• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لتكن صلاتنا خاشعة

عمار كاظم

لتكن صلاتنا خاشعة
الصلاة هي استحضار العبد وَقْفته بين يدي ربّه، وحينما يقف العبد بين يدي الله، لابدّ أن يزول كلُّ ما في نفسه من كبرياء، ويدخل بدلاً منه الخشوع، والخضوع والذلة لله سبحانه. والمتكبّر غافل عن رؤية ربّه الذي يقف أمامه، والصلاة تحارب الاستكبار في النفس، لذلك كان مؤدّى الصلاة أنّها تَرْكُز الخشوع في النفس. والخشوع يجعل الإنسان يستحضر عظمة الحقّ سبحانه، ويعرف ضآلة قيمته أمام الحقّ سبحانه، ومدى عجزه أمام خالق هذا الكون. ويعلم أنّ كلّ ما عنده يمكن أن يذهب به الله تعالى في لحظة، ذلك أننا نعيش في عالم الأغيار. ولذلك فلنخضع للذي لا يتغير؛ لأنّ كلّ ما يحصل عليه الإنسان هو من الله، وليس من ذاته. والذين يغترُّون بوجود الأسباب نقول لهم: اعبدوا واخشعوا لواهب الأسباب وخالقها؛ لأنّ الأسباب لا تعمل بذاتها. (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران/ 140). ولذلك لابدّ أن نفهم أنّ الإنسان الذي يستعلي بالأسباب سيأتي وقْتٌ لا تعطيه الأسباب، فالإنسان إذا بلغ في عينه وأعيُنِ النّاس مرتبة الكمال اغترَّ بنفسه. نقول له: لا تغتر بكمالات نفسك، فإن كانت موجودة الآن فستتغير غداً، فالخشوع لا يكون إلا لله. من هم الخاشعون؟ الخاشع هو الطائع لله، الممتنع عن المحرمات، الصابر على الأقدار، الذي يعلم يقيناً داخل نفسه أنّ الأمر لله وحده، وليس لأيّ قوة أخرى، فيخشع لمن خلقه وخلق هذا الكون له. الخاشعون هم الذين يقرنون الطاعة بالثواب، والمعصية بالعقاب والعذاب؛ لأنّ الذي ينصرف عن الطاعة لمشقتها عزل الطاعة عن الثواب فأصبحت ثقيلة، والذي يذهب إلى المعصية عزل المعصية عن العقاب فأصبحت سهلة. وهكذا يتلقى المؤمن مشقات الطاعة بحُبٍّ، فيُهوّنها الحقّ سبحانه عليه، ويجعله يدرك لذة هذه الطاعة، لتهون عليه مشقتها، ويمدُّه سبحانه أيضاً بالمعونة. فالخاشع الخاضع لله يستشعر حلاوتها، ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول عندما يحين موعد الصلاة: «أرحنا بها يا بلال». والحقّ سبحانه يقول في الصلاة، وهي أُمُّ العبادة: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة/ 45). إذن: عندما يأتى التكليف يكون شاقاً، وما دام شاقاً فهو بحاجة لصلابة إيمان وجَلَد ويقين، بحيث يَعي أنّ ما قام به من عمل وإنْ كان شاقاً لكنه سيعطيه سعادة كبيرة جدّاً. لذلك عندما تتضخم الجزاءات في نفس المؤمن يُقبِل على العمل بحُبٍّ. وسبحانه يقول: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 1-2). فالفلاح هو الفَوْز بأقصى ما تتطلع إليه النفس من خير، وأوّل أسباب الفلاح عند المؤمن هو الخشوع في الصلاة، فمسألة أداء الصلاة شيء مفروغٌ منه، لأنّ الصلاة علامة الإيمان. أما أن تكون الصلاة سبباً من أسباب الفلاح، فهذا يرجع إلى إقامتها لا أدائها، إقامتها على الوجه الأكمل الذي يرضاه مَن تُصلِّي له، ركوعاً وسجوداً وقياماً. وأوّل ظاهرية الفَلاح هي الصلاة أيضاً، فعلاقة المؤمن بالصلاة ليس فيها كلام، فليس مؤمناً مَن لا يصلي، فالصلاة صفة لازمة من صفات المؤمن. ولكن الحقّ سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا أنّ فلاح المؤمن ليس في أداء الصلاة فقط، ولكن في الخشوع فيها. والخشوع هو سكينة القلب واطمئنانه، واستحضار أنّه واقفٌ بين يدي الله. والخشوع معناه اطمئنانُ القلب، ومعنى اطمئنان القلب سُكونه في مهمّته هذه، فلا يشتغل بشيء آخر؛ لأنّ الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه. يقول تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ...) (الأحزاب/ 4). والجوارح تستمدُّ طاقتها من القلب الذي يمدُّها بالدم، فلو كان القلب مشغولاً بشيء آخر لَذَهِل عن الجارحة. والله تعالى يستحقُّ مِنّا ألا ننشغل عنه في فترة الصلاة القصيرة. ففي هذا الوقت القصير الذي يستحضرك الله لصالحك حتى تكون في جَلْوةٍ مع ربك، لتأخذ طاقة الإمداد والمعونة وإشراقات النور، فتستكثر هذا الوقت القصير، وتنشغل فيه عن ربِّك. هذا لا يصحُّ، ولا يجوز أبداً، لذا كان الخشوع في الصلاة من سمات الصالحين. يقول المولى سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا* وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء/ 107-109). والأذقان جمع ذقن، والذقن هو الفَكُّ الأسفل. فساعة يخرون ليس على وجوههم فقط، ولكن على الوجه والأنف والذقن أيضاً، وهذا دليل على التمكُّن في السجود. (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء/ 109). أي: كلما سمعوا آيةً من القرآن ازدادوا خُشُوعاً وخشية لله. وهؤلاء يقول عنهم ربُّ العزّة سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2). والوَجَل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة، واضطراب في القلب، فذِكْر الله يدفع قلوب المؤمنين إلى الوَجَل، وهذا لا يتنافى مع قول الحقّ سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28). ففي الحقيقة لا يوجد تعارض بين القولين؛ لأنّ ذكر الله تعالى يأتي بأحوال متعددة، فإنْ كان الإنسان مُسْرفاً على نفسه، فهو يرجف حين يذكر الله الذي خالف منهجه. وإن كان الإنسان يُراعي حقَّ الله في كلّ عمل قَدْر الاستطاعة، فلابدّ أن يطمئن قلبه لحظة ذِكْر الله؛ لأنّ اتبع منهج الله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. إذن: فالخوف أو الوجل إنما ينشأ من مهابة وسطوة صفات الجلال، والاطمئنان إنما يجيء من إشراقات وحنان صفات الجمال. ولذلك تجمعهما آية واحدة، هي قول الحقّ تبارك وتعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر/ 23). فالجلود تقشعر خوفاً ووَجلاً مهابةً من الله عزّوجلّ، ثمّ تلين اطمئناناً وطمعاً في حنان المنّان سبحانه وتعالى.

ارسال التعليق

Top