• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ترويض النفس المؤمنة على الصبر

ترويض النفس المؤمنة على الصبر

◄-الصبر على المصائب:
نهى الإسلام المؤمنين في التحزُّن لقتلاهم والتحسُّر عليهم في الحروب، كما كان يفعل المشركون.. وقدَّم الإسلام للبشرية مفهوم الإستشهاد، وهو أنّ القتيل في سبيل الله إنّما هو حيٌّ يرزق، يتمتّع بما أنعم عليه الله من الفضائل والمكارم.
وفي أُحُد، حيث عصى الرماة أمر رسول الله (ص) فتركوا مراكزهم جرياً وراء الغنائم، نزلت بالمسلمين مصيبة فادحة، فاستشهد سبعين رجلاً من خيرة أصحاب رسول الله (ص)، وتقهقر جيش المسلمين بسبب معصيتهم رسول الله (ص) وهو القائد، فنزلت الآية القرآنية الكريمة: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 165)، وهي تدعوهم إلى ترك الحزن والجزع، فإنّ المصيبة التي وقعت عليهم قد وقعت على أعدائهم أيضاً.. وتدعو بالنتيجة على الصبر في الشدائد والمحن.
واستثنى القرآن الكريم الصابرين العاملين من صفة غالباً ما تتواجد لدى الناس، وهي صفة الكفر بنعمة الله، فإن آتى الله الإنسان شيئاً من النعم وسلبها منه، يئس هذا الإنسان وكفر بنعمة الله حتى كأنّه لا يرى عودة هذه النعم إليه ثانية.. وإن جاءته النعم بعد الفقر والفاقة دخل في قلبه الفخر والسرور والخيلاء، وكأنّ الفقر والفاقة لا تعود إليه أبداً وهذا أيضاً كفر بتقدير الله وقضائه.
يقول تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (هود/ 9-11).
والتخلص من هذه الصفة الذميمة، صفة الكفر بنعمة الله، إنّما يتمشّى مع الصابرين الذين يصبرون عند الشدائد فلا يحملهم الجزع على اليأس والكفر.. وهم العاملون الذين يدعون إلى الله سبحانه ويذكرون الله كثيراً شكراً لنعمه وإكرامه، لذلك وعدهم الله وعداً حسناً بقوله: (أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)، كما قال للمؤمنين: (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (فاطر/ 7)، (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (الملك/ 12).
 
-أنبياء الله.. ومفهوم الصبر:
كان آل فرعون، وخاصة الأقباط، يذيقون بني إسرائيل مختلف أنواع العذاب فيقتلون الذكور ويبقون النِّساء لإسترقاقهم وإذلالهم.. وعندما جاء موسى (ع)، أنجاهم الله وفرَّج عنهم.. وفي أجواء هذه القصة، يتحدّث القرآن الكريم عن معنى التوكّل على الله سبحانه، فيقول: (وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم/ 12)، والمعنى ما الذي نملكه من العذر في أن لا نتوكّل على الله وهو الذي هدانا إلى طريق الإيمان، وليكن صبرنا لله على ما نلاقي في العذاب والأذى، وإنّما نحن نتوكّل على الله سبحانه وتعالى، لأنّ الله (حاشاه) لا يخون عباده ولا يريد بهم إلا الخير.. والمتوكل بحقيقة التوكل لا يكون إلا مؤمناً فإنّه مذعن أنّ الأمر كلّه لله فلا يسعه إلا أن يطيعه فيما يأمر وينتهي عمّا ينهي ويرضى بما رضي به ويسخط عمّا يسخط عنه وهذا هو الإيمان.
وأمر القرآن الكريم النبي (ص) بالصبر على أقوال المشركين وتخرصاتهم واستهزائهم بيوم الحساب وذكّره ببعض الأنبياء كداود (ع)، حيث سخّر الله له الحيوانات والجبال تسبح للخالق وآتاه الله الملك، يقول تعالى: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص/17-20).
وتذكرة النبي (ص) بقصة داود (ع) في حديث عن الصبر، يؤيِّد القول بأنّ داود (ع) كان صابراً محتسباً إلى الله، بالرغم من إتيانه الملك.. فالرئاسة امتحان وابتلاء، وما لم يصبر الإنسان على ذلك، فإنّ الشيطان له بالمرصاد.. وكثير من الناس مَنْ يعتزّ بمنصب أو وظيفة أو جاه. والواقع، أنّ الذي يدخل معترك الحياة الاجتماعية والسياسية عليه أن يدرك أن أشد ما يغوي الإنسان ويحرفه عن طريق الله هو تعلقه بمظاهر القوة والسلطة وحبّ التملك.. وإذا لم يكن ذاكراً لله، مستغفراً لذنوبه، ناقداً لنفسه، عفيفاً في تعامله مع الحياة، صابراً في ابتلائه، أغواه الشيطان، وأدخله في محارم، ما كان يتصور يوماً انّه سيدخلها..
وكان النبي يوسف (ع) يدعو الله سبحانه وتعالى متذللاً خاشعاً أن يثبِّته على عقيدة التوحيد، ويحشره مع الصالحين، في الوقت الذي كان فيه عرش مصر تحت قبضته.. فيناجي يوسف ربّه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 101).
وينقلنا القرآن الكريم إلى مثال آخر ذو عبرة فائقة، ودرس متميز، وهي قصة قارون: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ) (القصص/ 80)، وقارون هو من قوم موسى، حيث كان يبتغي العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على نبيه موسى (ع)، فقال له موسى (ع): إنّ الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى، فقال هارون: إنّ موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل، فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغيَّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنّه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها، فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنّه فجر بك. قالت: نعم.
فجاء قارون إلى موسى (ع) فقال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربّك، قال: نعم، فجمعهم، فقالوا له: بمَ أمرك ربّك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى، ومن أحصن أن يُرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قالوا: فإنّك قد زنيت، قال: أنا؟ فأرسلوا إلى المرأة فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى (ع): أنشدتك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنّهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن اقذفك بنفسي وأنا أشهد أنّك بريء وأنّك رسول الله.
فخرَّ موسى (ع) ساجداً يبكي، فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلّطناك على الأرض فأمرها تطيعك، فرفع رأسه، فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى، يا موسى. فقال: خذيهم، فغيَّبتهم، فأوحى الله: يا موسى، سألك عبادي وتضرَّعوا إليك فلم تجبهم فوعزّتي لو أنّهم دعوني لأجبتهم. قال تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) (القصص/ 76-81).
والقصة التي ذكرت هي تفسير لقوله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ).. والحقيقة أنّ ثواب الله سبحانه لا يمكن كسبه إلا بالصبر على مخالفة الطبع وعصيان النفس الأمّارة بالسوء، التي تدعو إلى جمع الكنوز والأموال، والتسلط على رقاب الناس، وكأن هذه هي السعادة المطلقة، ولذلك قال تعالى: (وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ).
 
-        يونس (ع) والإبتلاء:
دعى يونس (ع) قومه في مدينة نينوى، إلى عبادة الله سبحانه، فكان يصعد مكاناً مرتفعاً في المدينة ويجعله منبراً، فيقول: "يا أيها الناس، إنِّي لكم نذير مبين من الله القادر، النافع الضار، العزيز، الحكيم.. إنِّي أنهاكم عن عبادة الأصنام، لأنّها أحجار لا تنطق، ولا تنفع، ولا تضر، وأدعوكم إلى عبادة الله الواحد القهّار الخالق البارئ المصوِّر، خالقكم ورازقكم لا إله إلا هو الحي القيوم الذي يحيي ويميت وهو على كلِّ شيء قدير وإليه المصير، وانّه قد أرسلني إليكم نبياً ورسولاً لأخرجكم من ظلمات الشرك إلى نور الحقِّ واليقين والإسلام".
فكانوا يجتمعون عليه ويسخرون منه ويضربونه ضرباً مبرحاً حتى يخرّ مغشياً عليه. ظلّ يونس يدعو قومه إلى عبادة الله ثلاثاً وثلاثين سنة فلم يؤمن معه غير رجلين.. ولمّا يئس من هداية قومه، دعا عليهم وطلب من الله أن يعجِّل لهم العذاب ويهلكهم جميعاً كما أهلك الأمم التي كذبت أنبياءها من قبل.. فهبط عليه جبريل (ع) وقال له: "لماذا تعجل على قومك فتطلب هلاكهم؟ إنّ الله في لوحه المحفوظ قد كتب لهم الإيمان وأراد لهم التوبة. فقال يونس: ما رأيت منهم إلا الإصرار على الكفر والتمسك بعبادة الأصنام".
فقال جبريل: "إنّ الله يأمرك أن تتابع دعوتك أربعين يوماً، فإن تابوا آمنوا غفر لهم وجعل لك ضعف ثوابهم جميعاً، وإن لم يؤمنوا أهلكهم".
عاد يونس إلى قومه يدعوهم صباح مساء وهم معرضون. ولمّا فاض بهم الكيل من إلحاحه عليهم وتسفيهه آلهتهم، وشوا به إلى الحاكم. فأرسل إليه الحاكم وجمع له الأمراء والناس وقال له: مَنْ إلهك يا يونس؟ قال: هو الذي يعطي الناس أرزاقهم. قال الحاكم: أليس هذا الصنم إله الرزق والخيرات؟ قال يونس: ليس هذا بإله، ولكنه حجر أصم لا ينطق ولا ينفع ولا يضر. قال الملك: أيستطيع ربّك أن يمنع عنك عذابي؟ قال يونس: نعم، إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
قال الملك: إذن اطلب من ربّك أن يمنع عنك عذابي هذا، ثمّ أمر الجلادين.. فانهالت السياط على جسم يونس فمزقت ثيابه ومزقت جلده ونزف دمه غزيراً وهو صابر لا يئن ولا يتأوّه، وما زالوه به حتى أغمي عليه ووقع على الأرض لا يستطيع حراكاً. فضحك الناس عليه، وقالوا: غلب ربّنا ربّه وأصبح يونس عبرة لكلِّ جاحد لألهتنا.
عاد الملك إلى قصره وانفضّ الناس من حوله، ولمّا أفاق من غشيته، ذهب إلى أحد المؤمنين الذين دعاهم للإيمان فبقي عنده حتى سكنت آلامه ثمّ عاد إلى جهاده وتبليغ دعوته. كان قد مضى عليه سبعة وثلاثون يوماً من نزول الوحي عليه، ولم يبقَ سوى ثلاثة أيام على نزول العقاب.
فلمّا أصبح الصباح، خرج إلى الناس وصار يدعوهم إلى الهداية قبل أن يحل غضب الله. فلمّا رأوه بينهم من جديد، فروّا منه خائفين، فذهب إلى الميدان الكبير أمام قصر الملك ونادى بأعلى صوته: يا قوم، الله، الله، العذاب، العذاب، فخرج الملك وأرسل الجنود فقبضوا عليه وجاء الناس من الحقول والدور يتزاحمون على رؤية هذا الرجل المستهين بحياته، وسيق يونس حتى كان أمام الملك، والجنود عن يمين وشمال قد سلّوا سيوفهم ينتظرون إشارة الملك، فقال الملك: ماذا تريد اليوم، ألم يكفك ما نالك من عذاب الأمس فجئت لتأخذ الكيل مضاعفاً؟ قال يونس: ألا فاعلموا جميعاً أنّكم تعبدون أصناماً لا حول لها ولا قوة، وأنّ الله حقّ وهو الذي خلقكم ورزقكم وهو القادر على أن يخسف بكم الأرض، ألا فاشهدوا أنِّي بريء ممّا تعبدون، إنِّي بلغتكم رسالة ربِّي ونصحت لكم، فإن لم تؤمنوا فسيأتيكم العذاب بعد يومين. فنظر الملك إلى يونس مستهزئاً، وقال: كيف يكون العذاب يا هذا؟ قال يونس: إن لم تؤمنوا اليوم فإنّ ألوانكم ستتغير غداً ويأتيكم العذاب بعد غد إن شاء الله.. ضحك الملك، فقال: سنمهلك للغد حتى يعرف الناس كذلك فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
ولمّا أصبح الصباح، تغيّرت ألوانهم ففزعوا، وقال بعضهم لبعض: نزل بكم ما قال يونس. وقال آخرون: انتظروا حتى يأتي المساء، فإن كان يونس (ع) في المدينة فأنتم في أمن من العذاب الذي وعدكم، وإن خرج الليلة من المدينة فإنّ العذاب سيحل بكم في الصباح فنسارع بالإيمان بالله قبل نزول العذاب.
فلمّا كانت ليلة الأربعين، أيقن يونس (ع) بنزول العقاب بعدما تبيّن له من بعد الناس عنه، فخرج من المدينة وهو يتوعّد أهلها بعذاب الله في الغد. فلمّا كان الغد غشيهم العذاب من فوق رؤوسهم، فخرج عليهم غيمٌ أسود فيه دخان شديد، ثمّ نزل على المدينة فاسودت المباني وكاد القوم يختنقون. فلمّا رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، وطلبوا يونس (ع) ليتوبوا على يديه فلم يجدوه، ووجدوا داراً قد انقشع الغيم عنها فدخل بعضهم فيها يحتمي من الدخان. ووجدوا فيها رجلين مؤمنين هما صاحبا يونس (ع) كانا يدعوان الله لقومهما بالهداية ورفع العذاب عنهم. فلمّا رأوا ذلك منهما، قالوا: قد آمنا بما آمنتم به وصدقنا بما تصدقون وطلبنا يونس لنؤمن على يديه ويعلمنا الدين، ولكنه خرج من المدينة فاحدق بها العذاب، فاخرجا إلى قومكما لتعلماهم ما يفعلون.
خرج الرجلان واجتمع الناس حولهما، وقد تكاثف الدخان ولمع البرق وقصف الرعد واشتد ضيق الناس وفزعهم وزاغت أبصارهم، قال أحد الرجلين المؤمنين: يا أيها الناس، ادعوا معي بهذا الدعاء: يا حيُّ يا قيوم حين لا حي غيرك، لا إله إلا أنت ولا إله غيرك، تحركت الألسنة ورددت هذا الدعاء، وتسرّبت أنوار الإيمان إلى صدورهم ونزلت دموع التوبة على خدودهم فانجابت السحب وانكشف السماء وأقلع عنهم العذاب وقد صاروا جميعاً إخواناً في دين الله فردوا المظالم إلى أهلها حتى أنّ الواحد كان يقلع الحجر من داره ويعيده إلى صاحبه ثمّ فرّقوا المال بالتساوي بينهم وبين الفقراء.
قبل الله توبتهم، وكشف عنهم العذاب وإذا سحاب ممطر يغسل دورهم مما علق بها من السواد ويروي الأرض، ثمّ أشرقت الشمس تعلن السلام للناس، فكان أوّل عمل قاموا به هو هدم معابد الوثنية وتكسير الأصنام وبناء المعابد التي يقيمون فيها شعائر الدين فاستقامت حياتهم وحسن إيمانهم.
 
-         موقف يونس (ع):
ظلّ يونس بعيداً عن المدينة ينتظر أخبار العذاب الذي نزل بها، وكلّما مرّ عليه إنسان سأله عن حالها، وما حصل لسكّانها، فكانت الإجابة على غير ما كان يرجو وينتظر، وكان أهل نينوى يبحثون عنه وقد أوفدوا أحد الرجلين اللذين آمنا به ليدعوه إليهم ويعود إلى المدينة التي خرج منها فيكون زعيمهم ونبيهم يعملون برأيه ويهتدون بهديه. فلمّا قابله الرجل عزَّ على يونس أن يعود إليها وقد ظنّ أنّ الله خذله فيها مرّتين: الأولى حين لم يمنع عنه الملك لمّا تحدّاه، والثانية حينما أخذهم بالعذاب فمنعه الله عنهم فكان كذّاباً في نظرهم.
رفض يونس العودة إلى قومه، وكان حانقاً غاضباً عليهم، فقال الرجل: لقد آمنوا جميعاً وأصبحوا على ما كنت ترجو لهم فما سبب غضبك وحنقك؟ قال يونس: كنت أود أن يحقق الله نبؤتي فينزل العذاب بقومي ثمّ يكرمني برفعه عنهم على يدي. قال الرجل: ولكنك فررت من المدينة قبل أن يحيق بها العقاب، ولو أنّك نفذت أمر الله ومكثت بينهم الليلة الأخيرة من الأربعين يوماً لكان كشف العذاب بوساطتك أنت. فقال يونس: اذهب عنِّي، فلا أطيق أن أسمع بقومي بعد ذلك الخذلان المرير. ثمّ ابتعد عن الرجل مغاضباً فهجر الديار ومشى في الأرض على غير هدى، وكلّ همه أن يبتعد عن هذه الديار حتى لا يرى وجه إنسان عرفه من قبل.
ظلّ يونس مهاجراً حتى أشرف على ساحل البحر، فوجد سفينة مشحونة بالمسافرين وعروض التجارة، وعرض على ربانها أن يحمله فيها، ولمّا رأى الربان على وجهه الصلاح والتقوى، قال في نفسه لعل الله يكرمني بإكرام هذا الرجل الصالح فيمنع عن سفيتني أخطار البحر بسببه، فأذن له بالركوب.
سارت السفينة أياماً وليالي، وكلّما مرّت بجزيرة خرج أهلها يتبادلون معها عروض التجارة وتأخذ السفينة منها حاجتها من الماء والطعام، ثمّ تقلع إلى غيرها تدفعها ريح هادئة طيبة، ثمّ جاءها ريح عاصف وخيم عليها سحاب أسود. فهاج البحر وثارت الأمواج، فاضطربت الأحوال وذعر الركاب، فرفعوا رؤوسهم إلى السماء بالدعاء لينجيهم الله من الكارثة، وكان يونس (ع) يدعو معهم، فرأى سحاباً يخرج منه دخان أسود، وخاف خوفاً شديداً لأنّه علم أنّ هذا الدخان هو نذير العذاب كما حصل لأهل نينوى، وتذكر أنّه خالف أمر ربّه فخرج من المدينة وأراد هلاك قومه فابتلاه الله بالعذاب الذي أراده لهم. ألهم إنّ وجوده على ظهر هذه السفينة سيكون سبباً في كارثة تحل بالجميع، فأسرع يونس (ع) إلى ربان السفينة، وقال له: إنّ ما ترونه الآن من بوادر العذاب بسبب خطيئتني، فألقوني في البحر يرفع الله عنكم الشر، فقال الربان: إنّك أصلح رجل فينا وما عهدناك إلا رجلاً صالحاً تقياً مخلصاً لله مسبحاً مستغفراً، فالخطيئة من غيرك، وسوف نستخير الله فنقترع بالسهام على المخطئ بيننا ونضحي به لسلامة الجميع.
أجريت القرعة ثلاثة مرّات، فأصابت يونس (ع) في كلِّ مرة، وفي كلِّ مرة كانوا يحجمون عن إلقائه في البحر، ولكن يونس (ع) تأكد أنّ الله قد ابتلاه واختاره، فألقى نفسه في الماء، وكان الظلام حالكاً والموج صاخباً فلم يستطع ركاب السفينة إنقاذه، فأسفوا عليه ترحموا له، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (الصافات/ 141).
 
-        الحوت يبتلع يونس (ع):
أقبل الحوت فاغر فاه فابتلع يونس (ع) من بين الأمواج، وعاد إلى مسكنه في قعر البحر، فألهم الله الحوت أن يحافظ عليه، فلا يخدش له لحماً ولا يكسر له عظماً، فبقي حياً في بطن الحوت بإذن الله، ولمّا انتهى به الحوت إلى أسفل البحر سمع يونس (ع) حسّا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه، وهو في بطن الحوت، إنّ هذا تسبيح دواب البحر، فأسف لما بدر منه من الغضب، وأخذ يسبح الله ويستغفره، حتى سمعت الملائكة تسبيحه، فشفعت له عند الله سبحانه، فألهم الله يونس (ع) شفاعة الملائكة، فنادى في ظلمات بطن الحوت: (أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء/ 87).
 
-        إستجابة دعاء يونس (ع):
فلمّا دعا يونس (ع) ربّه بدعوته المعروفة، وشفعت له الملائكة، استجاب الله دعائه: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات/143-144). قبلَ الله توبة يونس (ع)، وأمر الحوت أن يسرع به إلى البر، فينبذه على الأرض بالعراء. وأخذ الحوت طريقه إلى الشاطئ، ولفظه على البحر طرياً ضعيفاً، لا يتحمّل حرارة القيظ ولا برد الليل، كما ينزل الطفل من بطن أُمّه.
أنبت الله بجانبه شجرة من يقطين (شجرة قرع) مدت إليه فروعها، فغطته أوراقها الطرية، وأرسل إليه دابة وحشية كانت ترضعه كلّ صباح ومساء، حتى صلب عوده، وعادت إليه قوته. فيبست الشجرة، وجفت أوراقها، فحزن يونس (ع) عليها وبكى. فنزل إليه جبريل، وقال له يونس: أتبكي على هلاك شجرة، ولا تحزن على مائة ألف من قومك أردت إهلاكهم، وغضبت لرحمة الله بهم؟ فقال يونس: إنِّي كنت من الظالمين. قال جبرئيل: قم واذهب إلى قومك فهم لا يزالون ينتظرون عودتك إليهم، فقد عفا الله عنك وعنهم. فعاد إلى قومه، وهو يقول ما أشبهني بقومي، وما أوسع حِلمَ ربِّي وأقرب صفحه ورحمته.
قال الله سبحانه وتعالى بصدد قصة يونس (ع): (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (الصافات/ 139-148).
والآية في إشعارها برفع العذاب عنهم وتمتيعهم، تشير إلى قوله تعالى: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس/ 98).
وذكر القرآن الكريم وضع يونس (ع) في موضع آخر، فقال: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 87-88).
وفي هذا الموقف الدقيق، حذّر الله سبحانه النبي محمد (ص) أن يكون كيونس (ع)، حيث كان قليل الصبر مع قومه، ودعاه إلى أن يكون صابراً لحكم الله، قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القلم/ 48-50). ولم يتخل النبي (ص) عن الصبر طول حياته، فقد صبر في مكة مع أزلام قريش وشركهم واستهزائهم، وصبر في الطائف عندما حاربه الناس بالحجارة، وصبر في المدينة عندما استغل المنافقون ضعف المسلمين، وصبر في الحروب مع المشركين على الجوع والعطش.. وصبر في كلِّ مواقف الإسلام الكبرى، حتى وعده الله سبحانه وتعالى بالنصر المؤزر، فكانت حياة النبي (ص) كلّها صبراً واحتساباً وإيماناً وثقة بالله تعالى.
 
-         طالوت والفئة القليلة:
لما ارتكبت بني إسرائيل المعاصي والموبقات بعد موت موسى (ع)، سلّط الله عليهم (جالوت)، وهو من الأقباط، فكان ملكاً متجبراً أذلّهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأموالهم واستعبد نسائهم، ففزعوا إلى نبي لهم في ذلك الزمان اسمه (أرميا)، فقالوا له: اسأل الله أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك والسلطان في بيت آخر، ولم يجمع الله النبوة والملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبيهم (أرميا) ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا، فكان كما قال الله: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين. فقال لهم نبيّهم: إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، فغضبوا من ذلك، وقالوا: أنى يكون له الملك علينا؟ ونحن أحقّ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال. فلم يكن طالوت من بيت النبوة ولا من بيت المملكة، حيث كانت النبوة في بيت (لاوي) والملك في بيت يوسف (ع). فقال لهم نبيهم: إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه مَن يشاء، والله واسع عليم، وكان أعظمهم جسماً وكان قوياً، وكان أعلمهم، إلا أنّه كان فقيراً فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال. وعندما أمر بني إسرائيل بالقتال لم يخرج إلا القليل (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 249-251).
هذه القصة القرآنية درس رائع في التربية الأخلاقية، حيث يعلِّمنا القرآن إنّ النصر لا يأتي عبر الوسائل المادية فحسب، بل إنّ للإيمان والصبر الميزان الأثقل، والفئة القليلة الصابرة تغلب الفئة الكثيرة الكافرة بنعمة الله.. وعندما برزت الفئة القليلة المجاهدة، طلبت من الله شيئاً هو الأساس في تحقيق النصر على أعداء الله، وهو الصبر والثبات عليه.. ربّنا افرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.. وليكن هذا الدعاء شعار الأجيال الواعية، حيث تطلب الصبر والثبات في المعركة، والانتصار على القوم الكافرين.. ربّنا افرغ علينا صبراً وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
 
-         قصّة أيوب (ع):
ويتطرّق القرآن الكريم إلى قصة النبي أيوب (ع)، فيسبغ عليه وصفاً جميلاً، فيقول: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص/ 44)، وبالتأكيد فإنّ الله سبحانه لم يؤكد ويقرر صبر أيوب إلا بعد أن ابتلاه بمختلف الإبتلاءات.. فقد كان أيوب (ع) جميلاً قوياً قد أنعم الله عليه بالرزق الوفير، ورزقه بالأولاد والبنات.. وكان حسن الخلق مستقيماً تقياً رحيماً بالمساكين وكان شاكراً لله، ذاكراً له، صابراً على الابتلاءات.. وأوّل هذه الابتلاءات كان احتراق الإبل والمزارع العائدة له. فقال أيوب (ع): الحمد لله الذي أعطاني وأخذ منِّي ما كان وهبني. أنّها ماله اعارينها وهو أولى بها، إن شاء تركها وإن شاء أخذها، ما أتيت إلى الدنيا مالكاً. لكنني جئت مملوكاً، عريان خرجت من بطن أُمّي، وعريان أعود إلى القبر، وعريان أحشر إلى ربِّي، وهبّت عاصفة على بيت أيوب (ع) فهدّمت البيت وقتلت جميع الأولاد، فبكى أيوب وقال: يا ليتني لم أخلق، واستغفر الله وصبر واحتسب، ثمّ سلط الله عليه داءً خبيثاً مع حكة شديدة استعمل خلالها الفخار والحجارة الخشنة، فلم يزل يحك جسمه حتى نزل لحمه وتقطّع وتغيّر وانتنّ، فأخرجه أهل القرية، وألقوه قرب مجمع للقمامة خارج القرية وبعيداً عنها درءاً لخطر العدوى. ولم يبقَ لأيوب مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقربه غير رحمة الله ورحمة امرأته التي صبرت معه وظلّت تخدمه وتأتيه بالطعام، وكان أيوب على ما به صابراً لا يفتر عن ذكر الله تعالى والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه. وأقصى ما قاله وهو على هذه الحال دعائه، وهو يتوجه إلى ربّه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء/ 83)، ثم أخذ يناجي الله سبحانه: يا رب أنا لم أكن قط بين أمرين إلا وقد طلبت رضاك فيهما دون رضاي، وما شبعت من الطعام قط خوفاً أن أنسى. فبأي ذنب أخذتني؟ يا رب لأي شيء خلقتني! ليتني إذ كرهتني ما خلقتني. يا ليتني كنت حيضة ألقتني أُمّي. أو ليتني قد عرفت الذنب الذي أذنبت، والعمل الذي عملت فصرفتُ وجهك الكريم عنِّي، لو كنتُ أمتني وألحقتني بآبائي، فالموت كان أجمل لي.. يا إلهي ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم ولياً وللأرملة قيِّماً؟
إلهي أنا عبدك الذليل إن أحسنت فالمنّة لك وإن أسأل فبيدك عقوبتي – جعلتني للبلاء عرضاً وللفتنة نصيباً – لقد وقع عليَّ بلاء لو سلطته على جمل لضعف عن حمله – فكيف يحمله ضعفي؟ إلهي تقطعت أصابعي فإنِّي لا أرفع الأكلة من الطعام إلا بيدي جميعاً فما يبلغان فاهي إلا على الجهد منِّي.. إلهي تساقطت لهواتي ولجم رأسي فما بين أذني من سداد، بل إحداهما ترى من الأخرى.. وإنّ دماغي ليسيل من فمي.. إلهي تساقط شعر عيني كأنّما أُحرق بالنار وجهي، وحدقتاي متدليتان على خدي وورم لساني حتى ملأ فمي فما أدخل فيه طعاماً إلا غصني، وورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي، والسفلى ذقني، وتقطعت أمعائي في بطني وأني لأدخل الطعام فيخرج كما دخل ما أحسّه ولا ينفعني، وذهبت قوة رجلي فكأنّهما قد يبستا ولا أطيق حملهما، وذهب المال فصرت أسأل بكفي، ويطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة فيمن بها عليَّ ويعيرني.. إلهي هلك أولادي ولو بقي واحد منهم أعانني على بلائي ونفعني، قد ملّني أهلي وعقني أرحامي وتنكّرت لي معارفي، ورغب عنِّي صديقي وقطعني أصحابي، وجُحِدت حقوقي، ونُسيت صنائعي.. أصرخ فلا يستصرخونني، وأعتذر فلا يعذرونني.
واعتذر أيوب (ع) إلى الله سبحانه وتعالى على هذا الدعاء القاسي، فقال: ليت الأرض انشقت لي فذهبت ولم أتكلم بشيء يسخط ربِّي حين اجتمع عليَّ البلاء.. إلهي قد جعلتني مثل العدو، وقد كنت تعرفني وتعرف نصحي، وقد علمتُ أنّ كلَّ الذي ذكرته صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من هذا لو شئت علمت أن لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة. مَن هذا الذي يظن أن يسر عنك سراً وأنت تعلم ما يخطر على القلوب، وقد علمتُ منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت أن يكون أمراً أكثر مما كنت أخاف، إنما كنت أسمع بصوتك فكما الآن فهو نظر العين، إنما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، سوكت حين سكت لترحمني. كلمة زلّت من لساني فلن أعود، وقد وضعت يدي على فمي، وعضضتُ على لساني، وألصقت بالتراب خدي، ودسست فيه وجهي لصغاري. سكت حتى أسكتتني خطيئتني، فاغفر لي ما قلت، فلن أعود لشيء تكرهه منِّي.
فأجابه الله تعالى: يا أيوب، نفذ فيك حكمي، وسبقت رحمتي غضبي، إذا أخطأ فقد غفرت لك ما قلت ورحمتك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية، وتكون عبرة لأهل البلاء! وعزاء الصابرين، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فيه شفاء لك.. فذكر القرآن الكريم هذه القصة بقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء/ 83-84).
وقصة أيوب (ع) ومعاناته، بالتأكيد، درس متميز، على البشرية أن تستوعبه.. فأيوب لم يصبه ما أصابه بسبب الدعوة إلى الله سبحانه، ولم يتعرّض إلى أذى الناس في البداية.. وإنّما أصابه الله سبحانه بالعذاب ليكون عبرة ودرساً.. وأنّ الابتلاء الجسدي أو الدنيوي أو المادي إنّما يمرّ على أيِّ إنسان.. وفي هذه الحالة لا مفرّ له من أن يصبر.. فالصبر على هذه الحالات إنّما ينبع أصلاً من الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
 
-         عاقبة الصابرين:
يتناول القرآن الكريم، في عرض رائع، مصير الصابرين وحياتهم الأخرى بعد الممات.. والنعيم الذي سيلحق بهم تكريماً لهم من خالقهم العظيم، يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 22-24).. فالجنات الخالدة لا تمنع إلا لاولئك الصابرين عند المصائب، الصابرين على الطاعات، والصابرين عن المعاصي.. مع الالتفات إلى أنّ الصبر بكلِّ أنواعه يصب في مجرى واحد.. وهو ابتغاء وجه الله (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ).. فالصبر لا يمكن أن يؤتي ثماره ما لم يكن خالصاً لوجه الله.. والإيمان لا يكتمل بالصبر فقط، بل بالعمل، كإقامة الصلاة والإنفاق والدعوة إلى الله وغيرها..
ويذكر القرآن الكريم في موضع آخر وعده تعالى للصابرين المتوكلين عليه، فيقول: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (العنكبوت/ 58-59). والآية إشارة تلطيف من الله سبحانه إلى المؤمنين المستضعفين الذين كانوا يعانون من آلام التعذيب الذي كان يصيبهم من مشركي مكة. فأمرهم بالصبر والتوكل على الله والهجرة في سبيله إن أشكل عليهم أمر الدين واقامة فرائضه.. وقد وصفهم الله تعالى بالعاملين (نعم أجر العاملين)، ثمّ فسّر العاملين بقوله: (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
وعلى نفس السياق، يتحدّث القرآن عن مفهوم الهجرة والصبر، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل/ 41-42).
ومفهوم الهجرة بزغ في فجر التاريخ الإسلامي عندما أمر الرسول (ص) مجموعة من المؤمنين بالهجرة على الحبشة بعدما لاقوا الكثير من العذاب والإضطهاد من قبل مشركي مكة، وهاجر المؤمنون مرة أخرى مع الرسول الأكرم (ص) إلى المدينة لإقامة الدولة الإسلامية.. ومفهوم الهجرة يستند على أساس أنّ الإنسان المؤمن ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أرقى وأرفع، فهو دائماً يبغي الكمال.. ويرافق الانتقال الكثير من المعاناة والشدة، ولذلك فإنّ مفهوم الصبر والتوكل على الله ضرورة من ضرورات الهجرة (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الزمر/ 10-13).
ولم يُميِّز القرآن الكريم وهو يتحدّث عن الصبر والصابرين، لم يُميِّز بين الرجل والمرأة، بل وعد الصابرين العاملين ذكوراً وأناثاً وعداً جميلاً وحياة طيبة دافئة، يقول تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 96-97).
إنّ الصبر على مصائب الحياة، والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية، إنّما هو المقياس الحقيقي لإيمان الإنسان والتزامه، وهو المقياس لمدى إدراك الإنسان لأبعاد الحياة، وخاصة وأنّ كلَّ مجريات الحياة ملزمة بتقدير الله سبحانه وتعالى.. أنّ شخصية الإنسان المسلم لا تكتمل بدون تكامل المفاهيم الأخلاقية الإسلامية في سلوكه وفهمه وتعامله مع الناس.. وإنساناً لا يملك مقومات الصبر، لا يستطيع أن يتعامل أو يُغيِّر أُمّة تتشابك في عقلها شتى الأفكار المتضاربة، وتتصارع في حلبتها مختلف التيارات الفكرية.. فالصبر والمصابرة والتوكل على الله هي الخطوة الأساسية في معركتنا اللاحبة مع أعداء الإنسانية والدين والحياة►.

المصدر: مجلة المنطلق/ العدد السابع والعشرون

ارسال التعليق

Top