• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

نظرية العلم في القرآن.. ومدخل جديد للتفسير

أحمد حسين

نظرية العلم في القرآن.. ومدخل جديد للتفسير
◄"مراجعة في كتاب (نظرية العلم في القرآن)، غالب حسن، قم، سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، قم، 1419هـ - 1999م" جاء رجل من الأنصار إلى النبي (ص)، فقال: يا رسول الله، إذا حَضَرت جنازة أو حَضَر مجلس عالِم، أيّهما أحب إليك أن أشهد؟ فقال رسول الله (ص): "إذا كان للجنازة مَن يتبعها ويدفنها، فإنّ حضور مجلس العالم أفضل من حضور ألف جنازة، ومن عيادة ألف مريض، ومن قيام ألف ليلة، ومن صيام ألف يوم، ومن ألف درهم يتصدّق بها على المساكين، ومن ألف حجة سوى الفريضة، ومن ألف غزوة سوى الواجب تغزوها في سبيل الله بمالك ونفسك. وأين تقع هذه المشاهد من مشهد عالِم؟ أما علمت أنّ الله يطاع بالعلم، ويعبد بالعلم، وخير الدنيا والآخرة مع العلم، وشرّ الدنيا والآخرة مع الجهل"[1]. لقد تمحور هدف النبوّة الخاتمة حول تحرير العقل البشري من الخرافة والجهل والإرتقاء بوعي الإنسان وتطهيره من براثن الجاهلية، ولهذا احتل الحث على استخدام العقل، والدعوة إلى التفكير، والتدبُّر، والنظر مساحة واسعة من القرآن، فوردت مشتقات العقل في تسع وأربعين آية، جاءت كلّها بالصيغة الفعلية، من قبيل: يعقلون، تعقلون، تعقل، يعقلها، عقلوه. بينما لم تأت كلمة العقل بالصيغة الإسمية في الكتاب الكريم، وإن وردت مرادفاتها ومقارباتها بهذه الصيغة، مثل: اللب، العلم، الحجى، النهى، الفؤاد، القلب، مضافاً إلى أنّ القرآن يشتمل ما يزيد على ثلاثمئة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكُّر والتدبُّر أو التعقُّل أو التدليل على إثبات الحق وإبطال الباطل. ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه أن يؤمنوا بشيء من دون بصيرة وتدبُّر، حتى أنّه ذكر الكثير من الأحكام في سياق التعليل. ويوحي تلبُّس العقل في تمام الموارد التي جاء فيها من القرآن بالصيغة الفعلية بتوجيه الإنسان نحو أعمال العقل وتوظيفه في الحقل الذي أنيط به، وهو المواظبة على التفكُّر، والتدبُّر، والتبصُّر، والنظر، والتذكُّر، والتفقُّه، وهذه بمجموعها مشاغل تتطلّب فعالية دؤوبة متوثبة للعقل بنحو متواصل. كذلك اهتمّ القرآن إهتماماً بالغاً بتأكيد النظر العقلي، وحثّ على تحصيل العلم والمعرفة، وتجلّى ذلك الإهتمام بوضوح في تكرار مادة العلم ومشتقاته في الآيات الكريمة بما يزيد على تسعمئة مرّة، إذ استهلّ الوحي خطابه للرسول (ص) بالأمر (إقرأ باسم ربّك الذي خلق)، وأردف هذا الأمر بأمر آخر بالقراءة (إقرأ وربُّك الأكرم) (العلق/ 1). ويبدو أنّ الأمر الثاني بالقراءة ليس توكيداً محضاً للأمر الأوّل، وإنّما "طلبت من الرسول قراءتان: قراءة تأتي عبر التعلق بقدرة الله المطلقة في الحركة الكونية، ودون كيفية محددة، تتجلى في الإتجاه بالعلقة إلى مرحلة الإنسان، كما تتجلى في الإتجاه بالحياة إلى الموت وبالموت إلى الحياة. وهي قراءة كونية شاملة لآثار القدرة الإلهية وصفاتها وخلقها للظواهر ذات المعنى، وتحديد هدف حق للخلق. قراءة خالصة لقدرة الله في كتاب كوني مفتوح. هنا تأتي القراءة بإسمه المقدّس، أي قراءة بالله بوصفه خالقاً والخلق صفة يتفرَّد بها الله. وقراءة ثانية ليست هي بإسمه ولكن (بمعيته) لذلك لم تأت الآية في الشطر الثاني على نحو المقدمة، فلم يقل (واقرأ باسم ربّك الأكرم) ولكن (اقرأ وربّك الأكرم) فجعل العطف على الربوبية وأعطى الأمر الثاني (اقرأ) إتِّجاهاً مستقلاً، والأمر واضح بالنسبة إلى حركة الواو في القراءة الثانية، فدليل المعية هنا في (وربّك) ثمّ يتخذ الله في القراءة الثانية صفة دالة على نوعية القراءة المطلوبة، وهي قراءة متعلقة بصفة كون الله كريماً فيما خلق، أي أنّها قراءة في عالم الصفات التي تتجلى في الخلق، وعالم الصفات عالم موضوعي، ولذلك جاءت القراءة هنا عبر علم متعلق بالقلم، والقلم بالنسبة للإنسان وسيط خارجي لمعرفة موضوعية وليست ذاتية"[2]. من هنا تجيء تثنية الأمر بالقراءة لتؤرِّخ للحظة جديدة تمثِّل منعطفاً في تطور وتكامل المعرفة البشرية، وتؤذن بدخول الإنسان في عهد جديد، تندمج فيه قراءتان وتتوحّدان بإتساق، وتغدو كل واحدة منهما وجهاً للقراءة الأخرى، تدل عليها وتقود إليها. وبموازاة ذلك، نبّه القرآن إلى منزلقات العقل وآفاته، فشدَّد على ذمّ التقليد الأعمى وإتباع الآباء، والإستسلام لميراثهم، من دون تمحيص وغربلة. وهكذا حذّر من الإعتماد على الظن، وصرّح بأنّ الظن لا يغني من الحق شيئاً، وإنّ المعرفة الحقّة لابدّ أن تستند إلى اليقين، واتّخذ القرآن موقفاً لا لبس فيه حيال إتباع الهوى فشدد على أنّ الهوى يقود للتيه والضلال، ويحجب الفؤاد عن معانقة الحق، ويحول بين العقل وبلوغ الحقيقة. وعمد القرآن إلى إستخدام الإستدلال على ما أورده من عقائد وأحكام، ولم يطالب بالتصديق بلا برهان (قل هاتوا برهانكم) (النمل/ 64)، واستعانت أساليب الإستدلال فيه بما هو محسوس في هذا الكون والقصص، فاكتست بمشاهد واقعية، منبثقة من حياة الإنسان وما يكتنفها من تداعيات ومشاكل. فقد تحدّثت الأمثال القرآنية عن الواقع المحسوس، وحكت القصص تجارب تاريخية عاصرتها الأُمم الماضية، وأشارت آيات عديدة إلى الأرض وظواهرها المتنوعة، والكون وما يزخر به من أجرام تضبطها مجموعة قوانين صارمة لا تتخلَّف ولا تختلف.   -         نظريّة العلم في القرآن تناول المفسِّرون مسألة العلم والمعرفة في القرآن من سياق تفسيرهم للآيات التي تحدّثت عن هذه المسألة وما يتصل بها، كما عالج قضية العلم والإدراك في القرآن الحكماء والعرفاء والمتصوِّفة والمتكلِّمون، وذهب كل منهم في بيان هذه القضية مذاهب شتى، اصطبغت بمنظوراتهم ومواقفهم القبلية، فعبّرت في الغالب عن آرائهم أكثر من تعبيرها عن رأي القرآن، وظلت قضية العلم والمعرفة والإدراك في القرآن تفتقر إلى صياغة موضوعية تستلهم الوحي وتهتدي بنور القرآن، صياغة تتحرر من إسقاطات وحمولة رؤى الفلاسفة والمفاهيم الوضعية الحديثة، ما خلا بعض الدراسات والأبحاث المعاصرة أو الإشارات المتفرقة في تراث التفسير. وتجيء محاولة الباحث الأستاذ غالب حسن في هذا الكتاب كمساهمة متميزة تعالج هذه القضية من منظور مختلف، يتخذ من آيات القرآن مرجعية وحيدة، ولا يتجاوزها إلى ما يؤدِّي إلى تشوّه الرؤية من أفكار ومفاهيم بعيدة عن معين السماء. وغالب حسن باحث متمرس في الدراسات القرآنية، صدر له قبل ما يناهز ثلاثين عاماً كتاب (الوجود في القرآن) وهو محاولة مبكرة لإستخلاص التصوّر القرآني للكون والإنسان والحياة، وأردف تلك المحاولة بمجموعة دراسات تؤسِّس لمداخل جديدة في التفسير. أمّا في كتابه الماثل بين أيدينا، فيتناول في الفصل الأول قضية العلم والمعرفة في القرآن الكريم، ويلحقها في الفصل الثاني بمدخل جديد للتفسير اصطلح عليه بالتفسير المعادلاتي. وبالنسبة لمسألة العلم والمعرفة، يستنطق النص القرآني ويتقصى دلالاته بشأن هذه المسألة بغية اكتشاف نظرية ترتسم فيها سائر أبعاد الموقف القرآني إزاء العلم والمعرفة. يستخلص الباحث أبرز طرق المعرفة في القرآن، ابتداءً بالسمع والبصر، ثمّ التفكُّر، والرؤية، والتعقُّل، والنظر، والتبصُّر، مؤكداً انّ كل طريق معرفي في تلك الطرق يفضي إلى مطابق في قوّته وشدّته، ومستواه، مع عمق الطريق، ودقته، وسعته، ومدى صلاحيته في استحصال المعرفة والعلم. ومما لاريب فيه أنّ التفكُّر، والتعقُّل، والتبصُّر، والنظر، والرؤية، تعني أنّ الإنسان مزوّد بجهاز مفكِّر، وهذا الجهاز هو العقل. والعقل في القرآن قوّة درّاكة يمكنها أن تجول في ظواهر الحياة، والتاريخ، والمجتمع، والكون. إنّ العقل في القرآن يتجاوز الظواهر الجاهزة من المعرفة، من أجل معرفة السبب والغاية. ومما ينبغي الإشارة إليه أنّ الآيات التي تنتهي بـ(يعقلون، يتفكّرون، يبصرون، يتذكّرون...) أو التي تستهل بالنظر والرؤية، إنّما تدعو إلى إستعمال العقل في وعي أسرار الظواهر، وليست المسألة هي مجرد تأمُّل وصفي ساذج، بل هي غور في عمق الأشياء، واستكناه البنية الأساسية للحقائق. وفي السياق ذاته، يستقرئ المؤلف مستويات المعرفة في القرآن، فيستهلها بالدراية – الإدراك والفهم – الفقه، والحس – الشعور والبصيرة – الرؤية، واليقين، وأخيراً الظن. ويحدد العلاقة التفاعلية العضوية بين هذه المستويات، وأنحاء الإرتباط بين كل واحد منها والآخر، وكيف يرتقي وصف القرآن لجماعة من الناس، فيُسمِّيهم: (أولوا الألباب، وأولوا الأبصار)، ممّن يتميّزون بمستوى رفيع من الوعي والبصيرة. بعد ذلك، يتابع المؤلف بالدراسة والتحليل ما يرتبط بالعلم، والبرهان، والبيان في القرآن، ويستخلص النسيج الموحَّد الذي تشير إليه الآيات، وما يرقد وراء مداليلها التفصيلية من مداليل مشتركة تشي ببناء منظم منبث في الآيات كلّها. ثمّ ينتقل الكاتب إلى الفصل الثاني، فيرسم لنا ركائز منهج (التفسير المعادلاتي)، وهو منهج في التفسير يهتم بإستكشاف ما يسود القرآن من معادلات كونية، واقتصادية، وأخلاقية، وسياسية. فكثيراً ما يربط القرآن بين عنصرين على نحو معادلة، لها جذورها، وشروطها، ونتائجها، فضلاً عن طرفيها. ويلخص الكاتب خمسة معالم لمنهج التفسير المعادلاتي، تبدأ بتشخيص الآية ذات البنية المعادلاتية، تليها عملية اكتشاف ما يعزز ويدعم هذه المعادلة، ويتمثل هذا المعزز بالترابط العضوي بين ضدي طرفي المعادلة. فمثلم هناك ترابط بين طرفيها، كالترابط والإطراد الإيجابي بين الشكر وزيادة النعم مثلاً، فإنّ هناك ترابطاً بين ضدّيهم الكفران بالنعمة والقحط. بعد ذلك، يُجرى تعريفاً قرآنياً دقيقاً لكل موضوع من موضوعي المعادلة، لا مكان التسلسل المنطقي الصحيح لفهم المعادلة، كفضاء وبناء ونتائج. ولا يقف التفسير المعادلاتي عند هذه الخطوة، وإنّما يرتقي إلى مجال أوسع، فيسعى للتعرُّف على المعادلة الأُم، وهي المعادلة التي تندرج تحتها معادلات متعددة، ولا تكون هذه المعادلة سوى أحد أفرادها. وفي خطوة أخيرة، يثبت جذر المعادلة بإعتباره وعاء إنبعاثها وتأسيسها وصيرورتها. ولا يقتصر البحث على تحديد معالم هذا المنهج التفسيري وإنّما يتخطاه للتطبيق على ثلاثة نماذج منتقاة. ففي النموذج الأوّل، يُطبِّق المؤلف التفسير المعادلاتي على معادلة أخلاقية، لها طرفان مشخصان بصراحة هما على الترتيب: الشكر وزيادة النعم (لئن شكرتم لأزيدنّكم) (إبراهيم/7). وفي النموذج الثاني، يُطبِّق معادلة إجتماعية، لها طرفان، هما: مصير النعمة من جهة والمحتوى الداخلي للإنسان من جهة أخرى (ذلك بأنّ الله لم يك مغيرً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم) (الإنفال/53). أمّا النموذج الثالث، فهو تطبيق لمعادلة حضارية، تعتبر من المعادلات الماضية الراسخة في ذاتية الفكر الإسلامي المستوحى من كتاب الله، تلك العلاقة الضرورية بين نوع الكلمة والوجود، لأنّ الكلمة في لغة القرآن وبالتحليل تعني الفعل. فالكلمة الطيبة كفؤ الفعل الخير (كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعه في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها) (إبراهيم/ 24). والكلمة الخبيثة كفؤ فعل الشر (كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) (إبراهيم/ 26). ثمّ يمضي الباحث إلى ما هو أبعد من ذلك ليكتشف الإطار الأوسع أو المعادلة الأُم التي تنضوي تحتها هذه المعادلة، وهي ما يعبِّر عنها قوله تعالى: (فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرَّعد/ 17). فهذه الآية تتحدّث عن معادلة كبرى تجد فيها المعادلة السابقة مكمنها المناسب، وحاضنها الحقيقي، وراعيه الصادق. فالكلمة الطيبة بإعتبارها فعلاً خيراً، إنّما هو من مصاديق ما ينفع الناس. وأمّا الكلمة الخبيثة، فهي ليست إلا زبداً يذهب جفاء ويضمحل ويتلاشى.   -         معادلات ذكر الله في القرآن يمضي الكتاب أخيراً لبيان موضوع (ذكر الله في القرآن)، ويبلور مدياته وآفاقه ومصاديقه، وما يتصل به من مفاهيم، وهنا يستأنف تطبيق التفسير المعادلاتي، مكتشفاً مرّة أخرى ثلاث معادلات قرآنية في موضوع الذِّكر، كيما يغدو هذا البحث متمماً لسابقه، وإن تبدى لنا عنوانه بصورة أخرى. إنّ هذه النظرة الخاطفة لا تغنينا عن مطالعة هذا الكتاب الهام، بالرغم من ضآلة عدد صفحاته، نظراً لما تجلت في ثناياه من إجتهادات مبدعة في استنطاق الآيات الكريمة، واستكناه مداليلها المشتركة التي قد تغيب عن أثر الإستغراق في المداليل التفصيلية الخاصة بكل آية. نتمنّى على المؤلف أن يعالج مسألة العلماء ومقامهم ووظيفتهم ومسؤوليتهم في القرآن الكريم أيضاً، في سياق معالجته لقضية العلم في القرآن، خاصة وأنّ هناك فهماً خاطئاً يسود بين الناس، بل لدى بعض العلماء، يرى أنّ مهمة العالم لا تكد تتعدّى إمامة الصلاة، وتدبير بعض الطقوس، وتعليم شيء من الأحكام. بخلاف ما يحدِّده القرآن من هذه المهمة، كما ورد عن الإمام محمد الجواد (ع): "العلماء في أنفسهم خانة إن كتموا النصيحة، إن رأوا تائهاً ضالاً لا يهدونه، أو ميتاً لا يحيونه، فبئس ما يصنعون، لأنّ الله تبارك وتعالى أخذ عليهم الميثاق في الكتاب، أن يأمروا بالمعروف وبما أمروا به، وأن ينهوا عمّا نهوا عنه، وأن يتعاونوا على البرّ والتقوى، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان" (الكليني، الكافي، ج8، ص54)[3]. الهوامش:
[1] النيسابوري، روضة الواعظين، ص12. [2]حاج محمد، محمد أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، الطبعة الثانية، ج1، ص 456-457.

[3]الكليني، الكافي، ج8، ص54.

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 99 لسنة 1999م

ارسال التعليق

Top