• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مميزات المعمار اليوناني

د. عبدالرّحمن بدوي

مميزات المعمار اليوناني

من أبرز مميزات المعمار اليوناني: العمود

والغرض من العمود هو الحمل؛ وعلى الرغم من أنّ صفّاً من الأعمدة موضوعة بعضها إلى جنب بعض في خط مستقيم، يرسم حدّاً، فإنّه مع ذلك لا يكوّن محيطاً مثلما يفعل الحائط أو السور الحقيقي، بل هو بعيد من الحائط بالمعنى الحقيقي وينتصب بكلِّ حرية. ولما كان الحمل هو الغرض الوحيد من العمود، فإنّ من المهم قبل كلّ شيء أنّه فيما يتعلق بالحمل الذي يستند على العمود، فإنّه يجب ألا يكون قوياً جدّاً، ولا ضعيفاً أبداً، وألا يبدو على العمود أنّ الحمل يسحقه، كما لا ينبغي أيضاً أن يبدو العمود وكأنّه من خفة الحمل يصّاعد نحو الأعالي بخفّة بالغة، وكأنّه يتلاعب بحمله.

وكما يتميز العمود من الجدار أو السور الذي يكوّن محيطاً. كذلك يتميز من السارية. ذلك أنّ السارية تغوص مباشرة في الأرض هناك حيث يوضع فوقها حِمْل. ولهذا السبب فإنّ طول السارية ونقطة انطلاقها ومظهرها تبدو ناتجة عن تحديد سلبي بشيء آخر غيرها، بأمور عارضة لا تتوقف عليها. أما بالنسبة إلى العمود، فإنّ البداية والنهاية هما تحديدان ينبثقان من طبيعة العمود نفسه ولهذا السبب يجب أن يكونا عنصرين خاصّين؛ ولهذا السبب فإنّ العمود الذي يبدعه المعمار الجميل، إذا وصل إلى تمام نضوجه، يملك قاعدة وتاجاً. صحيح أنّ الأعمدة التي تكوّن جزءاً من الطراز التوسكا ليست لها قواعد ويلوح أنها تنبثق من الأرض مباشرة ولهذا فإنّ ارتفاعه يبدو عَرَضياً تماماً: فلا يعرف المرء إلى أي عمق غاص العمود في الأرض تحت ثقل الحِمل الذي يحمله. وحتى لا تظهر بداية غير محددة وعرضية، تعطي قدرة يستند إليه ويكوّن إطلاق البنية الظاهرة لبراعه وكأنّ الفنان يريد أن يقول: العمود يبدو من هنا؛ ومن ناحية أخرى يريد أن يبيّن صلابة العمود ابتغاء أن يشيع فينا الطمأنينة. ولهذا السبب فإنّ الفن يختم العمود بتاج يقصد به إلى بيان أنّ العمود صنع من أجل أن يكون حاملاً، كما أنّه يبدو أنّه يعني أنّ العمود ينتهي هاهنا. فبإعطاء طابع مقصود للبداية والنهاية يمكن إدراك معنى القاعدة والتاج. إنّ لهما نفس المعنى الذي للإيقاع في الموسيقى. إنّ من الممكن أن يختم الكتاب دون أن نكتب: "انتهى الكتاب"، كما يمكن أن نبدأه دون أن نبرز الحرف الأوّل فيه؛ ومع ذلك فإنّ الكتب، خصوصاً في العصر الوسيط، كانت الحروف الأولى فيها تكتب بحلية، وأواخرها تزيّن بزينة، من أجل إبراز نقطة البدء والختمام في الكتب.

وإلى جانب القاعدة والتاج، ثمّ خصائص أخرى للعمود: منها أن يكون اسطوانياً، ذلك أنّ العمود يجب أن يأخذ شكلاً دائرياً، وذلك لإبراز حريته تجاه محيطه. والخط المستدير هو أبسط الخطوط، وأدقها وأكثرها نتظاماً، ويكفي نفسه بنفسه والعمود بشكله الأسطواني يبين أنّه لا يقصد به هو وعدة أخرى مضمومة بعضها إلى بعض أن يكون سطحاً مستوياُ مثل القضبان التي تتقاطع بزاوية قائمة وتصف بعضها إلى جوار بعض فتكّن جدراناً أو حواجز. وإنّ الغرض من العمود هو أن يكون حاملاً، لحسابه الخاص، لا من أجل غيره.

وابتداء من الثلث الأعلى يأخذ العمود في الانكماش: أن حجمه وسمكه ينقصان – والسبب في هذا هو أن ثلثيه السفليين يجب أن يكونا حاملاً للثلث العلوي، وهذه الضرورة الميكانيكية يجب أن تبرز بوضوح دون أن تحتاج إلى جهد في التفسير.

وأخيراً نشاهد في الأعمة أحياناً كثيرة مجاري عمودية الغرض منها هو – من ناحية – تصحيح بساطة الشكل بإحداث بعض التنوع؛ ومن ناحية أخرى: من أجل إظهار الأعمدة – حين يكوّن ذلك ضرورياً – أكثر سمكاً مما هي عليه في الواقع.

 

طُرُز الأعمدة:

وللأعمدة اليونانية طُرُز ثلاثة: هي: الأيوني، والدوري، والكورنتي. وجمالها لم يَفُقْه أي طراز آخر من الأعمدة حتى اليوم.

والطراز الدوري يتميّز بثقل الشكل: وذلك لأنّ ما يسود في هذا الطراز هو العصر المادي بكلِّ ثقله، ويتجلى في النسب بين الارتفاع والغرَض. والمعمار الدوري يتميز بأنّه يقترب – أكثر من الطرازين الآخرين – من البساطة الأولية للمباني التي من خشب، والأعمدة الدورية لا توجد لها – في الغالب الأعم – قواعد، وإنما تقوم مباشرة على الأرض أو البنية التحتانية. والتاج فيها مصنوع من شعار ودائريات. وجذع العمود إما أنّه أملس، وإما أنّه تشقه مجار مسطحة في الثلث الأسفل، وغائرة جدّاً في الثلثين العلويين. أما المسافة بين الأعمدة فإنّها في أقدم الآثار ضعف سُمْك العمود.

وثمّ خاصية أخرى بها يقترب المعمار الدوري من الأبنية الخشبية، وهي الترجليف[1] triglyphes والميتوب metopes والترجليف تكوّن جزءاً من الافرين على شكل قطوع منشورية منقوشة في رؤوس قضبان الارشتراق، التي تحمل الهيكل الخشبي للسقف، بينما الميتوب مهمتها هي ملء الفراغات بين القضبان، وهذه الفراغات لها شكل مربع في المعمار الدوري. وكانت الميتوب غالباً ما تُزَيَّن بالنحوت البارزة.

وإذا كان الطراز الدوري يسعى خصوصاً إلى أن يهب مبانيه رسوخاً قوياً، فإنّ الطراز الأيوني يتميز بالمزيد من المرونة والرشاقة والأناقة هذا مع عدم التخلي عن البساطة. وارتفاع العمود يزيد بمقدار سبع إلى عشر مرّات عن القَطْر السفلي، ويتوقف خصوصاً – في رأي فتروفيوس Vitruvius – على المسافات بين الأعمدة، فإنّ الأعمدة تبدو أكثر نحولاً كلما كانت المسافات بين الأعمدة أكبر.

وما يميز الطراز الأيوني من الدوري أيضاً هو أنّ جذع العمود الأيوني – بخلاف العمود الدوري – لا يستند مباشرة على الأرض أو البنية التحتانية، بل له قاعدة مكوّنة من عدة أجزاء. وفي الجذع الأيوني 24 قناة واسعة، وهو يتصاعد نحيلاً ومرناً، ويتقلص قليلاً صوب التاج. ومن هذه الناحية فإنّ المعبد الأيوني في أفسوس يتعارض تماماً مع المعبد الدوري في بيستم Paestum.

والتاج الأيوني يتميز بالتنوع والجمال والأناقة. إنّه لا يتكون فقط من لفّة bourelet منحوتة وعُصيات وشفرات، بل يلقى أيضاً، عن يمين وشمال التواءات حلزونية، وفي الجانب توجد زينة على شكل لفّة، ومن هنا جاءت تسميتة بأنّه التاج ذو اللفّة.

ونظراً إلى هذا النحول وهذه الزينة في الأعمدة، فإنّ المعمار الأيوني يحتاج إلى هيكل من الألواح أقل ثقلاً، وهذا ما يزيد في لطف أبنيته. وهو أبعد من المعمار الدوري عن الأبنية الخشبية، فلهذا يستغني عن الترجليف والميتوب في الفريز الناعم، ويضع مكانها جماجم حيوانات الأضاحي مجموعة في باقة من الأزهار، بينما رؤس القضبان يحل محلها فكوك هذه الحيوانات.

أما الطراز الكورنثي فيقوم على نفس الأساس الذي يقوم عليه الطراز الأيوني، مضيفاً إلى نحول الأيوني جلالاً مليناً بالذوق وثراءً هائلاً في الزينة والعمود الكورنثي يزيد في الارتفاع عن العمود الأيوني، لأنّ تاجه أكثر ارتفاعاً، ولهذا يبدو أكثر غنى. ذلك أنّ ارتفاع التاج في العمود الكورنثي يبلغ 1/8 من قطره السفلي، وله في أركانه الأربعة زينات أنيقة على شكل حلزوني، والجزء السفلي منه مزين بورقة الأكنثا (شوكة اليهود) acanthi. ولليونانيين أسطورة لطيفة في هذا الشأن. وهي أنّه لما توفيت فتاة صغيرة رائعة الجمال، فإن مربّيتها جمعت كلّ لعبها ووضعتها في سلة، ثمّ وضعت هذه السلة فوق قبر الفتاة؛ وهنالك نبتت في الحال شجرة أكنثا، مالت أوراقها فوق السَّلة محيطة بها من كلّ جانب. ونتج عن ذلك شكل اتخذ نموذجاً لتاج عمود.

الهامش:


[1]- الترجليف: حلية في الافريز الدوري تتألف من علاقتين محفورتين في الفراغ ومن نصف علامتين (على الحوافي) وتتبادل مع الميتوب.

والميتوب هو فصلة تفصل بين ترجليفين في افريز دوري، وتوجد فيها عادةً بلاطة منحوتة.

 

المصدر: كتاب فلسفة الجمال والفن عند هيجل

ارسال التعليق

Top