• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في رحاب استقبال شهر رمضان الفضيل

في رحاب استقبال شهر رمضان الفضيل

◄(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185).

"أيّها الناس قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات. هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب. فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي مَن حُرم من غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يُتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في صلواتكم، فإنّها أفضل الساعات ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه، ويربيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه".

افتتحنا المقال بالآية الكريمة والكلمات الدريّة المروية عن الرسول الأعظم عن طريق العترة الطاهرة. وهذا الشهر شهر كريم، فإنّه شهر الله الذي أنزل فيه القرآن، فما أعظم مكانته حيث نزل في النور المبين الذي أضاء العالم منذ نزوله إلى يومنا هذا. هذا وإنّ الرسول يعرّف شهر رمضان بأفضل ما يمكن ويقول: إنّه شهر البركة والرّحمة والمغفرة، وإنّ أيامه ولياليه أفضل الأيام والليالي، ويبيّن وظيفة الصّائم الفرديّة والاجتماعية، يفرض عليه السؤال عن ربّه بنيّات صادقة وقلوب طاهرة، ليوفقه للصيام وتلاوة القرآن وأن يذكر بجوعه وعطشه جوع الآخرة وعطشها.

هذا ما يتعلّق بوظيفته الفردية، أما الوظيفة الاجتماعية للفرد الصائم فهي القيام بالتصدق على فقراء الأُمّة ومساكينها أوّلاً، وتوقير الكبار والترحّم على الصغار ثانياً، وصلة الأرحام ثالثاً.

وبما لهذا الشهر من العظمة عند الله تبارك وتعالى يلزم على الصائم المراقب لجوارحه أن يغض بصره عمّا لا يحل النظر إليه، ويسد سمعه عما لا يحل الاستماع إليه رابعاً.. إلى غير ذلك من الوظائف التي جاءت في الخطبة المباركة.

هذا ما ذكره الرسول في خطبته، وفي الوحي الإلهي إيماء وتصريح للغايات التي فرضت لأجلها تلك الوظيفة. قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة/ 183-184).

فهذه الآيات تعرب أوّلاً عن أنّ تلك الفريضة كانت فريضة إلهية مفروضة على الأُمم كلّها، فهي والصلاة فريضتان لم تخلُ شريعة منهما. وأنّ الغاية من فرضها على الناس هو التقوى والتخلي عن المعاصي والتحلّي بالفضائل. وأما الصلة بين القيام بالصّيام والتخلّي عن الرّذائل واضحة ولا تحتاج إلى مزيد من البيان.

فالإنسان الشبعان المتروي من الماء يكون أكثر استعداداً من الإنسان الجائع والعطشان، لاقتراف الذنوب وإرضاء الغرائز الجامحة. فهناك علاقة وثيقة بين الصيام وتجنب الذنوب، كما أنّ هناك رابطة واضحة بين إشباع الغرائز ورفض الحدود.

ويوضّح قوله سبحانه في الآية الكريمة (أياماً معدودات) أنّه ليس إلّا أياماً قلائل يتقلص ظلالها بسرعة. ولكن الإنسان الواعي هو الذي يغتنم هذه الفرصة فيتلو فيه كتاب الله تبارك وتعالى ويتدبر آياته، وقبل هذا وذاك يكسب رضوان الله تبارك وتعالى. وما أشبه هذا الشهر الفضيل بنهر عظيم يفيض بالخير والعطاء واليمن والبركة في دنيا الصائمين، وعليهم أن يغتسلوا فيه ليتخلّصوا من أدران الذنوب التي علقت بهم في مسار الحياة، حتى يكونوا طاهرين متطهرين. وليس هناك أشقى ممّن حرُم المغفرة في هذا الشهر المبارك ولم يغسل نفسه بماء الغفران الذي مُنح بلا مشقة.

 

الصيام وآثاره التربوية والاجتماعية والصحّية:

ولعلّ فيما ذكرناه كفاية لإيقاف القارئ على الآثار البنّاءة لهذه الفريضة الإلهية.

فهي من جانب تربّي النفس وتزكّيها من أدران المعصية وشوائب العصيان لما بين الصيام وترك الشهوات من صلة وثيقة.

وفي ظلّ هذا العامل يكون المجتمع في أرقى درجة من التزكية والتربية فإذا كان الصيام جامحاً لشهوات الفرد فبالتالي هو كابح لشهوات المجتمع وتعدياته. وفي ظلال هذه الأجواء تخف وطأة الجرائم بسهولة.

ومن جانب آخر، إنّ الإنسان الشبعان لا يتحسس جوع الآخرين وفقرهم المدقع ولكنه إذا جاع سويعات فهو يلمس ألم الجوع والعطش من صميم الذات فيقوم بخدمة الجائعين الذي يقتاتون الجوع والعطش طيلة عمرهم.. فأي عمل أفضل من هذا العمل الذي يدفع الأغنياء والمتمكنين نحو التحنن للأيتام والمساكين ولأجل ذلك قال رسول الله (ص): "وتحننوا على أيتام الناس".

ومن جانب ثالث إنّ هذا العمل يدفع الإنسان إلى أن يتأمل اليوم الرهيب الذي تشخص فيه الأبصار ولا ينفع فيه مال ولا بنون إلّا مَن أتى الله بقلب سليم.

فالإنسان الصائم يدفعه جوعه وعطشه إلى أن يتفكر بجوع يوم القيامة وعطشه.. جوعاً وعطشاً لا حدّ له ولا أحد.

وأما الآثار الصحّية المترتبة على الصيام فحدّث عنها ولا حرج فإنّ جهاز الهضم لم يبرح يشتغل طيلة سنة وهو يحتاج إلى استراحة. والصيام محطة استراحة يذوب خلالها كلّ ما كان فيه من زوائد الطعام وفضوله.

إنّ للصيام دوراً هاماً في منح الصحّة للمزاج وفي مجالات مختلفة يقف عليها من تطلع إلى ذلك في الكتب الطبية، غير أنّها تعبر عن الصيام بالإمساك.. ومن هنا تأتي مقولة الرسول (ص): "صوموا تصحوا".

إلى غير ذلك من المنافع الصحّية كخفض الدم وتحديد السكر في الدم.. وغيره.

 

من حوادث الشهر المبارك:

وقد تضمن هذا الشهر حوادث عظيمة ورهيبة:

1-    فهذا الشهر هو شهر الله الذي نزل فيه القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين.

2-    وقد انتصر فيه المسلمون على المشركين في معركة بدر الكبرى. وكان الوحي قد أخبر عنه قبل بضع سنين: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الرّوم/ 1-5).

فهذه الآيات آيات مكّية أُخبر فيها النبيّ الأكرم (ص) في العام السابع من بعثته أُخبر بأنّ الرّوم المغلوبين سينتصرون على عدوّهم في بضع سنين. وأنّ هذا الانتصار يكون مقروناً بفرح المؤمنين ونصره سبحانه. وقد تحقّق الوعد في العام الثاني من هجرته، حيث انتصر المسلمون والموحّدون على الوثنيين في تلك الفترة، وفي الوقت نفسه انتصر الرّوم الإلهيّون على عدوّهم الوثني فكان الانتصاران مقرونين بالفرح والسرور.

3-    ولد الإمام السّبط الحسن بن عليّ المجتبى (ع) في الليلة الخامسة عشرة من الشهر المبارك وبذلك تجسّد الكوثر الذي وعد الله به نبيّه وقال: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، وبه بدأت أوّل ثمار سلالة النبوة والإمامة وزهق شناء شانئه، فصار النبيّ مظهراً للخير العميم أما عدوه فقد أصبح مقروناً بالعقم والبتر.

.. وأخيراً استشهد في هذا الشهر الإمام أمير المؤمنين بيد أشقى الأوّلين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربه ضرباً على قرنه فخضب منها لحيته ووجهه، ذلك الوجه الذي كرّمه الله فلم يسجد لصنم أبداً وهكذا هزّ هذا العمل الشنيع عرش الله سبحانه. وقد أخبر النبيّ الكريم بهذا العمل في بعض تلميحاته، في نفس الخطبة: "فكأني بك يا عليّ تصلي لربك وقد بُعث أشقى الأوّلين شقيق عاقر ناقة ثمود فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك" قال أمير المؤمنين: فقلت يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟ فقال عليه (ص): في سلامة من دينك.. ثمّ قال: يا عليّ مَن قتلك فقد قتلني، ومَن أبغضك فقد أبضغني، ومَن سبك فقد سبني، لأنّك مني كنفسي روحك من روحي وطينُك من طيني.

وهكذا تخضب يعسوب المؤمنين بدمه الشريف في محراب عبادته صبيحة يوم التاسع عشر من شهر رمضان عام 40هـ. وقد دفع بذلك ضريبة عدم مهادنته للظلم واصراره على القيام بالعدل وإرجاع المجتمع إلى العهد النبويّ الزاهر.

فهو وليد البيت العتيق، كما هو قتيل المسجد.. وفيه يقول أحد الكتاب المعاصرين:

لقد وُلد في الكعبة.. وضُرب في المسجد. فأيّة بداية ونهاية أشبه بالحياة التي بينهما من تلك البداية وتلك النّهاية؟!".

فما أحسن مبدأ الحياة وما أعظم النهاية. وسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.►

 

المصدر: مجلة رسالة القرآن/ العدد الثالث

ارسال التعليق

Top