هي أخطر أنواع الاستعمار إلى الحد الذي ذهب معه البعض إلى القول بأنّ تنميط الثقافة هو الحرب العالمية الثالثة غير المعلنة بين الشعوب الأكثر نمواً وتلك الأقل نمواً بشكل خاص.

ويشهد التاريخ أنّ الثقافة العربية والإسلامية كانت هدفاً رئيسياً للهجوم بأي سلاح كان وبأي وسيلة كانت مباشرة وغير مباشرة بالطرق العسكرية أو السليمة وذلك إدراكاً لخصوصيتها ومكانتها فعملت تلك القوى على تغريب الثقافة العربية الإسلامية في مضامينها ولم تكتف أن تزرع فيها القناعة بأنها متخلفة بل وأنّ سبب هذا التخلف هو ارتباطها بتراثها وقيمها الأصلية، فصار هناك تغريب في التعليم والإعلام وكلّ شؤون الحياة[3].

واستناداً إلى أنّ احتلال الثقافة يعني احتلال العقل والفكر لشعب من الشعوب فقد حرص الاستعمار التقليدي أوّل ما حرص على تقويض البنيان الثقافي وطمس الهوية الحضارية وإضعاف الانتماء للثقافة المحلية ليسهل عليه بعد ذلك إحكام السيطرة على الدول المستعمرة فيعمل أوّل ما يعمل على نشر لغته وأفكاره وعاداته وتقاليده.

فكانت الأفكار النازية ومحاولة فرض الهيمنة السبب الرئيسي وراء قيام الحرب العالمية الثانية ومن بعدها كان نشوب الحرب الباردة التي ظلت لسنوات طويلة بين المعسكرين الشرقي والغربي وكانت في الأساس صراعاً أيديولوجياً دفع الاتحاد السوفيتي على أثره تكاليفاً باهظة ساهمت بدورها في الانهيار الذي حدث لدويلاته في حقبة التسعينات فكان يدفع أربعة مليارات دولار سنوياً في حرب فيتنام وكان ثمن نفوذه في كوبا خمسة مليارات دولار وفي أنجولا وموزمبيق وأثيوبيا ثلاث مليارات دولار حتى بلغت تكاليف الإمبراطورية العالمية خارج الحدود 35 مليون دولار يومياً لا تتدخل فيها نفقات احتلال أفغانستان والدعم الاقتصادي للحكومة الموالية في كابول حث بلغت خسارة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وحدها خمسين مليار دولار. كلّ ذلك كان ثمن النفوذ والتبشير بانتصار الشيوعية العالمية وبحتمية هزيمة الإمبريالية[4].

ولم يكن المعسكر الغربي يخشى صواريخ وأسلحة المعسكر الشرقي بقدر ما كان يخشى الفكر الشيوعي بل أنّ إنشاء الآسيان في أغسطس 1967م جاء في إطار ترتيبات الأمن الإقليمي في مواجهة المد الشيوعي والاضطلاع بدور المجتمع الدبلوماسي وإدارة المشاكل ذات الانعكاسات المشتركة في المنطقة.

فلم يهدأ للغرب بال حتى سقطت الشيوعية كأيديولوجية ونظام حكم فكان الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة يبذل الغالي والثمين تحت مسميات التعاون تارة والمعونة تارة أخرى بفرض الحد من المد الشيوعي والفكر الاشتراكي وكان الدليل على ذلك واضحاً حيث تغيرت سياسة المعونات كثيراً في مرحلة ما بعد الحرب الباردة والتحول نحو عالم أحادي القطب، بل أنّ بعض الدول المانحة اليوم تحرص على تقديم المعونات إلى الدول ذات الصلة الثقافية بها فنجد فرنسا على سبيل المثال تخفض الديون للدول الناطقة بالفرنسية[5].

 

مبادئ وأهداف العولمة الثقافية:

تتمثّل تجليات العولمة الثقافية في السلبيات والمخاطر والهيمنة والتجاوزات التي تمارسها الدول الكبرى على دول الأطراف ودول العالم الثالث ويحدث ذلك من خلال المبادئ والأهداف الحقيقية وغير المعلنة لأنظمة العولمة ومن هذه الأهداف:

أوّلاً: إزالة الحواجز الزمانية والمكانية والثقافية بين الأُمم والشعوب، في محاولة بشتى الطرق لفرض ثقافات وقيم حضارية هي قيم وثقافات الحضارة الغربية[6].

وذلك من خلال الترويج لمفهوم القرية الكونية التي تجمع بين جنباتها شوارع وحواري وأزقات عديدة، لكن هذه الشوارع والحارات والأزقة تصب في النهاية في شارع رئيسي واحد هذا الشارع هو الذي يتحكم في الداخل والخارج والبائع والمشتري إذ ليس لهذه الشوارع والحارات والأزقة أي قيمه إلا من خلاله ثم إنّه لا توجد حواجز بين هذه الشوارع الصغيرة والحارات وغيرها[7]. وقد تستخدم في ذلك جميع الوسائل من قوة وإغراء في فرض السيادة مستخدمة في ذلك وسائل الإعلام الموجه من أجل إذابة جميع القيم الأصلية وإحلال مذاهب وقيم جديدة محلها، كما ظهرت على الساحة ظاهرة الذوبان وهي زوال الحاجز بين الحقيقة والخيال وبين الوهم والواقع نتج عنه مرض يسمى مرض نقص القدرة على الانتباه وهذا المرض يقلل الحساسية ضد العنف والقسوة مما يؤدي في النهاية إلى ارتكاب العنف يصبح شيئاً طبيعياً معتاداً عليه[8].

ثانياً: فرض الهيمنة. من أهم أهداف أنظمة العولمة هو فرض هيمنة الدول الكبرى وسيطرتها على جميع المجالات لصالح فئة قليلة تمتلك المال والقوّة والسلطة وتسيطر على مقدرات العالم مستخدمة في ذلك فرض العقوبات على من يحاول الخروج عن الإطار الذي تحدده سلطاتها، ومن هنا فنظام العولمة قوة طاردة مركزية تقلع الإنسان من جذوره ومن ترتبه ليخلخل النسيج الاجتماعي بسببه فهو لا يعترف بالصالح العام بل يعترف بمصالحه هو فقط[9].

ونجحت بالفعل في تفكيك الاتحاد السوفيتي والفضاء على أكبر قوة عسكرية اقتصادية ثقافية. كما تحاول أيضاً إضعاف القوة السياسية والدينية عن طريق إشعال نار الطائفية والإدعاء بحماية الأقليات من الاضطهاد الديني المزعوم[10].

ثالثاً: الحرِّية المطلقة. عملت العولمة على إتاحة الحرية المطلقة في كلِّ شيء ما عدا ما يمس قوتها وسيادتها فقد أطلقت الحرية أمام الشواذ جنسياً فأصبح حقاً للمتماثلين جنسياً في الزواج والطلاق وأصبح يمارس هذا الشذوذ على الملأ دون حرج، بل وأصبحت الدول التي تقف من هذا الموقف المعارض دولاً قمعية محرومة من الحريات الشخصية، وليس أدل على ذلك عندما تدخلت أمريكا عندما أخذت شابين تزوجا من مدينة الزقازيق وسافرا إلى أمريكا بالضغط على الحكومة.

رابعاً: كما تنطلق مبادئ العولمة من منطلق أنّ من ليس معنا فهو ضدنا وتهدف من وراء ذلك إلى تبعية الأطراف للمركز لهذا فهي تلقى كلّ يوم على العالم بعده مفاهيم جديدة مثل حقوق المرأة وحقوق الإنسان والأقليات والخصخصة وتعميم قيم الاستهلاك والمتعة بالحياة وما على الدول النامية إلّا ركوب القطار الذي يحدد المركز اتجاهه وسرعته ونوع حمولته، فإذا ما اتسعت المسافة بين الأغنياء والفقراء انتشرت الجرائم المنظمة وازدهر الجنس متعة رخيصة لمن يملك المال ولمن يبيع الرقيق الأبيض وضاعت القيم الأخلاقية وازداد التفكك الأسري والتشرد الاجتماعي وانقلبت القيم وسري الخوار في الروح فتنهار الأُمم والشعوب[11].

الهوامش:


[1]- سعيد نجيدة: العولمة وحرية الإعلام، ص157-158.

[2]- صمويل هنتجتون: صدام الحضارات، ص10.

[3]- ساعد العربي الحارثي: البث المباشر حرب بالكلمة والصوت والصورة، المجلة العربية، العدد 175، 1992م، ص24.

[4]- رجب البنا: البحث عن المستقبل (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م)، ص234-235.

[5]- عبدالمنعم طلعت: إدارة المستقبل، الترتيبات الآسيوية في النظام العالمي الجديد (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م)، ص19-20.

[6]- محمّد حمدي زقزوق: الإسلام في عصر العولمة والمؤتمر الدولي الرابع للفلسفة الإسلامية، دار العلوم، جامعة القاهرة، 1999م، ص27.

[7]- محمود عبدالفضيل: مصر والعالم على أعقاب الفية جديدة (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002م)، ص116-117.

[8]- حسين كامل بهاء­الدين: الوطنية في عالم بلا هوية، ص28.

[9]- حسين كامل بهاء­الدين: المرجع السابق نفسه، ص75.

[10]- محمد يوسف الجندي: العولمة والأممية (القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1999م)، ص28-30.

[11]- حسن حنفي: الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، الإشكال النظري، المؤتمر الدولي الرابع، دار العلوم، ص343-345.

المصدر: كتاب دور الصحف في التثقيف بقضية العولمة

ارسال التعليق

Top