• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القلب المنحرف في القرآن

القلب المنحرف في القرآن

 

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف/ 5).

تدلّنا الآية الشريفة إلى أنّ اليهود لما عندهم من العناد واللجاجة قد آذوا نبيّهم موسى كليم الله حتى آل الأمر بهم إلى انحراف قلوبهم وزيغها، وهذا شأن كلّ من يؤذي النبيّ، وبهذا أراد الله ينهى المؤمنين أن لا يؤذوا نبيّهم الأكرم محمّد (ص) كما ورد ذلك في قوله تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) (الأحزاب/ 57).

وكما في قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) (الأحزاب/ 69).

فنهى الله المؤمنين أن لا يؤذوا النبيّ لا بقولهم ولا بعملهم، فإنّه يؤدّي ذلك إلى انحراف قلوبهم وزيغها عن الاستقامة والصراط المستقيم، ومن ثمّ يميلوا من الحقّ إلى الباطل، ولمّا زاغ القلب فإنّ مثل هذا القلب يحرم من الرحمة الإلهية، ولا يصيب الهداية الربانية فأزاغ الله قلوبهم نتيجة أعمالهم من الإيذاء والفسق والفجور، فجزاء فسقهم أزاغ الله قلوبهم، ولعنهم في الدنيا والآخرة، وحرمهم من شمول رحمته ولطفه وهدايته، فإنّما أضلّهم الله بفعلهم وانحرافهم:

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ) (البقرة/ 26).

فإنّ الله لا يضلّ أحداً ابتداءً، فإنّ ذلك قبيح والله منزّه عن القبائح، إنّما ضلال الله لمن ارتكب الفسوق والذنوب بسوء اختياره، فزاغ عن طريق الحقّ وخرج ومال إلى طريق الباطل، فأضلّه الله وأخزاه في الدنيا، وله في الآخرة عذاب عظيم.

وهناك علائم أُخرى لمن زاغ قلبه كما في قوله تعالى:

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران/ 7).

فإنّ كتاب الله الكريم لحكمة ربّانية فيه الآيات المحكمة والآيات المتشابهة، فالمؤمن إنّما يسأل أهل الذكر في ما لا يعلم، ويرجع إلى الراسخين في العلم، ويأخذ بالمحكمات، ويرجع إليها الآيات المتشابهات، ويعتقد أنّ الكلّ من عند الله، أمّا من له قلب زائغ ومنحرف، فإنّه يبتغي الفتنة وإشعال نار الحرب والشقاق بين المؤمنين، فيتبع ما تشابه من الآيات الكريمة ويؤوّلها من أجل مصالحه الشخصية وابتغاء الفتنة، وإنّما يفعل ذلك لأنّه لم يطمئنّ قلبه، ولم يرسخ في العلم، ولم يثبت على العمل الصالح.

وأمّا مَن آمن واطمأنّ قلبه، وكان من الراسخين في العلم النافع والعمل الصالح، وهداه الله، فإنّه يدعو ربّه:

(رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران/ 8).

فمن يتبع المتشابه في العمل بأن لا يرجعه إلى المحكم، فإنّ الله قد ذمّ ذلك، وأمّا من أرجع المتشابه إلى المحكم، فإنّه يكون من المحكم، ولا يعلم تأويله إلّا الراسخون في العلم، فيدعون الله بأن لا تزاغ قلوبهم، فإنّهم علموا أنّ القلب إثر الغفلة ربما ينحرف عن الصواب والحقّ، وإنّما يملك الضرّ والنفع هو الله سبحانه وتعالى، وإليه تصير الأمور، فيخافون أنّه بعد رسوخهم في العلم ربما تنحرف قلوبهم وتزيغ عن الحقّ.

فمن عوامل انحراف القلب وزيغه إيذاء النبيّ كيف ما كان وبأي نحو قولاً وعملاً في حياته وبعد مماته، فيه وفي أهل بيته كما قال النبيّ الأكرم في حقّ فاطمة الزهراء سيّدة النساء (عليها السلام): "فاطمة بضعةٌ منّي مَن آذاها فقد آذاني"، (رواه الفريقان). ثمّ مَن انحرف في الظاهر فقد انحرف في الباطن، ومَن زاغ قلبه، فإنّه يعيش القلق والاضطراب، فيحرّف الكلم عن مواضعها، ويؤوّل الآيات المتشابهات كيف ما شاء. وأمّا من رسخ في العلم والإيمان فإنّهم يدعون ربّهم:

(رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

 

المصدر: كتاب حقيقة القلوب في القرآن

ارسال التعليق

Top