• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الصوم.. سمو الروح وصحة البدن

الصوم.. سمو الروح وصحة البدن
◄جعل الإسلام شعائر وعبادات زمانية ومكانية، كالحد والصوم والعيد وصلاة الجمعة وتشييع الجنازة وغيرها؛ ليصنع أجواء روحية ونفسية تساعد على تغيير النفس البشرية وإصلاحها، وتعبيدها لخالقها. ولابدّ للصائم من أن يستحصر هذه الحقيقة في نفسه، ويعمل على جعل شهر الله فرصة للتوبة والإصلاح والتغيير والتكامل الأخلاقي والسلوكي. وكما إنّ للصوم أهدافاً ومنافع تعود على الفرد الصائم نفسه، فإنّ للصوم أهدافاً ومنافع تعود على المجتمع الإسلامي أيضاً.. فكلّما صلح الفرد، صلحت الجماعة، خصوصاً وإنّ العناصر الصالحة بما تملك من قوة فكرية روحية ونفسية، تستطيع أن تصنع تياراً إجتماعياً مؤثراً في حياة المجتمع. إنّ الإسلام ينظر دائماً إلى الفرد باعتبارين.. فهو ينظر إليه باعتباره الفردي المستقل تارة، وينظر إليه باعتباره جزءاً من المجتمع يؤثر ويتآثر تارة أخرى.. وعلى هذا الأساس فإنّ الأحكام والقوانين والأنظمة والأخلاق والآداب، التي حملتها الرسالة الإسلامية، تتعامل مع الإنسان كفرد قائم بذاته تارة، وكجزء من كل تارة أخرى... هناك جوانب عبادية عديدة في شهر رمضان المبارك توفر للإنسان فرصة التقرب إلى الله تعالى ومن هذه الأبعاد:   1-    تلاوة القرآن: شهر رمضان هو شهر القرآن وربيعه.. ففي هذا الشهر بدأ نزول الوحي على رسول الله (ص) وخوطب بالقرآن.. فكانت أوّل آيات نزلت على النبي (ص) في غار حراء، في هذا الشهر المبارك: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5). وذلك فيما كان رسول الله (ص) مقيماً في هذا الشهر عند غار حراء في السنة التي نزل عليه الوحي فيها، ثمّ تابع نزوله حتى كمل في مدة ثلاث وعشرين سنة.. إنّ النفوس لتصفو في هذا الشهر، وتتجه إلى الله سبحانه، فتكون مستعدة لتستقبل ما في كتاب الله من حكمة وهداية واستقامة وحب للخير، أكثر من أي وقت آخر.. لذا كان الحث على قراءة القرآن وتدبر آياته في هذا الشهر، أكثر من غيره من الشهور. خطب رسول الله (ص) الناس مبيناً أهمية هذا الشهر المبارك، وما ينبغي ان يكون فيه الصائم من حسن الخلق والعبادة، وفعل الخير، والإتجاه إلى الله سبحانه فقال: "فاسألوا الله ربكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي من حرم المغفرة في هذا الشهر العظيم". ثمّ قال (ص): "ومن تلا فيه آية من القرآن، كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور". لذا وصف الإمام الباقر، محمد بن علي بن الحسين (ع)، شهر رمضان بأنّه ربيع القرآن، الذي يزدهر فيه، وتترعرع فيه دعوته، ويثمر العمل به. قال (ع): "لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان".   2-    التوبة: من لطف الله بعباده ورحمته بهم أن فتح لهم باب التوبة والمغفرة، وهيأ لهم سبل العودة إليه.. فهو سبحانه كما وصف نفسه في كتابه المجيد: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/ 53). فالله سبحانه عالم إنّ الإنسان بطبيعته البشرية يخطىء ويعصي، ويبتعد عن الله سبحانه، وهو بحاجة إلى فرصة تمكنه من العودة والإصلاح؛ لذلك كانت التوبة وكان العفو الإلهي مجالاً للإصلاح، وفرصة للتغيير.. فالتوبة عملية تحول وتغيير وزيادة في مجرى الحياة وطبيعة السلوك.. لأنها نتاج تغيير نفسي وفكري وإرادي.. وقرار جديد في الحياة.. يختار الإنسان بالثبات عليه طريقاً جديداً وحياة جديدة؛ لذا كان التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث النبوي الشريف.. لقد شرح الحديث الوارد عن الامام جعفر بن محمد (ع) لطف الله وعفوه وستره على عباده التائبين بقوله: "إذا تاب العبد توبة نصوحاً، أحبه الله، فستر عليه، فسئل الامام وكيف يستر عليه، قال: "ينسي ملكيه ما كانا يكتباه عليه، ويوحي إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض أن أُكتمي عليه ذنوبه، فيلقي الله عزّ وجلّ حين يلقاه، وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب". وإذا كانت هذه المنن الإلهية على الإنسان تستهدف فتح أبواب العفو والرحمة له في كل حين.. وكان شهر رمضان شهر العفو والمغفرة، وموسماً من مواسم الذكر والتذكير، وجواً من الأجواء المساعدة على مراجعة النفس والعودة إلى الله سبحانه.. فليكن شهر توبة واستغفار.. ومحطة مراجعة للنفس ومحاسبة لها.. ليبدأ الإنسان مسيرة جديدة، وتحولاً صادقاً في نفسه وتفكيره، وتركيز ذلك التحول من خلال العمل الصادق في هذه المناسبة، لتتكيف النفس لحياة إسلامية، وتتقبل العيش في ظلال الله سبحانه، فيسهل عليها بعد هذه الدورة التدريبية التي تدوم شهراً.. أن تلتزم بما يرضي الله سبحانه ويحقق لها الاستقامة والصلاح..   3-    الدعاء والإستغفار: الدعاء مظهر من أعظم مظاهر العبودية والخضوع لله سبحانه، فالدعاء تعبير عن الإحساس بعظمة الخالق والوهيته وعظيم قدرته، وانّه سميع مجيب الدعوات، كما جاء في الآية الشريفة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186). والدعاء تعبير عن إحساس نفسي يحسه الإنسان في أعماقه، ألا وهو إحساس الفقر والحاجة إلى الله سبحانه.. فيكون هذا الإحساس تربية للنفس على الإيمان الصادق بالله، والتعلق به، والتخلص من نزعة الغرور والإستكبار، والشعور بالأخوة والمساواة بين الناس.. لأن الداعي يشعر أنّ الناس متساوون في الفقر والحاجة إلى خالقهم.. وانّ الله هو الغني، يتوجه العباد إليه جميعاً. وقد جاء الحث والتأكيد على الدعاء والمناجاة في شهر رمضان خصوصاً لتعميق شعور الحب الإلهي في النفوس، وتركيز الشوق إلى الله سبحانه، واظهار الفقر والحاجة والمسكنة بين يديه، وطلب العفو والمغفرة منه، لتربية النفوس، وإصلاح السلوك، وإحياء القلوب والضمائر، في وقت هي متجهة إليه وحاضرة في صيامها لديه..   4-    الصلاة والصدقة: وللصلاة والصدقة أثرها في تربية النفس، وإصلاح المجتمع، والتعلق بالله سبحانه، والتقرب إليه، وتنقية الضمائر، وتهذيب المشاعر.. لقد جاءت الروايات والأحاديث عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) تدعو المسلمين إلى الصلاة والصدقة في هذا الشهر، وتفضيل ما يأتي به العبد من صلاة وصدقة فيه، على مثله في الشهور الأخرى.. فينبغي أن نغتنم الفرصة، ونتخذ هذا الشهر موسماً للصلاة والصدقة والإستغفار والذكر.. وعلينا أن نجعله فرصة لقضاء الصلاة.. التي فاتتنا، أو لقضاء الصلاة نيابة عن الوالدين، او عن أهلنا وأرحامنا المتوفين. كما إنّ صلاة التطوع في هذا الشهر لها فضل خاص، وقيمة خاصة عند الله سبحانه.. فقد ورد عن رسول الله (ص): "ومن تطوع فيه بصلاة، كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضاً، كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة عليّ ثقل له ميزانه يوم تخف الموازين..". وروي عن أئمة أهل بيت (ع): "كان رسول الله (ص) إذا دخل شهر رمضان، أطلق كل أسير وأعطى كل سائل".   5-    فوائد الصوم الصحية: بالرغم من إنّ الصوم بالنسبة للإنسان يعتبر فريضة يؤديها قربة إلى الله تعالى مثل الصلاة فإن لها منافع عديدة تعود على الفرد الصائم نفسه والمجتمع الإسلامي منها الفوائد الصحية، حيث ورد عن رسول الله (ص) قوله: "صوموا تصحوا"، ويفيد علماء الطب إنّ فوائد الصوم لصحة الإنسان وسلامة بدنه كثيرة جدّاً، منها ما يتعلق بالحالة النفسية للصائم وإنعكاسها على صحته، حيث إنّ الصوم يساهم مساهمة فعالة في علاج الإضطرابات النفسية والعاطفية، وتقوية إرادة الصائم، وزيادة رقة مشاعره، وحبه للخير، والابتعاد عن الجدل والمشاكسة والميول العدوانية، وإحساسه بسمو روحه وأفكاره، وبالتالي تقوية وتدعيم شخصيته، وزيادة تحملها للمشاكل والأعباء، ومما لا شك فيه فإن ذلك ينعكس تلقائية على صحة الإنسان. والجانب الثاني من فوائد الصوم، كونه يساهم في علاج الكثير من أمراض الجسم؛ كأمراض جهاز الهضم، مثل إلتهاب المعدة الحاد، وتهيج القولون، وأمراض الكبد، وسوء الهضم، وكذلك في علاج البدانة وتصلب الشرايين، وارتفاع ضغط الدم، وخناق الصدر، والربو القصبي، وغيرها. وقد كتب الطبيب السويسري بارسيلوس: "إنّ فائدة الجوع في العلاج قد تفوق بمرات استخدام الأدوية"، أما الدكتور هيلب، فكان يمنع مرضاه من الطعام لبضعة أيام، ثمّ يقدم لهم بعدها الوجبات الغذائية اللازمة. وبشكل عام فإنّ الصوم يساهم في هدم الأنسجة المتداعية وقت الجوع. ثمّ إعادة ترميمها من جديد عند تناول الطعام، وهذا هو السبب الذي دعي بعض العلماء ومنهم باشوتين، لأن يعتبروا أنّ للصوم تأثيراً معيداً للشباب. وطبيعي إنّ الصوم قد يسبب ضرراً لبعض الناس، وقد أعفاهم الله تعالى من الصيام، كما إن فوائد الصوم المثلى تكون بالإلتزام بآدابه، ومنها تأخير السحور، وتعجيل الفطور، وعدم الإسراف في الطعام كمّاً وكيفاً، وإجتناب الإسراف في تنويع الأطعمة.►

ارسال التعليق

Top