• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دور الدين في سلامة البناء النفسي

أسرة البلاغ

دور الدين في سلامة البناء النفسي

◄(فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ...) (الشورى/ 15).

 

البحث عن السعادة:

إنّ قيمة الحياة بالنسبة للإنسان والإحساس بها، يتوقف على توفر حقيقة شعورية مهمة فيها، وهي الإحساس بالسعادة؛ والسعادة كقيمة حياتية عليا لا يمكن أن تدرك بالممارسات الحسية، ولا بتوفر القضايا المادية... فكم من أمة تملك من وسائل التطور المادي، ومن لوازم الإشباع الغريزي، ومع توفر اللذات الحسية المختلفة ما يفوق حاجة أفرادها ومع هذا فانا نجد نسبة كبيرة من أفرادها يعانون أقصى درجات الإحساس بالشقاء، ويعيشون أخطر أزمات التوتر النفسي الذي كثيراً ما يدفع إلى الإجرام والعدوان للتنفيس عن هذه العقدة، أو يبلغ هذا التوتر ذروته فيدفع صاحبه إلى الانتحار والتخلص من الحياة؛ كما هي الحالة عند إنسان الحضارة المادية الحديثة في أقطار أوروبا وأمريكا، وغيرها من بلدان العالم.

والسرّ في كلّ ذلك إنّ هذا الإنسان يعيش في فراغ نفسي قاتل، ويبحث عن حقيقة مجهولة لا يستطيع الاهتداء إليها؛ فيظل يعبث، ويتخبط، ويشعر بالمعاناة، والألم النفسي، على الرغم من اغراق نفسه واحساساته بعوامل اللذة، والاشباع المادي.

وتضج الحضارة المادية الحديثة من خطر هذه الأزمة النفسية الحادة، أزمة القلق والضياع، والشعور بالمعاناة، والبحث عن سعادة مجهولة؛ تعجز عن توفيرها كلّ وسائل الاشباع المادي والتعبير الحسي.

وتسجل معاهد الاحصاء في كلّ عام عشرات الآلاف من حوادث الانتحار والاجرام، وتمتلئ الشوارع، والساحات والحدائق بمئات الآلاف من الهائمين على وجوههم، والهاربين من جحيم الحياة التي يعانون منها، بشكل أفراد وجماعات، وتطلق على نفسها أسماء مختلفة؛ لأنّ الإنسان المرتكس في أوحال هذه الحضارة المادية الحديثة يحاول بكل جهوده الفرار من جحيم هذه الحياة، والتخلص منها؛ ولو بالهرب إلى عالم الخيال، والهلوسة بغية الاستمتاع بأطياف السعادة، ودفن عالم الواقع في مقبرة الوهم والخيال؛ باستخدام العقاقير والمخدرات الطبية؛ كالمورفين والهيرووين؛ أو الخمر وأمثالها من العقاقير والمخدرات.

ففقد الإنسان بذلك إحساسه بلذة الحياة، ووأد روح السعادة في مقبرة المادية الرهيبة... وحرم نفسه من كلّ سعادة ولذة روحية جميلة... – حرمها حتى من متعة النوم والاستغراق في أحضان الكرى الوديع –، فصار الملايين من سكان المدن الكبرى في العالم، لا يستطيعون النوم إلّا بالأقراص والعقاقير المنومة... وغدت عشرات الملايين من البشر تعاني من أمراض الأعصاب والأمراض النفسية المختلفة، إلى درجة أصبحت المصحات النفسية توازي بعددها المصحات الجسمية في كثير من أقطار العالم، إذا لم تستطيع وسائل الإشباع المادي – رغم توفرها – توفير السعادة والاستقرار النفسي للإنسان.. بل على العكس من ذلك؛ فالاحصائيات المختلفة تؤكد أن أزمة الإنسان النفسية، ونتائجها الاجتماعية، تتعقد وتزداد يوماً بعد يوم؛ كلما ازدادت وتعقدت وسائل الإشباع المادي، والتعبير الحسي المجرد عن كل قيمة روحية وأخلاقية.

فما هي السعادة إذن...؟

وأين يجدها الإنسان...؟

ولخطورة هذا الجواب الضائع، وأهمية دوره في حياة الإنسان اشتركت أطراف كثيرة في البحث عنه، ووضع الأفكار الأساسية في صياغته... كالفلاسفة، والأطباء، وعلماء النفس، علماء الأخلاق، والاجتماع، وغيرهم ممن يعنيهم أمر الإجابة على هذا السؤال؛ ولكن كلّ تلك الجهود والمساعي باءت بالفشل، وعجزت جميعها عن أن تصنع للإنسان صورة السعادة على هذه الأرض...

إلّا أنّ الدراسات والأبحاث والإحصائيات المختلفة التي توصل إليها هذا العدد من المشتغلين في مجال الدراسات الإنسانية والحضارية تؤكد جميعها أنّ السعادة لا تأتي عن طريق الإشباع المادي، ووجودها ليس قضية مادية؛ بل هي (شعور بالرضى والتطابق مع اتجاه الفطرة الخيّرة) أو هي (عبارة عن احساس النفس بالرضى والطمأنينة).

وإذن ليس بامكان كلّ الوسائل والممارسات المادية من الطعام، والشراب، والجنس، والثروة، واللهو... إلخ، أن توفر هذا الحلم الجميل، أو تظفر بهذه الضالة المنشودة للنفس الإنسانية؛ فليس بامكان كلّ هذه اللذات أن تمنح الإنسان سعادته وشعوره بالغبطة والسرور؛ لأنّ النفس الإنسانية تتفاعل مع كل هذه المتع، وعوامل اللذة تفاعلاً عابراً مع احساس ظاهر عائم في حياة الإنسان، ويبقى شعوره النفسي العميق، بحثه الضائع عن السعادة يدور في فراغ بائس، ويهيم في عالم الخواء والشقاء والمروع، وليس بمقدور شيء غير الإيمان بالله أن يوفر له السعادة، ويشعره بالرضى والغبطة والسرور، ويطابق بين نوازعه الفطرية، وبين ممارساته وشعوره بالسعادة.

وكم كان رائعاً تصوير الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) لمفهوم السعادة، حين قال...

"انّ الله تعالى بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط".

فالهم، والحزن، والشقاء، عقوبة نفسية يفرضها الضمير بشكل لا شعوري على الإنسان؛ كنتيجة طبيعية لخواء النفس، وخلوها من الإيمان بالله؛ الذي يشعر النفس بالطمأنينة، والراحة والاستقرار، وصدق الله القائل:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد/ 29).

 

ثمرة الإيمان:

وهكذا يكون الإيمان بالله، والتوجه إليه، وامتلاء النفس بحبه، ورضاها بالحياة والتوافق مع إرادته هو الطريق إلى توفير السعادة، والشعور بالطمأنينة، وامتلاء الوجدان بالحب والإحساس بجمال الحياة، واحداث حالة من الانسجام بين أحاسيس الإنسان الباطنية وبين أهدافه التي يسعى نحوها في الحياة.

ومن هنا كان الإيمان بالله حاجة نفسية فطرية، لا تغنى رحلة الإنسان إلّا بها... هذا الإنسان الباحث عن السعادة والشعور بالأمن وبالرضى، المتلهف لانهاء عذاب النفس، واقتلاع جذور الخوف، والقلق، والتحرر منهما... فالخوف كما يقول علماء النفس... الخوف من الخطر... والخوف من المجهول... والخوف من الضياع... والخوف من الهجر والترك... والخوف من الحاجة والفقر... والخوف من الفناء وضياع الحياة، وغير ذلك من أنواع الخوف هو سر مأساة الإنسان ومصدر شقائه.

وصدق الله العظيم حيث يقول:

(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام/ 80-82).

وكم كان دقيقاً، وعميقاً قول الإمام عليّ (ع) وهو يعبر عن هذه الحقيقة، ويصوغها قانوناً وقاعدة نفسية للحياة حين قال:

"لا حياة لخائف".

فالشعور بالأمن والطمأنينة والاستقرار إذاً هو أوّل اشعاعات الإيمان في النفس... والسعادة والرضا بالحياة هي أولى ثمرات هذه المشاعر التي يزرعها الدين في النفس الإنسانية، وتنضجها نفحات الإيمان في وجدان الفرد.

وهكذا يوفر الإسلام العوامل الأساسية في صنع السعادة عندما يوفر للفرد:

1-   الأمن الباطن والسلام الاجتماعي.. قال تعالى:

(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة/ 16).

2-   تنمية ملكات الخير والتطابق مع مبدأ الكمال والاتجاه إلى الله مصدر هذا الكمال ومنبعه.

3-   التدقيق بين المحيط ونوازع الفطرة الذاتية، بالحفاظ على نظام الفطرة والتطابق معها.

لذا كان سعي الإنسان متواتراً لتوفير الأمن والطمأنينة، والإحساس بالرضى والقبول، واحداث توافق وانسجام نفسي وتشريعي لإيجاد التطابق بين صورة الذات الباطنية للإنسان المؤمن، وبين صيغة الحياة والمجتمع الخارجية.

ولذا أيضاً كان اهتمام الإسلام وسعيه حثيثاً في الحفاظ على نظام الفطرة، وحمايتها من الانحراف، وتوجيهها وفق منهج الله المستقيم، ليحقق للإنسان السعادة، ويحل مشكلته، وأزمته النفسية والأخلاقية... مبتدئاً بتطهيره لباطن الذات، وتنقيتها من نوازع الشر والعدوان، وتنميته لملكات الخير والاستقامة فيها.. كالحب والعطف والحنان والعدل والايثار والطمأنينة والرضا والتفاؤل والصدق والأمانة... إلخ، إلى جانب اهتمامه باقتلاع عوامل الاتجاه السلبي كالحقد، والأنانية، والخوف واليأس، والعدوان والجبن والخداع...

كل ذلك من أجل اقرار موازنة الحركة النفسية، والحفاظ على سلامة البناء النفسي والأخلاقي الذي هو منطلق التحرك السلوكي، وقوة الدفع الحضاري... فصيغة السلوك والحضارة التي يجسدها الإنسان هي صورة الوضع والحركة النفسية لديه... فكل حركة، ولبنة في بناء الحضارة والحياة، هي تعبير عن محتوى النفس، ونوازع الذات العميقة، وملكاتها الأخلاقية الراسخة، وصدق الله القائل:

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاّ) (الإسراء/ 84).► 

ارسال التعليق

Top