• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تعـلم بـلا حـدود

تعـلم بـلا حـدود

    ◄إنّ أوّل ما نزل من القرآن الكريم كان أمراً بالقراءة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 1-5). وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ هذا الدين دين يعرف قدر العلم، ويطلب من أهله أن يقدِّروه، ويهتموا به حقّ الاهتمام.

    إنّ الإنسان بطبعه كائن متسائل، وقد زوده الخالق – جلّ وعلا – بقدر من الفضول وحب الاستكشاف؛ مما يدفعه دائماً إلى أن يعرف المزيد.

    كان العلم في القديم يقوم على النقل. فكان التعلم والتعليم، عبارة عن أفعال مقترنة بالزمان، حيث يتمَّان وفق تتابع زمني. وحين يموت العالم؛ فمن الممكن أن يذهب معه أفضل ما يعرف! وحين صار للغات أبجديات، وتمتع الإنسان بنعمة الكتابة، انتقلت المعرفة من حيز الزمان إلى حيز المكان، وصار الحفظ والتوثيق والاسترجاع والنشر، مما هو متاح على أوسع نطاق. وبذلك أمكن للناس أن يطوّروا معارفهم على نحو مدهش، وصار للبشرية بذلك تاريخ جديد.

    إنّ (العلم) معارف منظمة، تراكمت عبر مساعٍ موصولة على مدار التاريخ، ومن خلال تلك المعارف، وبها تمرّن العقل، وتغذى وتثقف ونضج، ومع نضوجه يتوق إلى المزيد من العلم؛ طلبه للمزيد من المعرفة هو دواؤه وترياقه في آنٍ واحد!.

    إنّ الذي يدعو العقل إلى المزيد من التعلّم، هو العلم نفسه؛ إذ إنّه كلما زادت المعرفة، اتسعت منطقة المجهول، وهكذا تزداد الأشياء المهجولة بازدياد الأشياء المعروفة.

    التقدم نفسه يعمل على زيادة حاجة الإنسان الشديدة إلى المعرفة؛ حيث إنّ التوغل في حقول المعرفة يتيح إمكانات ومجالات جديدة، ويولِّد دوافع جديدة للتقدّم الأوسع نطاقاً.

    لم يكن لدى الناس قديماً إحساس قوي بارتباط كسب الرزق بمدى ما يحصلونه من علم، ولم يكن السواد الأعظم من العلماء من ذوي الثراء، أو السعة في العيش، لكن الأمر اختلف، وصار الأمي لا يصلح لأي شيء، حيث لم يبق على وجه الأرض مهنة يمكن أن يقوم بها غير المتعلم. وارتباط طرق الكسب بمدى ما يتعلمه المرء من علوم، وبما يحسنه من مهارات، جعل بإمكان كلّ واحد أن يحسِّن وضعه من خلال التهامه للعلم، وصقله لخبراته ومهاراته. لكن في الوقت نفسه سيكون العلم أيضاً عاملاً في تقسيم أُمم الأرض، وتقسيم المجتمع الواحد إلى طبقات متفاوتة، يستغل القوي فيها الضعيف، على غرار ما كان الوضع في مجتمع (أثينا): عبيد وخدم ورعايا وسادة. وإنّ الأُمّة التي لا يحسِّن أبناؤها معارفهم على نحو مستمر، تؤهل نفسها لأن تكون تابعة للأُمم الأخرى، ومستغلّة لها على كلّ المستويات!

    إنّ الفجوة التي تفصل العالم الإسلامي عن العالم الصناعي، هي فجوة تربوية تعليمية في الأساس، ولكن لأنّه لا يمكن أن يتحقق أي شيء اليوم إلّا عن طريق تحسين مستوى المعرفة لدى الناس، انعكس التخلف العلمي على باقي جوانب الحياة. ونظرة عجلى على واقع العالم، تؤكد لنا ذلك على نحو دقيق؛ فالأُمم التي تخلصت من الأمية، والأُمم التي تمكنت من بناء مؤسسات علمية ممتازة، هي صاحبة الصوت الأعلى في السياسة والاقتصاد والصناعة والغلبة الحضارية عامة.

    والأُمم الصاعدة في مجالات الصناعة – مثل دول شرق آسيا – تحقق تقدماً تعليمياً مساوقاً لتقدمها الصناعي؛ مما يعني أنّ شيوع الأمية في المجتمعات الإسلامية في عهود التدهور الحضاري كان من العوامل الرئيسة في إنهاك الحضارة الإسلامية، وذهاب ريحها.

    إنّ شيوع الأمية في المجتمعات الإسلامية كان يمثل مشكلة حضارية، هي أكبر مما نظن، فحين أنشأ محمد علي باشا سجلات للضرائب في مصر، لم يجد مفراً – كما يقول الجبرتي – من كتابتها باللغة (العبرية) لأنّ أكثر الكتاب كانوا من اليهود!

    لا ريب في أنّ الصورة قد تحسنت اليوم، إذا نظرنا نظرة مطلقة، لكن حين نقارن حالنا بحال الأُمم الأخرى، وندرك بعناية المستوى المعرفي الذي يتطلبه العصر الحاضر، فإنّنا قد نصاب بالإحباط؛ حيث إنّ ما لدينا من معرفة وخبرات، لا يتمتع بقيمة مطلقة، وإنما بقيمة نسبية، وأهميته دائماً من قدرته على الصمود والمنافسة وحل المشكلات، وما يمتلكه من وزن في الساحات العالمية.

    إنّ روح العصر ومنطقه لم يتركا أمامنا سوى خيار واحد، هو أن نتعلم بلا حدود، ونعلم حدود، وندرب بلا حدود إذا ما أردنا للأجيال القادمة ألا تكون خدماً للأُمم الأخرى!

    

    - إضاءة:

 

    إنّ التعليم الممتاز والمتفوق مكلف، ولكن قليل الجودة منه أشد تكلفة على المدى البعيد.►

 

    المصدر: كتاب حول التربية والتعليم

ارسال التعليق

Top