• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مفهوم الزهد الحقيقي

جعفر يوسف الحداد

مفهوم الزهد الحقيقي
◄يتفاوت الناس في فهم المعنى الحقيقي للزهد في الدنيا، وتتباين الأفهام وتتعدد المسالك، وتختلف التصورات والاعتبارات في حياتهم، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى حدوث تناقضات في سلوكيات الناس حيال مفهوم الزهد، فتراهم يسرفون في تمثل هذا المعنى تارة، ويقترون في ذات المفهوم تارة أخرى.

ولذلك لما قيل للزهري: ما الزهد؟ قال: أما إنّه ليس تشعيث اللمة، ولا قشف الهيئة، ولكنه صرف النفس عن الشهوة.

وسُئل الإمام أحمد: هل يكون المرء زاهداً ومعه ألف دينار؟ قال: نعم، قيل: وما آية ذلك؟ قال: آيته إذا زادت لا يفرح، وإذا نقصت لا يحزن.

قال ابن السماك: الزاهد هو الذي إذا أصاب الدنيا لم يفرح وإذا أصابته الدنيا لم يفرح وإذا أصابته الدنيا لم يحزن، يضحك في الملا، ويبكي في الخلا، أي يكون مع الناس في مؤانسة وبشاشة فإذا خلا بنفسه ذكر الله ففاضت عيناه.

إذن.. فالزهد ليس الامتناع عما ينفعك من الدنيا ويكون قوة لك على السير ومعونة على السفر، بل حقيقة الزهد هي أن تزهد فيما لا ينفعك، والورع أن تتجنب ما يضرك، وقال أبو مسلم الخولاني: ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضافة المال، إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك، وإذا أصبت بمصيبة كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك.

وعن يونس بن ميسرة قال: الزهادة أن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامّك في الحق سواء[1].

 

مفهوم الزهد عند الزهاد:

قال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف: فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فالزهد الفرض الزهد بالحرام، وزهد الفضل الزهد بالحلال، والزهد السلامة الزهد بالشبهات[2].

وقد اختلف الناس: هل يستحق اسم الزاهد من زهد في الحرام خاصة، ولم يزهد في فضول المباحات أم لا؟ على قولين: أحدهما: أن يستحق اسم الزهد في فضول المباح، وهو قول طائفة من العارفين وغيرهم، حتى قال بعضهم: لا زهد اليوم لفقد المباح المحض، وهو قول يوسف بن أسباط، وفي ذلك نظر.

وكان يونس بن عبيد يقول: وما قدر الدنيا حتى يمدح من زهد فيها؟ وقال أبو سليمان الذري: اختلفوا علينا بالعراق، فمنهم من قال: الزهد في ترك لقاء الناس، ومنهم من قال في ترك الشهوات، ومنهم من قال في ترك الشبع، وكلامهم قريب من بعضه البعض، قال: وأنا أذهب إلى أنّ الزاهد في ترك ما يشغلك عن الله عزّ وجلّ[3]، وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن وهو يجمع جميع معاني الزهد وأقسامه وأنواعه[4].

الفهم الصحيح للزهد: جاء رجل إلى الحسن فقال: إنّ لي جاراً لا يأكل الفالوذج فقال: ولم؟ قال: يقول لا أؤدي شكره، فقال: إنّ جارك جاهل وهل يؤدي شكر الماء البارد؟ وكان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج واللحم المشوي، ويقول: إنّ الدابة إذا أحسنت إليها عملت[5].

وقد قالت رابعة: "إن كان صلاح قلبك بالفالوج فكله"، ولا تكونن أيها السامع ممن يرى صور الزهد في التقلل من النعيم، فرب متنعم لا يريد التنعم وإنما يريد المصلحة، وليس كلّ بدن يقوى على الخشونة، خصوصاً من قد لاقى الكد وأجهده الفكر، أو عضّه الفقر فإنّه إن لم يرفق بنفسه يترك واجباً عليه من الرفق[6].

ومتى نوى المؤمن بتناول شهواته المباحة التقوّي على الطاعة كانت شهواته له طاعة يثاب عليها، كما قال معاذ بن جبل: إنني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، يعني أنّه ينوي بنومه التقوي على القيام في أخذ الليل، فيحتسب ثواب نومه كما يحتسب ثواب قيامه، وقال الحسن: ليس من حبك للدنيا طلبك ما يصلحك فيها، وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه.

من هنا يدرك المسلم حقيقة التعامل مع الدنيا وفقه الأخذ منها بما يبلغه جنات النعيم، وهي حينئذٍ تكون قنطرة يعبرها الإنسان لتصل به إلى الجنة، وما شقاء الناس إلا بسوء استخدامها لتلك القنطرة إلى غيرها، فكانت لهم وبالاً في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/ 124).

يقول الإمام ابن الجوزي: ولقد رأينا وسمعنا العوام يمدحون الشخص فيقولون: لا ينام الليل، ولا يفطر النهار، ولا يعرف زوجته، ولا يذوق من شهوات الدنيا شيئاً، قد نحل جسمه، ودق عظمه، فهو خير من العلماء الذين يأكلون، وما علموا أنّ الدنيا كلها لو اجتمعت في لقمة فتناولها عالم يفتي عن الله ويخبر بشريعته كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيراً وأفضل من عبادة ذلك العابد باقي عمره.

وقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول (ص) ولا أصحابه من إظهار التخشع الزائد في الخلق، والإفراط في تخشين الملبس، وأشياء صارت لأقوام كالمعاش يجنون من أرباحها تقبيل اليد، وتوفير التوقير، وحراسة الناموس، وأكثرهم في خلوته على غير حالته في جلوته، وقد كان ابن سيرين يضحك في الناس قهقهة، وإذا خلا بالليل فكأنه قتل أهل القرية[7].

الزهد بالوجاهة عند العارفين: قال عبدالله بن المبارك: حدثني بكار بن عبدالله أنّه سمع وهب بن المنبه يقول: كان رجل من أفضل أهل زمنه، وكان يُزار فيعظهم فاجتمعوا إليه ذات يوم فقال: إنا قد خرجنا عن الدنيا وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان أعظم وأكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم، وعلى الملوك في ملكهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضي له الحاجة، وإذا اشترى أن يُحابى لمكان دينه، وأن يعظّم إذا لقي الناس لمكان دينه، وجعل يعدد آفات العلماء والعُبّاد الذين يدخلون عليهم في دينهم من حب الشرف والتعظيم.

من أجل ذلك نرى أنّ كثيراً من العلماء والزهاد يحذرون كلّ الحذر من أن يخالط نفوسهم شيء من ذلك، فقد كان محمد ابن يوسف بن معدان زاهداً، وكان عبدالله بن المبارك يسميه عروس الزهاد، وكان لا يشتري خبزه إلا ممن لا يعرفه، يقول: أخشى أن يحابونني فأكون ممن يعيش على دينه[8].

قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى/ 20).

"ونظرة إلى طلاب حرث الدنيا، وطلاب حرث الآخرة تكشف عن الحماقة في إرادة حرث الدنيا، فرزق الدنيا يتلطف الله فيمنحه هؤلاء وهؤلاء، فلكلِّ منهما نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله، ثمّ يبقى حرث الآخرة خالصاً لمن أراده وعمل فيه، وإنّه لا اختلاف بين الفريقين – طلاب الدنيا وطلاب الآخرة – في هذه الدنيا، وإنما يظهر الاختلاف والتمايز في الآخرة، فمن هو الأحمق الذي يترك حرث الآخرة وتركه لا يُغيِّر شيئاً من أمره في هذه الحياة"[9].

عن عليّ (ع) عنه قال: "الحرث حرثان: فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات"، وقال مالك بن دينار: "لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر الخزف الذي يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى؟"، وهكذا هو المؤمن لا يضره متاع الدنيا وزخرفها فتختل عنده الموازين وتضطرب لديه المقاييس فيراها بصورة مختلفة، بل ينفذ بصره إلى أعماق الأشياء وحقائقها فيدركها ثمّ يزنها بميزان الشرع، ويدرك حينئذٍ قيمتها فيحسن التعامل معها.

 

الهوامش:

[1]- جامع العلوم والحكم، ص181-182.

[2]- رواه أبو نعيم في الحلية.

[3]- الحلية: 9/ 258.

[4]- جامع العلوم والحكم، ص186.

[5]- المقصود بالدابة البدن، والإحسان إليها: إعطاؤها حقها من الطعام والشراب والراحة.

[6]- صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي، فصل (36)، ص109.

[7]- صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي.

[8]- البداية والنهاية.

[9]- في ظلال القرآن، الشهيد سيد قطب، ج5.

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1246 لسنة 1997م

ارسال التعليق

Top