• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

قيمة العودة إلى الله

قيمة العودة إلى الله
التأثير السلبي للذنوب:

للذنوب التي يمارسها الإنسان في حياته عندما يعصي ربّه تأثيرها السلبي عليه، حيث يعيش ثِقْل هذه الذنوب في فكره، لأنّه يشعر دائماً أنّ حياته عاشت تحت ضغط أعماله السيئة وتاريخه الذي عصى فيه ربّه، فتتركّز في نفسه عقدة اليأس من غفران الله، لاسيّما إذا كان قد عاش فترةً طويلة من حياته في أجواء الذنوب وخصوصاً الكبيرة منها. وقد عالج القرآن الكريم هذه المسألة، فقال سبحانه:

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر/ 53)، الكثيرون من النّاس يُخيَّلُ إليهم أنّ الله لن يغفر لهم، وأنّ ذنوبهم تبقى ثِقْلاً على أفكارهم وظهورهم، لأنّهم عندما يفكِّرون بربّهم، يتصورونه سبحانه، كما لو كان سلطاناً من سلاطين الدنيا، أو قويّاً من الأقوياء يرهبه الناس ويخافونه، لأنّ هؤلاء السلاطين والأقوياء لا يغفرون الأخطاء ولا يسامحون في كثيرٍ مما يقوم به النّاس ضدّهم. ولذلك فهم يتصورون أنّه سبحانه يعاملهم بما يعاملهم به هؤلاء السلاطين والأقوياء، فيضغط عليهم اليأس، تماماً كما لو أنّ إنساناً أجرم جريمة كبيرة، فإنّه يهرب من الأرض التي يعيش فيها أهل الضحيّة أو صاحب القوّة التي كانت الجريمة موجّهةً إليه، لأنّه يشعر بأنّ جريمته تلاحقه من خلال القوى التي تريد إنزال العقاب به بسبب جريمته، فينطلق هارباً يائساً، وقد يؤدي به ذلك إلى الانتحار عندما يرى أنّ جريمته تستوجب عقاباً يفضح أمره ويُسقطه من أعين النّاس.

وللذنوب تأثير آخر في قلب الإنسان وإيحاءاتٌ في النفس، لأنّ الذنب ليس مجرّد عمل يعمله، فهو إذا سرق، فليست السرقة تمثّل استيلاءً على مال إنسان آخر وحَسْب، بل إنّها تحمل معنى التجرّؤ على الله، وهذه الجرأة فيما قام به من سرقة أو قتل للنفس المحترمة أو ما شابه ذلك تترك تأثيرها في النفس فتضعف إيمانه، لأنّه الإنسان كلّما تجرّأ على ربِّه أكثر، كلما تمرّد أكثر وفقد إحساسه بعظمة ربِّه.

ولذلك، فإنّ الكثيرين الذين يرتكبون الذنوب والمعاصي يفقدون معنى روحية إيمانهم وإسلامهم، ولا يتحسّسون الانفتاح على الله، بل إنّهم ينسون الله تبارك وتعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر/ 19)، فمن بين الأسباب التي تُنسي الإنسان ربّه وتُغلق قلبه على الله كثرة الذنوب، لهذا، ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتةٌ سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يُفلح بعدها أبداً".

إذاً، إذا تتالت الذنوب اسودّ القلب وانتكس وصار أعلاه أسفلَه، وأسفلُه، أعلاه، بحيث يشاهد الأمور والأشياء معكوسة، وهذا ما نلاحظه عند كثيرٍ من الناس الذين يمتدّون في المعاصي، فتنقلب طريقة رؤيتهم للأمور، وهذا ما عرّفنا إيّاه رسول الله (ص) حيث قال: "ما بالكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبانكم؟ قالوا: أو يكونُ ذلك يا رسول الله؟ قال: كيف بكم إذا تركتم المعروف ونهيتم عن المنكر؟ قالوا: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟". فإذا كثر الفساد وانتشر الفسق، فإنّ ذلك يصبح مألوفاً، وإذا ما أصبح مألوفاً، فإنّه سيمثّل قِيَماً جديدة في حياة الناس، وعلى هذا، يصبح الأمر بالمنكر مألوفاً، والنهي عن المعروف غير مألوف.

وهذا ما نلاحظه في موضوع حجاب المرأة، فإنّ بعض النّاس وحتى الذين حجُّوا بيت الله الحرام، فإنّهم ينهون بناتهم عن الحجاب لأنّه غير مألوف، فإذا ما تحجّبت الفتاة فإنّهم يهزأون بها أو يؤذونها ويضايقونها فيأمرونها بالسّفور وينهونها عن الحجاب، وهكذا بالنسبة إلى كثير من الشباب الذين يرتادون المساجد ويطيعون الله ورسوله، وقد يكون آباؤهم مؤمنين بالمعنى التقليدي للإيمان، ولكن لأنّ المنكر انتشر، ولا يرغبون لأولادهم أن يسيروا في غير الطريق المألوف، فإنّهم ينهون أولادَهم عن المعروف. وعلى هذا، فالقِيَم تتبدّل، بحيث يصبح القبيح حسناً، والحَسَنُ قبيحاً. وهذا واقعٌ نعيشه في حياتنا، بحيث تنفذ هذه الإيحاءات السلبية إلى القلب والعقل والشخصيّة، فتغيّر طريقة التفكير فيصبح ما هو رديء جيِّداً، والجيِّد رديئاً.

 

إذا كان الله قد رحمهم فلماذا نلاحقهم بأخطائهم؟

وهناك نقطةٌ أخرى لابدّ من الإشارة إليها، وهي التي تترك تأثيرها في الواقع الاجتماعي في حياة النّاس، فالمجتمع لا يغفر للإنسان تأريخه، بل يبقى مصِّراً على تذكيره بتأريخه.. فقد تخطىء امرأة، وليس من الضروري أن يصل الخطأ إلى حدِّ الزنا، بل يكون الخطأ في الأمور غير المتعارفة، فلو تزوجت برجل، وصارت من الصالحات، يظلُّ المجتمع والنّاس يلاحقونها ويذكرونها بما قامت به. وهكذا نرى الكثيرين الذين كان لهم تأريخ أسود، ولكنهم صلحوا وانطلقوا في خطِّ الإيمان والاستقامة، تبقى الألسنة تتناولهم وتتحدّث عن سلبياتهم التي صارت من الماضي.

في النظرية الإسلامية نجد أنّ الله سبحانه وتعالى حرّر الإنسان من كلِّ ماضيه، بحيث يخرج من الذنوب وآثارها حرّاً، وذلك من خلال فَتْحِ باب التوبة له بأوسعَ مما بين السماء والأرض، لأنّ التوبة تنطلق من رحمة إلهية، والرحمة الإلهية لا تتحرّك في فراغ، وإنّما من خلال معرفة الله بما عليه عبادُه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك/ 14)، فالله يعلم أنّه خلقنا من ضعف (وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/ 28)، وأراد لنا أن نقوّي هذا الضعف، فخلق للإنسان عقلاً يستطيع به أن يحوِّل نقاط الضعف إلى قوّة ويميِّز بين الحسن والقبيح وينظِّم له غرائزه، ويخفِّف من سرعة اندفاعه، وأعطاه الإرادة التي تصاحب العقل، فتركّز له المواقف على أساس ما يريده عقلُه. والله تعالى يعرف أنّ الإنسان قد يضعف عندما تضرى شهواته، وتضغط عليه ظروفه، وتتحرّك نفسه الأمّارة بالسوء، وقد تصرع شهوتُه عقله.

لذلك نظر سبحانه إلى عباده بالرحمة، وعرف أنّهم قد يخطئون من حيث لا يشعرون، أو يُذنبون من حيث لا يريدون، وقد يقعون تحت تأثير التيارات التي تضغط على مشاعرهم وأحاسيسهم، فقال لعباده: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الزّمر/ 53)، أوحى لرسوله (ص) أن يخاطب عباده، أنكم عندما تخطئون، حتى لو امتدَّ بكم الخطأ مسافة بعيدة فإنني أترك لكم فرصة أن تعودوا إلى الصواب، وعندما تذنبون وتعصون، فإنّي أترك لكم الفرصة أن تعودوا إلى التوبة، لذلك إذا عدتم إلى التوبة وانفتحتم على الصواب، ورجعتم إليَّ واستقمتم في طريقكم، فإنّ كلَّ آثار الذنوب تُمحى عنكم، ولا يبقى في قلوبكم وواقعكم وماضيكم أيُّ أثر، لأنّ "الإسلام يَجُبُّ ما قبله" يخرج الإنسان من الذنب بالتوبة كيوم ولدته أُمُّه، يكون بالذنب مبغوضاً عند الله، فيتحوّل بالتوبة محبوباً، والله يمنحه محبّته، ومحبة الله هي السعادة كلُّها التي تفيض على قلبه كلّ طمأنينة، وعلى حياته كلّ إشراق، وعلى شخصيته كلّ لطفٍ وقوة، فأيّة سعادة أعظم من أن يكون الإنسان محبوباً من ربِّه؟

نحن نعيش السعادة إذا أحبَّنا بعضُ المخلوقين الذين نجد عندهم ما نرغب فيه، أو يملكون بعض مواقع القوّة، ويقول بعضنا لبعض وبالطريقة الشعبيّة "هنيئاً لفلان" يحبُّه فلان الكبير والعظيم، لكن هل يحبُّه الله؟ لذلك، ليس المهم محبة الناس، بل محبّة الله، فأمير المؤمنين (ع) بلغ أرقى محبة لله تعالى، فيقول في دعائه، المعروف بدعاء كُميل: "فهبني يا إلهي صبرتُ على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني يا إلهي صبرتُ على حَرّ نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك" العاشقون يكتبون لمن يحبُّون قصائد، ولكنّ علياً (ع) يكتب لله تعالى، فخاطب ربّه بما مُضاده: ليست مشكلتي العذاب – وهو (ع) الذي لا يُعذّب – عذّب جسدي بالنّار، فإحساسي بألم العذاب ليس مشكلة، ولكنّ مشكلتي يا رب أنّ العذاب يفصلني عنك، فأنا أتألم لانفصالي عنك وفراقي لك أكثر مما أتألم بعذابك، دعْ جسمي يحترق بنارك، فليس ذلك مشكلة، ولكنّ المشكلة، أنّك عندما تُدخلني النّار، فإنّك تُبعِدُني عن موقع كرمك.. وهذا هو الحبُّ.

نحن نتحدّث عن حبّ الله، ولكن لا نعيش ذلك كشعور، أو كما يُحسُّ الإنسان بلفحة الحب عندما يحبُّ إنساناً آخر.. الأساس نحبَّ الله، لأنّ كلّ محبوب يتساقط ويموت ونفقد الإحساس بحبِّه، فلنتعلم من عليٍّ (ع) كيفية حُبِّ الله، وهو يطلب من الله أن يجعل كلّ أوقاته في الليل والنهار "بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة حتى تكون أعمالي وأورادي كلُّها ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً" إذاً، أهمية دور التوبة أنّها تمنح الإنسان حبّ الله، وتلغي له كلّ التأريخ الشيطاني الأسود، وهذا ما قاله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى/ 25)، ويقول أيضاً: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 222)، وفي الحديث أيضاً عن الإمام الباقر (ع): "إنّ الله يحب من عباده المُفتَنَّ – الذي عاش الفتنة في حياته وسقط فيها – التوّاب".

 

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top