• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

هل ما زال أطفالنا يطالعون؟

هل ما زال أطفالنا يطالعون؟

يسأل كثير من الأهل مثل هذا السؤال وعليه أجيب بنعم: لأنّه لا يظن أحد أنّ المطالعة فقط من الكُتب ففي عالمه وسائل أخرى تهيئ له المعرفة. القراءة كسلوك أمر يكتسبه الطفل من مصادر متعددة منها التلفزيون ومنها المدرسة ومنها الأصدقاء ومنها المنشورات التي توزع ومنها الناس والأماكن التي يقصد. وإنّك لتلاحظ ذلك عندما نُدخله عالماً غريباً عليه كيف يكثر من الأسئلة عنه.. إذن الأطفال يقرأون ولكن لا يقرأون مثلنا، ولا يختصرون قراءتهم في صفحات كتاب كما نظن بل يدفعهم حب الاستطلاع الدائم لأن يسألوا، يكتشفوا ويعرفوا..

أسوق هذا الكلام بناءً على دراسة قام بها باحث فرنسي يدعى كريستيان بوديلو بعدما تفحص مطالعات 1200 طفل بدقة، وشرح أذواقهم وحلل علاقتهم بالشأن المكتوب ليخلص إلى استنتاجات مفادها أنّ الأطفال والمراهقين يطالعون ولكن ليس كالسابق، لأنّننا نشهد تحولاً في شكل المطالعة ووسيلتها "إنّها أصبحت – يقول هذا الباحث – نشاطاً من نشاطات أخرى ويمكن أن تزوّد بالحلم والمعرفة والمتعة ولكن ليس أفضل من التلفزيون والسينما.." ليست المرة الأولى التي يحصل فيها تغير في نموذج المطالعة.. لقد انتقل أجدادنا وآباؤنا من المطالعة الشفهية إلى المطالعة المرئية، كان المكتوب في السابق كنزٌ يجب الحفاظ عليه لكن اليوم تغير مفهوم المطالعة من تناول كتاب ممتع إلى شغف المتابعة والتحصيل عبر الشاشة مع الإنترنت، كأنّنا نشهد تغيراً في أسلوب القراءة أكثر مما نشهد أزمة قراءة.

وفي الوقت الذي يكره بعض الأطفال مطالعة الكتب التي لها طابع كتب الأطفال فإنّ منهم مَن يتطاول على مواضيع أكبر منه مدفوعاً برغبة الاقتران بعالم الكبار، لهذا نلاحظ كيف أنّ بعضهم لا يحب إلّا الكُتب الوثائقية أو النصوص التقنية وحتى أنّ بعضهم يهتم بقراءة الصحف.. كذلك تبيّن أنّ الطفل الذي يرغمه أهله على المطالعة باستمرار يتكون لديه رفض لها. من الأجدى تركه بلا ضغوط لأن رفضه قد يكون مرحلياً يعود بعدها إلى القراءة.. ومما يجب أن يعيه الأهل أنّ المطالعة قبل أن تكون كتاباً يُشترى وتخصيص وقت لقراءته هي متعة ننشدها في لحظات يومنا، فإذا كانوا هم أنفسهم يقرأون ويتابعون فمن المحتمل أن يحمل الأطفال هذا الولع.

يقرر أكثر من باحث تربوي واجتماعي أهمية المطالعة في عالم الأطفال فهو يجني منها متعة لا تضاهيها متع، ولا يتوقف دورها عند إمداد الطفل بالمتعة والتسلية بل هي عامل مهم في مهارات نفسية وتأمين حاجات مختلفة كـ:

- الحاجة إلى تحقيق الذات: وخاصة من خلال تماهيه بأبطال الروايات التي يقرأ والقيم التي تمثل، حيث تلعب دوراً مؤثراً في تكوين ذاته. ثمّة عبارة مكتوبة على واجهة مبنى مكتبة جامعة كولورادو في الولايات المتحدة الأمريكية تقول: "إنّ الذي لا يعلم شيئاً إلّا عن جيله عاش طفلاً..".

- الحاجة إلى المعرفة والفهم: أي أنّه يستطيع عمل شيء وهذا الشيء ذو قيمة له ولغيره، فالمطالعة تمد بالمعرفة والمعرفة مكوّنة من شخصية المرء.. قرأتُ على مدخل مكتبة عامة في إحدى مدن مقاطعة ألبرتا الكندية عبارة حكيمة تقول: "المكتبة هي معبد العلم، يأخذ الناس نحو الحرِّية أكثر مما فعلت الحروب عبر التاريخ".

- الحاجة إلى الانتماء: طفل هذا العصر يعيش التكنولوجيا المتطورة، والاكتشافات ولعلّ المطالعة تهيئ له الدرب نحو تحديد موقفه من عالم هذه الاكتشافات والتطورات التقنية الحديثة، وتوقظ لديه الخيال العلمي والفكر الخلّاق والملاحظة الواعية على الربط بين الظواهر والتنبؤ بحركتها.

أظهرت دراسة حديثة (2008) أنّ للقراءة فائدة صحّية تعرف بـ"biblitheraby" عندما تساعد على تنشيط عمل المنطقة الأمامية من الدماغ، حيث تبيّن أنّ هذه المنطقة هي المسؤولة عن إبعاد عوارض الاكتئاب، وأنّ عملها في فعل القراءة أشبه بالنشاط الرياضي لليد والرجل في طرد السآمة عن النفس. فأنت عندما تقرأ أو تطالع، لديك الفرصة للمشاركة مع آخرين بحديث/ بحوار/ في بناء موضوع للمناقشة... في أن تغذّي روحك وتُغني فكرك.. إنّها تبطىء وتيرة الحياة المتسارعة وكثرة المشاغل بفترة استرخاء وهدوء تقدمها لك "جلسة مع كتاب":

في جلسة هادئة مع كتاب:

- قد تجد حلاً لمشكلة تشغلك.

- قد تكتسب معرفة وخبرة بموضوع جديد.

- قد تختبر عوالم أخرى لا تعرف عنها شيئاً.

- قد تساعدك على اتّخاذ قرار.

وحول هذه المسألة يرى عالم النفس الكندي "روبن راسيل" بأنّ معظم الناس يرغبون بأن يكونوا مميزين، ونقول لهم بأنّ القراءة مع أطفالك مساءً تجعلك إنساناً مميزاً.. فأنت عندما تقرأ. يتابع راسيل – مع الأطفال تقضي بعضاً من وقتك معهم، تبني لهم المدارك التي تريد، تنشئ فيهم عماد المستقبل الذي يطمحون. ثمّ ينصح – وكأخصائي نفسي – بالقول "إذا كنت لا تقرأ كثيراً الآن، فحاول ذلك.. ستجد نفسك قد اكتسبت ليس معرفةً وحسب وإنما عالماً اجتماعياً جديداً وصحّة ذهنية جيِّدة".

أثناء وجودي في ولاية ألبرتا (كندا) انشغلّت المؤسسات الأهلية والإعلامية بحملة إعلانية استمرت لأسابيع تحث الأهل والأطفال والأفراد المجتمع المدني على القراءة والمطالعة حيث كان شعار الحملة: (Raise a Reader) وقد أرفق هذا الشعار المنشور في الصحف المحلية بكلمات تقول:

"ملايين الكنديين اليوم لديهم صعوبة في قراءة خريطة أو استيعاب فكرة تقال لهم".

فأمّن الوسيلة لهم بالمساعدة على تطوير مهارة القراءة لديهم.. فهي أفضل استثمار في مجتمعنا ولمستقبلنا..

فلنلتق نهار الأربعاء (24/ سبتمبر) في كلّ المدارس والمكتبات العامة والساحات والحدائق لكي نقرأ لأطفالنا.. ومع أطفالنا".

فكان أن تطوع لهذه الدعوة آلاف رجال الأعمال والمحامين والعاملين في مختلف القطاعات كي يكونوا واحداً ممن يقرأ قصة لمجموعة من الأطفال أو لمجموعة من المسنين الشغوفين بالمعرفة ولا يتسنى لهم، وما لفت نظري في هذه الحملة إعلان تلفزيوني يُظهر رجلاً في سريره قبل النوم وهو يطالع كتاباً على ضوء خافت.. ثمّ تمر كلمات أكبر على صفحة بيضاء كتب عليها: تعادل ليتر ماء في الصحّة... فتذكرت عندها الأديب اللبناني مارون عبود لقوله: "إذا كانت أجسادنا تحتاج إلى بعض حبوب الفيتامين أفلا نحتاج يومياً إلى القراءة لنداوي ما في عقولنا من فقر دم؟".

ما كانت هذه الحملة إلّا بعد أن أظهرت الإحصاءات تدنّي نسبة القراءة في مستواها العالمي.. حيث لم يعد هناك من اهتمام إزاء غزو "الشاشة" المتمادي في مختلف أوجه حياتنا، ولعلّ الخطوات التالية لا بأس بها من بداية:

1-     لنخصص ميزانية من أجل شراء كتاب شهرياً يناسب ميولنا.

2-     وضع الكتاب في مكان تواجدنا بشكل دائم لنقرأ منه كلما سنحت لنا الفرصة.

3-     لكن الكتاب رفيقنا في لحظات الانتظار: في المطارات أو في عيادات الأطباء أو خلال اللحظات التي تسبق خروج الأبناء من مدارسهم لنقلهم، أو حتى في زحمة السير فلا بأس من قراءة بعض الصفحات. بدلاً من تضييع الوقت في "التأفف" من الانتظار.

4-     لنقرأ أثناء تنزه الأطفال ولعبهم في الحدائق أو الملاهي ريثما ينتهوا.

5-     لنقرأ ونتصفح قبل النوم.

لنخصص وقتاً من يومنا للقراءة والاطلاع سواء بمفردنا أو مع أطفالنا ومع رفاق أولادنا، لنجعله إحدى اهتماماتنا وضمن برناجنا اليومي حتى لو كنا بانتظار ضيف سيأتي لزيارتنا.

قد تكون البداية دائماً صعبة ولكن المحاولة المتأنية يجب أن تستمر نحو حث الأطفال على المطالعة، ولا بأس هنا من اغتنام مناسبات ليكون الكتاب الجميل والملون هديته فيها، كما أنّ مكتبة صغيرة في غرفته تجعل عالم الكُتب تحت ناظريه وعالم المتعة قريباً منه، لأنّ الطفل يرغب عادة في اكتشاف أقرب الأشياء إليه. وكلّ طفل يخصص ثلاث ساعات ونصف إلى أربع ساعات أسبوعياً على الأقل لقراءة الكُتب والمجلات والصحف سيبلغ على الأرجح الآلية في القراءة، وهذا الأمر يمكن أن يتحقق في البيت إذا خصصت أمسية واحدة في الأسبوع للمطالعة مقابل ما يصرفه الولد أسبوعياً في مشاهدة التلفزيون. (قدرتها بعض الإحصاءات بـ25 ساعة).

 

المصدر: كتاب كيف يمكن أن تعيش الحياة ببساطة لـ د. مأمون طربيه

ارسال التعليق

Top