• ٩ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ١ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مع اليهود في سورة الجمعة

السيد محمد علي السيد عبد الرؤوف

مع اليهود في سورة الجمعة

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (الجمعة/ 5-7).

  - مع الصورة القرآنية الناطقة: تحاول هذه الآية من سورة الجمعة التركيز على مفهوم واقعي هام يفرض نفسه في حياة الإنسان حيز ينظر إلى الأشياء والمعاني بواقعية وموضوعية.. مفهوم تجانس الفكرة مع الأسلوب، والإيمان مع العمل، فلا يتحرك فكره ويقينه فى اتجاه وأسلوب وعمله في اتجاه آخر، ليعيش التناقض بينهما والانفصام. ويضرب الله سبحانه لذلك مثلاً واقعياً معاشاً، يتمثل بالذين أظهروا الانتماء لرسالة موسى (ع) بحمل كتابه "التوارة" وانتسبوا إلى شعار اليهودية ثم تجاوزوا تلك التوراة وتعاليمها.. فقد حَّملهم الله سبحانه لها عن طريق رسوله موسى (ع) بتعليمها لهم، ووضعها بين أيديهم بواقعها ومضامينها وشرعها، ولكنهم تعاملوا معها بالإهمال وبترك حملها حين تركوا العمل بما فيها من أحكام ومبادىء وتشريعات وقيم وبشائر، فضربَ الله سبحانه لهم مثل الحمار الذي يحمل الأسفار، وهي الكتب التي تسفر عن الحقائق العلمية، دون أن يفهم قيمة ما يحمل على ظهره رغم معاناة شدة الحمل وصعوباته... والآية هنا تحاول إعطاء مفهوم عام للإنسان – بشكل عام – وللمسلمين بالخصوص، يتمثل بالتحذير من الوقوع في حالة التصادم بين الشعار المطروح والأسلوب المعتمد في مواقع العمل. فالرسالة أمانة الله وأمانة الرسول لدى الإنسان، وتجاوزها عملياً يمثل الخيانة لأمانة العقيدة والشريعة الملقاة على عاتقه. وكأنه من خلال هذا الطرح، يحذرنا كمسلمين من تحويل القرآن، من كتاب عمل والتزام بنهج وقيم، إلى مجرد شعار وعنوان لا تتحرك القاعدة على أساسه ولا تنظر إليه كمحرِّك للقوى والطاقات داخل الساحة، للانطلاق نحو الواقع الأفضل، كي لا نكون مجرد حيوانات بلهاء، لا تعي ولا تستوعب ما تحمله على ظهرها من كنوز، كما هو حال الكثير من المسلمين في واقعنا المعاصر، الذين ينطبق عليهم حديث القرآن وفي سورة الفرقان: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان/ 30)، الذي يظهر منه إرادة الهجران العملي.   - حديث التوراة عن خاتم الأنبياء: ولعل الآية تشير ضمن ما تريد الإيحاء به، إلى تعامل اليهود مع بعض مضامين التوراة، بالتجاهل والسكوت والإخفاء، حين تتحدث عن النبي الموعود، الذي يحمل الشريعة التي تسبق القيامة، كما توحي بل تصرح به بعض آيات القرآن، كما في سورة الصف: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ...) (الصف/ 6). وفي سورة الأعراف: (.. النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ...) (الأعراف/ 157)، وفي سورة البقرة: (.. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة/ 146)، مما يعطي صورة عن حديث التوراة وغيرها من كتب السماء لإثبات حقيقة الرسالة الإسلاميّة، ويفرض عليهم اتباعه والإيمان به. ولعل ما توحي به السيرة المروية أن تعامل اليهود مع عرب الجزيرة على أساس التبشير بقرب بعث الرسول الموعود، وأنه لهم وحدهم، وأنه حامل خاتمة الرسالات، ولكنهم عادوا فتناسوا ذلك ورفضوه عناداً واستكباراً. وانطلاقاً من هذا... استحقوا الذم والرفض من الله سبحانه، حين كذبوا آيات الله التي أنزلت إليهم من خلال التوراة... فإن ترك العمل بمضامينها يمثل تكذيباً عملياً لها: (.. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ...) (الجمعة/ 5)، فاستحقوا الرفض من الله، والتجاوز وترك الاعتناء بهم، وعدم امدادهم بالتوفيق للوصول إلى مرحلة الهدايا، لأنهم ظلموا أنفسهم بتجاوزهم لما ورد في كتبهم أو توراتهم: (..وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الصف/ 7).   - دعوة للعودة إلى الواقع: ثم تنطلق السورة... نحو خطاب هؤلاء اليهود، بعد أن رسمت صورتهم العامة، لتندد بما يعيشونه... من استكبار وتعالٍ على كل مواقع البشرية واستهتار بكل ما عدا بني إسرائيل من بني الإنسان... فتقول: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة/ 6-8). فتطرح الصورة التي يرسمونها لأنفسهم... صورة التعالي والاستكبار على كل الآخرين من الناس، لتواجههم هذه الآيات بعد ذلك بالتحدي... حين تضعهم في مواقع الامتحان والاختبار. فهم حين ينظرون نظرة مقارنة فيما بينهم وبين الآخرين من بني الإنسان، يعطون ذاتهم ميزة الاختصاص بالله، وأنهم وحدهم أولياء الله- مما يوحي بعظمتهم وحقارة مَن سواهم! مما دفعهم للاستهتار بذلك الغير، ولإعطاء أنفسهم حقاً كاذباً على الآخرين: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ...) (المائدة/ 18). فقد تعاملوا في طروحاتهم التقييمية لأنفسهم وللآخرين على أساس الطرح العنصري الذي ينطلق في حكمه على الإنسان من خلال العنصر الذي يكوّنه، والقوم الذين انحدر عنهم... فإن انحدارهم من العنصر السامي يعطيهم – لدى أنفسهم – أفضلية وتقدماً على الآخرين أياً كانوا. ومن هنا رسموا لأنفسهم صورة الشعب المميَّز، فكانوا الناس الذين خلقت الحياة كلها لأجلهم وكانت الجنة لهم وحدهم، وكان حق الحياة لهم لا لغيرهم. بل ذلك الغير الذي يماثلهم في صورة الخلق لا يمثل قيمة وأهمية في الوجود، لأنه من الحيوانات الحقيرة التي أعطيت صورتهم، وخلقت على شاكلتهم، لتكون صالحة لخدمتهم، فلا ينفرون منها... إنهم وحدهم شعب الله المختار...!!   - مع بعض تعاليم التلمود: ونحن حين نحاول استيضاح الصورة التي رسموها لأنفسهم... وامتازوا بها عن غيرهم من الناس... فبالإمكان تلمّس خطوطها العامة... في كتاب التلمود الذي يعطونه صفة قداسةٍ تتجاوز قداسة التوراة. والتلمود كلمة عبرية تعني النظام... كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية لفريد وجدي ج2 ص687 "وهو مجموعة من التعاليم التي قررها أحبار اليهود شرحاً للتوراة واستنباطاً من أُصولها" فهو إذاً تعاليم الأحبار التي لا يأتيها الباطل ولا تشملها الأخطاء بزعمهم بخلاف التوراة التي يمكن عليها الخطأ كما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون "لشوقي عبد الناصر ص22" لأن الله يجوز عليه الخطأ دون الأحبار الذين لا يخطئون. وقد أشار الدكتور روهانج في كتابه "الكنز الموجود في قواعد التلمود" ترجمة د. يوسف نصر الله سنة 1899 "وهم يقدسون التلمود ويعتبرونه أهم من التوراة... ويقولون فيه إنّ من احتقر أقوال الحاخامات، استحق الموت، وأنه لا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود وتمس بالتوراة فقط، لأن أقوال علماء التلمود، أفضل مما جاء في شريعة موسى، وأنّ مخافة الحاخامات هي من مخافة الله، وأنّ من يقرأ التوراة دون التلمود ليس له إله... وجاء في التلمود أنّ تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها أو تغييرها ولو بأمر من الله. ويقولون: لقد وقع الخلاف بين الله وعلماء اليهود في أمر من الأمور... وبعد أن طال الجدال أحيل الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الله مما اضطره سبحانه تعالى للاعتراف بخطئه"! وإذا كان للتلمود هذه القداسة والأهمية في نظرهم... لا بد لنا من التوقف قليلاً أمام الصورة التي يرسمها لليهود من بني إسرائيل، في مقابل الجوييم – أي الاميين – وهو تعبير عن كل من هو من غير اليهود من الأُمم... فمن التعاليم المذكورة في كتاب البروتوكولات المذكور آنفاً ص33 وما بعدها: "تتميز أرواح الَيهود عن باقي الأرواح بأنها جزءٌ من الله، كما أنّ الابن جزءٌ من أبيه وأرواح اليهود عزيزة عند الله بالنسبة لباقي الأرواح، لأنّ الأرواح غير اليهودية هي أرواح شيطانية تشبه أرواح الحيوانات". ومنها: "إنّ نطفة غير اليهودي كنطفة باقي الحيوانات" و"النطفة المخلوق منها باقي الشعوب هي نطفة الحصان" ومنها "النعيم مأوى أرواح اليهود... ولا يدخل الجنة إلا اليهود أما الجحيم فمأوى الكفار مهما اختلفت أسماؤهم ودياناتهم" ومنها لو لم يخلق اليهود لانعدمت البركة من الأرض" ومنها "الفرق بين الإنسان والحيوان، كالفرق بين اليهودي وباقي الشعوب" ومنها "الخارجون عن دين اليهود خنازير نجسة" ومنها "أنّ الكنائس النصرانية بمقام قاذورات وأنّ الواعظين فيها أشبه بالكلاب النابحة" ومنها "خلق الله الأجنبي على هيئة إنسان فقط ليكون لائقاً لخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا لأجلهم". ومنها "لا يأتي المسيح إلاّ بعد انتهاء حكم الأشرار الخارجين على دين بني إسرائيل... وحينما يأتي المسيح تطرح الأرض فطيراً وملابس من صوف وقمحاً... كل حبة منه بقدر كلية الثور الكبير... وفي ذلك الزمن تعود السلطة لليهود، وكل الأُمم تخدم ذلك المسيح وتخضع له". وهذا غيض من فيض... من الصور التي يصورها التلمود لليهود في مقابل غيرهم من الأمم. أما كيف يتعامل اليهودي مع الآخرين في الحياة؟ فيرسم لنا التلمود خطوطه، فمن ذلك: "يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع استملاك باقي الأُمم في الأرض لتبقى السلطة لليهود وحدهم" ومنه "قتل المسيحي من الأُمور الواجب تنفيذها... وأن العهد مع المسيحي لا يكون عهداً صحيحاً يلتزم به اليهودي". ومنه "الأجانب كالكلاب، والأعياد المقدسة لم تخلق للأجانب ولا للكلاب، والكلب أفضل من الأجنبي، لأنه مصرَّح لليهودي في الأعياد أن يطعم الكلب، وليس له أن يطعم الأجنبي أو يعطيه لحماً، بل يعطيه للكلب لأنه أفضل منه". ويقول: "ليس من العدل أن يشفق الإنسان على أعدائه ويرحمهم" ومنه "يحق لليهودي أن يغش الكفار" منه "محظور على اليهودي أن يحيي الكافر بالسلام... إلاّ إذا خشي بطشه... والنفاق جائز في هذه الحالة على شرط أن يهزأ بهم سراً".   - كل ما للناس هو لليهود في نظر التلمود: ويقول "والسرقة مسموح بها من مال غير اليهودي... ولا تعتبر هذه سرقة بل استرداد لمال اليهود... وأموال غير اليهود مباحة لليهود فخذوا منها دون شغل أو تعب" ويقول: "وإذا جاء أمامك الأجنبي والإسرائيلي بدعوى فإذا أمكنك أن تجعل الإسرائيلي رابحاً فافعل، واستعمل الغش والخداع في حق الأجنبي، حتى تجعل الحق لليهودي". ويقول: "إذا احتاج غير اليهودي بعض النقود، فعلى اليهودي أن يستعمل معه الربا المرة بعد الأُخرى، حتى يعجز عن سداد ما عليه، إلا بتنازله عن جميع أملاكه وأمواله" ويقول: "اقتل الصالح المجدَّ من غير اليهود". ويقول: "محرم على اليهودي أن ينجي أحداً من الأجانب من هلاك أو ينقذه من حفرة يقع فيها بل عليه أن يسدها بحجر" ويقول: "الزنا بغير اليهود ذكوراً كانوا أو إناثاً لا عقاب عليه لأنهم من نسل الحيوانات". إنه يعطينا الصورة الواقعية لليهود، ونظرتهم الاستعلائية على غيرهم من الأُمم، وطريقة تعاملهم معهم في كلٍ من حالات الضعف وحالات القوة، وذلك ما نلمسه من الطريقة التي يعاملون بها الآخرين اليوم في فلسطين... بل وفي مختلف مواقع تواجدهم في هذا العالم. إنهم كما يذكر القرآن، يطرحون أنفسهم وكأنهم الوجود الأول والأخير للإنسان أمام الله سبحانه، فهم أولياؤه من دون الناس. وعلى هذا الأساس واجههم بالتحدي الكبير حين طالبهم بتمنّي الموت، لأنهم حين يعتبرون الدار الآخرة والجنة لهم وحدهم، فهم بالموت سينتقلون إلى النعيم الأكبر والسعادة الدائمة، وذلك ما لا يرفضه عاقل... لكن القرآن يعود ليوضح الحقيقة وأبعاد الموضوع حين يقرر: (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ...) (الجمعة/ 7)، وذلك لعامل شعورهم بالذنب وظلمهم لأنفسهم وللمجتمعات التي يعايشونها وولوغهم في أجواء الفساد والتحلل كما يوضح القرآن صورتهم (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...) (المائدة/ 82). فأسلوبهم يتناقض مع حالة الإيمان بالله، ويتنافى مع أجواء الإيمان مما جعلهم يخشون الموت، ويحبون الحياة الدنيا. وهذه هي صورتهم التي ترسمها التوراة التي بين أيديهم... ففي سفر الخروج إصحاح 14: "خرج بنو إسرائيل من أرض مصر وعدتهم ستمائه ألف وتبعهم فرعون وجنوده، ففزعوا جداً- وصرخوا إلى الرب وقالوا لموسى: هل لأنه ليست قبور في مصر فأخذتنا لنموت في البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟" ويشير في سفر الخروج إصحاح 6: "قال بنو إسرائيل لموسى وهارون ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر... إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزاً للشبع". من هنا لا مجال لهم لإخفاء هذه الحقيقة على الله عالم الغيب والشهادة... (.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (الجمعة/ 7)، لا يخفى عليه شيء من واقعهم، وأدوارهم السرية والعلنية- في الحياة الخاصة والعامة. لكن القرآن يعود ليقرر لهم بعد ذلك هذه الحقيقة الصارخة التي لا مجال لتجاوزها أمام أي مخلوق، في الحياة الدنيا، مما يدعوهم لتحصيح الواقع الحياتي الفكري والسلوكي، فالموت حقيقة لا مجال للخلاص منها... (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ...) (الجمعة/ 8)، وعندما تقفون أمامه، فعليكم مواجهة أنفسكم وظلمكم وانحرافاتكم، لتحددوا المصير والموقف منذ الآن قبل مواجهة ما لا ينفع معه الندم والحسرة... (.. ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ...) (الجمعة/ 8)، ذلك الإله الذي لا مجال لإخفاء واقع نفاقكم وغشكم وظلمكم لأنفسكم وللآخرين، من أبناء المجتمعات البشرية، عنه، أنّه سيواجهكم بكل ذلك الواقع السيّء... (.. فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجمعة/ 7)، ويخبركم بكل العمل الرهيب الذي مارستموه وخططتم له وستكون النتائج قاسية صعبة، تتمثل بالعذاب الأليم. ولا مجال هناك للغفران، لأنه إنما يكون يتحقق إذا تحققت التوبة والإنابة، قبل النهاية الحياتية المحتومة. إنه سبحانه من خلال آيات سورة الجمعة – بل والكثير غيرها – يحدد لنا واقع هؤلاء الذين عانينا كما عانت البشرية من ظلمهم ونفاقهم واستهتارهم بكل حقوق الإنسان وقيم الحياة، بل ودماء الأبرياء... وكل قضاياهم وواقعهم. ومن خلال ذلك يدعونا للحذر والحيطة، من خططهم وأساليبهم ودسائسهم من جهة، ويدعونا لمواجهتهم والاستعداد لهم بكل الطاقة المتوفرة. وبدون ذلك الحذر والإعداد، سنكون طعمة لمخططاتهم تلك وأطماعهم. والتاريخ يحدثنا كم عانت القيادة الإسلامية الممثلة برسول الله (ص) من واقعهم، واقع الكذب والغش والتآمر، ونقض العهود.   المصدر: مجلة نورالإسلام/ العددان 19و20 لسنة 1991م

ارسال التعليق

Top