• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في محراب الصوم

في محراب الصوم

◄ضيافة الله

يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

عندما نستقبل هذا الشهر المبارك، فإنّ علينا أن نُعدّ أنفُسنا إعداداً روحياً للدخول في رحابه، حيث نشعر كما ورد في الخطبة المروية عن النبيّ (ص)، بأنّنا في ضيافة الله، فعلينا أن نحصِّل هذه الضيافة، التي هي مغفرةُ الله ورضوانه ورحمته ولطفه ورزقه، ما يجعل الإنسان قريباً من ربّه بعقله وقلبه وروحه وحياته.

ونحن نحتاج كثيراً للحصول على هذا القرب من الله، لأنّنا عندما نفكّر في وجودنا، نعي أنّ الله هو الذي منحنا هذا الوجود (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (فاطر/ 2)؟ وإذا أردنا التفكير في حركتنا كلّها في الحياة، فإنّنا ندرك أنّها من نِعَم الله (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النحل/ 53)، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا) (النحل/ 18).

مقابلة الإحسان بالإساءة

إنّنا نعرِفُ أنّ حياتنا بآلائِها هي من الله، وفي رعايته، حتى إنّ الله يعطينا نِعَمه على رغم معاصينا وابتعادنا عمّا فرض علينا من واجبات، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين (ع) في دعاء أبي حمزة الثمالي: «تتحبّبُ إلينا بالنِّعَم ونعارضك بالذنوب..»، «خيرُك إلينا نازل، وشرّنا إليك صاعد»، فالله يعطينا المأكل والمشرب والمسكن، ونحن نغتابُ وننِمُّ ونزني ونأكُل الأموال بالباطل، ونفتِنُ «ولم يزل ملكٌ كريمٌ يأتيك عنّا في كلّ يومٍ بعملٍ قبيحٍ»، إنّها الملائكة التي تقدِّم تقريرها إلى الله تعالى «لا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنِعَمك، وتتفضّل علينا بآلائك، سبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك، مبدئاً ومعيداً».

محبّة الله

لقد أدركنا أنّ كلّ ما نملك في هذا الكون الرحيب وما عندنا، هو من الله الخالق (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون/ 14)، فكلّ ما في الطبيعة من ماءٍ وهواءٍ وخلايا وأجهزة داخل الجسم، كلّها خلقُ الله، فهل يمكننا الاستغناء عن مقوّمات الحياة الكونية والإنسانية؟

نحن مرتبطون بالله بما لم نرتبط بأحدٍ في هذا الوجود، مربوطون به بكلّ وجودنا، حتى في لحظةِ حضور الأجل، وسوف نقِفُ بين يديه تعالى، وهذا الوقوف يوجبُ علينا أن نقيم العلاقة مع الله ونوثّقها، فكيف نوثّق علاقاتنا بمن تربطنا المصالح بهم، ولا نوثّقها بالله الذي نحتاج القربَ منه والحبّ المتبادل معه؟

وهذا ما عبّر عنه الرسول (ص)، حين دفع الراية إلى أمير المؤمنين (ع) في معركة خيبر، بعد أن أخفق الجميع: «لأُعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله»، فالحبّ متبادلٌ من الجانبين. والسؤال: كيف نحصل على هذا الحبّ؟

لقد بيّن الله هذه القضية الحساسة في القرآن الكريم، ولا سيّما الوسيلة فيها، وهي على لسان النبيّ (ص): (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ) (آل عمران/ 13)، لأنّ الرسول (ص) يبيّن عن الله تعالى، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فاتّباع الرسول (ص) محبّةٌ لله، لأنّه يحبّ التوّابين (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222)، والله لا يحبّ الخائنين والكاذبين والمنافقين، وإنّما يحبّ الصادقين، كما أنّه تعالى لا يحبّ المجرمين أو الظالمين؛ فهل يُعقَل أن تحبّ وتظلِم وتفسِد في الأرض؟

حساب النفس

والظلمُ ليس بمعنى الحاكمية، وإنّما الظلم أن تأخُذ الحقّ وتغصبه ممّن له حقّ عليك.. والظلم يكون من خلال الاعتداء على الناس الضعفاء أمامك، وهذه مسائلٌ تحتاج إلى مناقشةٍ وحسابٍ مع النفس، لأنّنا مشغولون عن أنفُسنا، فعن أمير المؤمنين (ع): «مَن نظرَ في عيبِ غيره اشتغل عن عيبِ نفسه»، النفس الأمّارة بالسوء، والتي لم يفكّر أحدنا أن يجلس معها ليسألها عن نقاط ضعفها وقوّتها، وليتساءل معها: كم كذبة كذبت؟ كم غيبة؟ كم ظلماً؟ كم شتيمة؟ لنكن أصدقاء أنفُسنا، فصديقك مَن صدقك لا مَن صدّقك.. أن ننهى هذه النفوس عمّا يضرّها، ونرشدها إلى ما ينفعها: «يا نفسُ، ما نهى الله عنه فهو ممّا يُفسد حياة الإنسان في دنياه وآخرته، وأمّا ما أمرَ الله به، فهو ممّا يصلح حياة الإنسان في دنياه وآخرته».

فلنفكّر بهذه الطريقة، ونحن في ضيافة الله، حتى نخلِص لله في شتّى أُمورنا، وحساب النفس ليس أمراً سهلاً، إنّه يتحرّك في عالم الشهوة والمزاج (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 40-41)، فالإنسان مدعوّ لفهم نفسه وحسابها ومحاكمتها ومجاهدتها، «اجعل نفسك عدوّاً تجاهده، لأنّها أمّارة بالسوء إلّا ما رحم ربّي».►

 

المصدر: كتاب تقوى الصوم

ارسال التعليق

Top